شذرات من كتاب الوسطية في منهج الأدب الإسلامي

الوسطية منهج أصيل في الإسلام، وهي تشمل جميع أنشطة الحياة ومجالاتها المختلفة. إنها من جوهر الدين، والتمسك بها في كل شأن من الشؤون- يعني التمسك الصحيح بالدين، والتزام ما أوجبه الله تعالى على عباده من غير زيادة ولا نقصان.

إن الوسطية تعني التزام جوهر الدين، والحقيقة الربانية؛ لأن كل خروج عليها يعني تضييع فضيلة من الفضائل، فهي العدالة والخيرية، وهي المركز الأقوى بين الطرفين، كل منهما ضعيف متهافت، بل كل منهما نقيصة أو رذيلة من الرذائل، وهذان الطرفان هما الإفراط والتفريط، أو المبالغة والتقصير، أو التزيد والإضاعة.

وهذه الوسطية راسخة أصيلة في التصور الإسلامي من خلال نصوص وأقوال لا حصر لها، وهي تحمل دائما دلالة إيجابية، سواء في اللغة أو الشرع؛ إذ تعني الاعتدال والقصد والتوازن، وهي تقف - لكل فضيلة – بين دلالتين سلبيتين هما الإفراط والتفريط.

يقول الدكتور محمد عمارة: «الوسطية في الإسلام جامعة، أي إنها ليست موقفا مغايرا للطرفين، وإنما جامعة لعناصر الحق والعدل والخير والصواب منها وفيها، فهي موقف ثالث بين طرفي الإفراط والتفريط، لكنه مؤلف مما يمكن تأليفه من عناصر الطرفين.. فالكرم وسط بين الشح والإسراف، لكنه جامع لعطاء المسرف ولتدبير الشحيح، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، ولكنها جامعة لإقدام المتهور ولحسابات الجبان، والإنفاق الإسلامي ووسط بين غل اليد وبين بسطها كل البسط، ولكنه جامع لعناصر الاعتدال والتوازن من الحدين والطرفين...».(1)

وسننظر في هذه الدلالة الإيجابية لمصطلح «الوسطية» في كل من اللغة، والقرآن الكريم، والحديث الشريف، وأقوال بعض الصحابة والفقهاء، وأقوال بعض الأدباء والنقاد.

1- الوسطية في اللغة؛

- وسط الشيء: ما بين طرفيه..، قال الشاعر الراجز:

إذا رحلت فاجعلوني وسطا كبير لا أطيق العنَّدا

أي اجعلوني وسطا لكم ترفقون بي وتحفظونني، فإني أخاف إذا كنت وحدي متقدما لكم أو متأخرا عنكم أن تفرط دابتي أو ناقتي فتصرعني.

- وأوسط الشيء أفضله وخياره، کوسط المرعى خير من طرفيه، وكوسط الدابة للركوب خير من طرفيها لتمكن الراكب على نحو ما مر في قول الراجز.

- والوسط هو الخيار من الشيء؛ لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل، ولذلك فإن الوسط منطقة محمية.

- والوسط مكان فخر واعتزاز. وقد افتخر الشاعر غيلان بن حريث بأنه وسط قومه أي صار بأوسطهم، أو صار فيهم وسطا.

- وفلان وسيط في قومه إذا كان أوسطهم نسبا وأرفعهم مجدا. وفلان وسيط الدار والحسب في قومه. قال العرجي:

كأني لم أكن فيهم وسيطا ولم تك نسبتي في آل عمر

وقيل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: إنه كان من أوسط قومه، أي خيارهم. وتصف الفاضل النسب بأنه من أوسط قومه، وهو على سبيل التمثيل، فالعرب تمثل القبيلة بالوادي والقاع، وما أشبهه، فخير الوادي وسطه، فيقال: هذا من وسط قومه، ومن وسط الوادي، وسرر الوادي وسرارته وسره، ومكانه كله من خير مكان فيه.

- وواسطة القلادة: الدرة في وسطها، وهي أنفس خرزها. وفي الصحاح: واسطة القلادة: الجوهر الذي في وسطها، وهو أجودها.

وقال زهير يمدح قوما بأنهم وسط:

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

وقال آخر:

أنتم أوسط حي علموا بصغير الأمر أو إحدى الكبر

وقال آخر:

لا تذهبن في الأمور فرطا

لا تسألن إن سألت شططا

وكن من الناس جميعا وسطا

- ووسط الوادي: خير موضع فيه، وأكثره کلأً.(2)

وقال أعرابي يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم وأكرم الناس أما برةً وأبا

٢- الوسطية في القرآن الكريم:

وصف القرآن الكريم الأمة المحمدية بأنها أمة وسط، ولذلك جعلها شاهدة على الأمم جميعها؛ إذ هي أمة قد حوت جميع مكارم من تقدمها، واجتنبت ما وقعت فيه هذه الأمم من إفراط أو تفريط، فاستحقت من أجل ذلك الإشادة والتعظيم، فتقبلت شهادتها على الأمم، بأن أنبياءها قد أبلغتها ما أمرت بإبلاغه من الرسالات.. قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة:143).

قال الطبري: «الوسط في كلام العرب الخيار.. وأرى أن الله تعالى وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلوا في الترهيب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه. ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها...»(3).

وقال القرطبي عن هذه الآية: «كما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطاء أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الناس. والوسط العدل. وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها.

وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى: (أمة وسطا) أي عدلا. قال: حديث حسن صحيح(4).

وأشار القرآن الكريم إلى أحد أصحاب الجنة، الذي هو أعدلهم وأصوبهم رأيا، وكان هو «أوسطهم». قال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} (القلم:۲۸).. فقد كان أعدلهم قولا، كما كان أسرع القوم فزعا، وأحسنهم رجعة.

قال الطبري: «أوسطهم يعني أعدلهم. وعن ابن عباس: أوسطهم أعدلهم. ويقال: قال خيرهم...» (5). وقال القرطبي: «أوسطهم، أي أمثلهم، وأعدلهم، وأعقلهم...)(6).

وأورد السيوطي عند كلامه على «المثل الكامن» سؤالا وجه إلى الحسين بن الفضيل، وهو: «هل تجد في كتاب الله خير الأمور أوساطها؟» قال: نعم؛ في أربعة مواطن:

- قوله تعالى: {لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ} (البقرة:18).

- وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} (الفرقان:۹۷).

- وقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} (الإسراء:۲۹).

- وقوله: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا} (الإسراء:۱۱۰)(7).

وقال القرطبي عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}: «من أنفق في غير طاعة فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة الله عز وجل فهو الإقتار، ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام، فأدب الشرع ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو ذلك، وألا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال، ويفرط في الشح. والحسن في ذلك هو القوام، أي العدل...»(8).

وأورد القرطبي قول أبي عبيدة عن الآية: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ...}: «لم يزيدوا على المعروف، ولم يبخلوا». وقال الشاعر:

ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم(9)

والغلو والتطرف هما عكس الوسطية، وهما مذمومان كالتفريط والتضييع، وقد نهى القرآن الكريم عن الغلو في الدين، على نحو ما فعل النصارى واليهود في دينهم.. قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (النساء: ۱۷۰).

قال الطبري: يا أهل الإنجيل من النصارى، لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه، ولا تقولوا في عيسى غير الحق.. وأصل الغلو في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حده.. صاروا فريقين: فريق غلوا في الدين، فكان غلوهم فيه الشك فيه، والرغبة عنه، وفريق منهم قصروا عنه ففسقوا في أمر ربهم..."(10).

وقال القرطبي في تفسير الآية: «نهى عن الغلو، والغلو التجاوز في الحد، ومنه: غلا السعر يغلو غلاء.. ويعني بذلك -فيما ذكره المفسرون- غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربًّا، فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر...، وقال الشاعر:

ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقال آخر:

عليك بأوساط الأمور فإنها نجاة ولا تركب ذلولًا ولا صعبا(11)

٣- الوسطية في الحديث:

وتبدو الإيجابية للوسط، والتوسط، والوسطية، في أقوال وأفعال كثيرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي فيها جميعا العدل والخير والفضيلة. أخرج أحمد قوله - عليه السلام-: «الوسط العدل، جعلناكم أمة وسطًا»(12)، ومنه قوله، كما روى أبو هريرة: «خير الأمور أوساطها»(13)

وهو عليه السلام يدعو أمته أن يسألوا الله أعظم وأفضل مكان في الجنة وهو «الفردوس»، والفردوس وسط الجنة، ويقول صلى الله عليه وسلم:«سلوه الفردوس، فإنه وسط الجنة، أو أوسط الجنة».(14) وأورد ابن الأثير حديث: «خير الأمور أوساطها»، ثم قال: «كل خصلة محمودة فلها طرفان مذمومان، فإن السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كل وصف مذموم، وتجنبه بالتعري منه والبعد عنه، فكلما ازداد منه بعدا ازداد منه تعريا. وأبعد الجهات والمقادير والمعاني من كل طرفين وسطهما، وهو غاية البعد عنهما، فإن كان في الوسط فقد بعد عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان».

ومنه حديث رفيقة: «نظروا رجلا وسيطًا»: أي حسيبًا في قومه، ومنه سميت الصلاة الوسطى؛ لأنها أفضل الصلاة وأعظمها أجرا، ولذلك خصت بالمحافظة عليها؛ لأنها وسط بين صلاتي الليل وصلاتي النهار)(15).

وفي الحديث كذلك: «الوالد أوسط أبواب الجنة» أي خيرها.(16) وقد دعا النبي إلى التوسط وعدم المبالغة حتى في العبادة، من ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث أنس -رضي الله عنه- في قصة النفر الذين تقالُّوا عبادتهم، وأرادوا التزيد فيها، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا. فجاء إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(17).

ومن هذا النهي عن الغلو قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم؛ فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم»(18). كما قال عليه السلام: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»(19). وقال عليه السلام: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثا،(20). وقد بين الإمام النووي -رحمه الله- المقصود بالتنطع، فقال: «المتنطعون: أي المتعمقون المغالون المجاوزون في أقوالهم وأفعالهم».(21)

4 - الوسطية في أقوال بعض الصحابة والفقهاء:

قال أبو بكر -رضي الله عنه-: «إن الله بعث محمدًا والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، وقد رث حبله، وخَلَق عهده، فجمعهم صلى الله عليه وسلم وجعلهم الأمة الوسطى ونصرهم بمن اتبعهم»(22).

وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يدعو الله أن يرزقه القصد والاعتدال، فيقول: «اللهم إني شحيح فسخِّني في نوائب المعروف، قاصدا من غير سرف ولا تبذير....».

وكان علي -رضي الله عنه- يقول: «عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل»(23).

وقال أعرابي للحسن بن علي -رضي الله عنهما-: «علمني دينًا وسوطًا، فلا ذهبًا فروطًا، ولا ساقطًا سقوطًا». والوسوط هاهنا: المتوسط بين الغالي والتالي، ألا تراه قال: لا ذهبًا فروطًا؟ أي ليس ينال، وهو أحسن الأديان. قال الحسن للأعرابي: «خير الأمور أوساطها». قال ابن الأثير الله في هذا الحديث: كل خصلة محمودة فلها طرفان مذمومان(24).

وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة ما نفقتك؟ قال له عمر: الحسنة بين السيئتين، ثم تلا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}(25) (الفرقان: ۹۷). وقال مطرف بن عبد الله: «الحسنة بين سيئتين».(26)

وأورد الماوردي أن الزيادة في الأشياء لا تكون فضيلة؛ لأن الفضائل هیئات متوسطة بين فضيلتين ناقصتين، كما أن الخير متوسط بين رذيلتين، فما جاوز التوسط خرج على حد الفضيلة، وقد قالت الحكماء للإسكندر: أيها الملك! عليك بالاعتدال في كل الأمور، فإن الزيادة عيب، والنقصان عجز.(27)

وقال ابن القيم -رحمه الله-: «ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين؛ فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له؛ فالغالي فيه مضيع له؛ هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد...(28).

5- من ملامح الوسطية في أقوال بعض النقاد:

أشار بعض النقاد إلى ملامح وسطية في الأدب والنقد، وعدها من ملامح الجمال، ومن معايير الفنية والحسن، ومما يجعل الكلام أحظى بالقبول وأبعد من الاضطراب والخلل.

ومن أبرز نقاد العرب في هذا المجال ابن طباطبا العلوي الذي ربط الحسن بالوسطية والاعتدال فقال: «علة كل حسن ومقبول الاعتدال، كما أن علة كل قبيح منفي الاضطراب...(29)، وهو يرد قبول الفهم للشعر إلى وروده عليه باعتدال وقصد، يقول: عيار الشعر أن يورد على الفهم الثاقب، فما قبله واصطفاه فهو واف، وما مجه ونفاه فهو ناقص. والعلة في قبول الفهم الناقد للشعر الحسن الذي يرد عليه، ونفيه للقبيح منه، واهتزازه لما يقبله، وتكرهه لما ينفيه، أن كل حاسة من حوا البدن إنما تتقبل ما يتصل به مما طبعت له إذا كان وروده عليها ورودا لطيفا باعتدال لا جور فيه، وبموافقة لا مضادة فيها. (30)

ويكمن جمال الشعر عند ابن طباطبا في اعتدال أجزائه، وعدم التفريط بأي عنصر من عناصره لحساب عنصر آخر، يقول: «للشعر الموزون إيقاع يطرب الفهم لصوابه، وما يرد عليه من حسن تركيبه، واعتدال أجزائه، فإذا اجتمع للفهم -مع صحة وزن الشعرصحة المعنى، وعذوبة اللفظ، فصفا مسموعه ومعقوله من الكدر تم قبوله له، واشتماله عليه، وإن نقص جزء من أجزائه التي يكمل بها وهي اعتدال الوزن، وصواب المعنى، وحسن اللفظ- كان إنكار الفهم إياه على قدر نقصان أجزائه.(31) بل إن تعريف الجمال نفسه عند اللغويين قائم على وسطية تجمع بين حسن الظاهر وحسن الباطن، أي بين الخَلْق والخُلُق.

يقول الزبيدي في تاج العروس: «الجمال: الحسن، يكون في الخلق والخلق...(32)، وفي اللسان: قال ابن سيده: الجمال: مصدر الجميل، والجمال هو الحسن يكون في الفعل والخلق.(33) وقال ابن الأثير: «والجمال يقع في الصور والمعاني، ومنه الحديث: إن الله جميل يحب الجمال، أي حسن الأفعال، كامل الأوصاف.(34)

ويدخل في هذه الوسطية رؤية النقاد جمال العمل الأدبي في شكله ومضمونه، كما سيمر معنا في فصل اللفظ والمعنى. من ذلك مثلا قول الجاحظ: «الأسماء في معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح. اللفظ للمعنى بدن، والمعنى للفظ روح.(35) وكذلك قول ابن رشيق: «اللفظ جسم وروحه المعنى. وارتباطه به کارتباط الروح بالجسم، يضعف بضعفه، ويقوى بقوته.(36)

ومن هذه الوسطية النقدية حديث النقاد عن عمود الشعر، فقد ذكر المرزوقي ستة عناصر لا يقوم الشعر العربي إلا بها، وهي عناصر استوفت مقومات هذا الفن جميعها، من غير أن تفرط بأي ركن من أركانه، أو تنحاز إلى طرف دون طرف. فالشعر الحق عند العرب: وزن، وقافية، ومعنى، ولفظ، وخيال. ولكل واحد من هذه الأركان معايير استحسان واستقباح.

يقول المرزوقي عن الشعراء العرب: «كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف..، والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما، فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر، ولكل باب منها معيار.(37)

ومن هذه الوسطية: موقف بعض النقاد من قضية «الصدق والكذب»، أو قضية «الصدق والغلو»، وهو الصدق الفني المتعلق باستعمال الخيال، فذهب بعضهم إلى أن «أعذب الشعر أصدقه»، وذهب فريق إلى أن «أعذب الشعر أكذبه». وقد عرض المرزوقي الرأيين معًا، ثم ذكر رأيًا ثالثًا يتوسط بينهما، فيرى أن «أعذب الشعر أقصده».(38)

وأشاد الجاحظ بطبقة الكتاب في عصره؛ لدرايتهم بأساليب القول، وحسن اختيارهم الألفاظ، فهم يختارون من الألفاظ ما كان وسطًا بين الغرابة والسوقية.. يقول: «ما رأيت قومًا أنفذ طريقة في الأدب من هؤلاء الكتاب؛ فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعِّرًا وحشيًّا، ولا ساقطًا سوقيًّا.(39)

وإلى هذه الوسطية أشار الجرجاني كذلك، فدعا الشاعر المحدث إلى الأخذ بالسمح السهل، أو بما سماه «النمط الأوسط» في التعبير؛ وذلك لأن هذا الشاعر محاصر بأسلوب القدماء، ولغة السوق، أو اللغة الحضرية، التي بدأت تغزوها الركاكة، ويدخلها الضعف. وبين المقصود بالسمح السهل، وهو النمط الأوسط» فقال: «لا تظنن أني أريد بالسمح السهل الضعيف الركيك، ولا باللطيف الرشيق المخنث المؤنث، بل أريد النمط الأوسط، وهو ما ارتفع عن الساقط السوقي، وانحط عن البدوي الوحشي»(40).

وإلى هذا المنهج الوسط أشار علي بن خلف، فقال: «وينبغي لمن يؤثر التحقق بهذه الصناعة أن يسلك في الألفاظ مذهب التوسط الذي سلكه من تقدم من أهل صناعته؛ فإنه هو الاعتدال. ولا شيء أفضل من الاعتدال في الأمور التي يقع فيها تفاوت من جهتي الإفراط والتقصير. وقد علم أن المعتدل من كل شيء هو الأفضل والأحسن، ولا سيما في الكلام...»(41).

وعبر عبد الكريم النهشلي -وهو يتحدث عن الألفاظ- عن التوسط بما سماه «الحال بين الحالين»، وهو عنده وصف للتوليد والرقة في الكلام..، يقول: «وليس التوليد والرقة أن يكون الكلام رفیقا سفسافا، ولا باردا غثاء ولكنه حال بين الحالين(42).

وأشار ابن قتيبة إلى الاعتدال والتوسط في موضوع بناء القصيدة العربية التي كانت تقوم على تعدد الأغراض، فدعا إلى التناسب بين هذه الأغراض يقوله: «الشاعر الجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام؛ فلم يجعل واحدا منها أغلب على الشعر.(43)

والخلاصة: أن «الوسطية» منهج أصيل في التصور الإسلامي، بدت واضحة في اللغة، وفي القرآن الكريم، وفي الحديث الشريف، وفي أقوال الصحابة والعلماء وفي أقوال بعض النقاد. وهي تعني جمع الحق من هنا وهناك، واستيفاء كل خير موجود في جميع العناصر، وهي عندئذ «لیست تلفيقية، أو توفيقية تكتفي بدور الوسيط، ولكنها - كما يشرحها ابن الجوزية- تجري وراء الحق أين كان، ثم تجمع الحق من هنا وهناك، لتخرج في النهاية بموقف وسطي، فإذا كانت اليهودية والمثال أورده ابن الجوزية تمثل الجلال، وإذا كانت المسيحية تمثل الجمال؛ فإن الإسلام في النهاية يجمع بينهما ليخرج بما يسميه ابن الجوزية بـ«مقام الكمال»، ومقام الكمال هو الوسطية التي تجمع بين الفريقين في صيغة يرضى عنها الجميع ويحتكمون إليها، بحيث لو رجع إليها كل واحد منهما لوجد فيها الحقيقة التي يبتغيها).(44)

قد تلتقي «الوسطية أحيانًا ما يسميه بعضهم «التوفيقية، كأن نوفق بين ثنائيات من مثل: القديم والحديث، والعقل والعاطفة، والروح والجسد، أو العروبة والإسلام، أو ما شاكل ذلك.. يقول محمد جابر الأنصاري: كانت الفلسفة التوفيقية حجر الأساس فيما شهدته الحضارة العربية الإسلامية من فكر فلسفي وكلامي لدى المعتزلة ومدرسة الفلاسفة من الكندي إلى الفارابي، إلى ابن سينا، وابن طفيل، وابن رشد. ولو أسقطنا هذه الجهود التوفيقية من التراث الفكري للعرب والمسلمين لفقد هذا التراث أهم ركائزه وأخصب عطاءاته.(45)

ولكن هذا لا يعني أنه يمكن دائما التوفيق بين الثنائيات، أو أن كل توفيقية هي وسطية. إن هنالك ثنائيات كثيرة لا يمكن الجمع بينها، فلا يمكن الجمع بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والعدل والظلم، وما شاكل ذلك، لعدم وجود خير في أحد الطرفين يضم إلى خير الطرف الثاني ليتشكل منهما طرف ثالث يجمع الخيرين معًا، كما هو الشرط في الوسطية الإسلامية.

والوسطية في الأدب عندئذ هي عدم التفريط بقيمة أي عنصر من عناصر العمل الأدبي لحساب عنصر آخر، كأن نُعْنى بالشكل ونهمل المضمون أو العكس، أو أن نُعْنى بالعقل ونهمل العاطفة والخيال أو العكس، أو نُعْنى بالقديم ونهمل الحديث أو العكس، وما شابه ذلك مما وقعت فيه المذاهب الأدبية الغربية بشكل خاص، كما سنبين في هذه الدراسة.

إن هذه الوسطية الإسلامية في الأدب تسعى عندئذ إلى استثمار الحسن الموجود في كل عنصر من عناصر العمل الأدبي، وتوظيفه في الإبداع، ليكون هذا الإبداع خيرا إيجابيا، فيه المتعة والفائدة، والجمال والنفع، وما يخاطب العقل والحس والوجدان، وما يخاطب الروح والجسد، وما يخاطب بني البشر في جميع مستوياتهم. وإن الضابط لأي وسط يسعى للوصول إليه هو ألا يكون عندنا نحن -المسلمين- مصادما لأي مبدأ من مبادئ عقيدتنا، أو يقدم مزايدة لحساب هذا الطرف أو ذاك لتحقيق مآرب من نوع ما.

المصدر: مجلة الأدب الإسلامي، العدد 112

 

الهوامش:

من كتاب: الوسطية في منهج الأدب الإسلامي، تأليف د. وليد إبراهيم القصاب، سلسلة روافد، الإصدار: 57، الطبعة الأولى،، شوال 1433هـ/ سبتمبر 2012م، دولة الكويت،وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ص21-35.

1- مجلة المنهل، ص34، جمادى الأولى: 1418هـ = سبتمبر: ۱۹۹۷م.

2- اللسان: «وسط ». وانظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 2/154.

3- جامع البيان في تأويل آي القرآن، 2/6-7.

4- الجامع لأحكام القرآن، 2/153-154.

5- جامع البيان، 29/34.

6- الجامع لأحكام القرآن، 18/244.

7- الإتقان في علوم القرآن، ص1045.

8- الجامع لأحكام القرآن، 13/73.

9- السابق نفسه.

10- جامع البيان، 6/35.

11- الجامع لأحكام القرآن، 6/21.

12- أخرجه أحمد، 3/3.

13- جامع الأصول، 1/319، وانظر: اللسان (وسط).

14- أخرجه أحمدن 2/225، 239.

15- جامع الأصول، 1/319، والنهاية في غريب الحديث (وسط).

16- النهاية (وسط).

17- أخرجه البخاري في باب الترغيب في النكاح، برقم: 5063، ومسلم في باب استحباب النكاح، برقم: 1401.

18- رواه أبو داود، وصححه البخاري.

19- رواه البخاري.

20- رواه مسلم برقم: 2670.

21- شرح مسلم للنووي، 16/220.

22- کنز العمال، 5/64.

23- الجامع لأحكام القرآن،159/۲.

24- النهاية (وسط).

25- الجامع لأحكام القرآن، 13/73.

26- الجامع لأحكام القرآن، 6/21.

27- أدب الدنيا والدين، الماوردي.

28- مدارج السالكين، ص۸۷.

29- عيار الشعر، ص۲۱.

30- السابق، ص۲۰.

31- السابق، ص۲۱.

32- تاج العروس (جمل).

33- اللسان: (جمل).

34- السابق نفسه.

35- رسائل الجاحظ، ص۱.

36- العمدة، 1/124.

37- شرح حماسة أبي تمام للمرزوقي. وانظر كتابنا: قضية عمود الشعر في النقد العربي.

38- شرح حماسة أبي تمام، 1/9.

39- العقد الفريد، ابن عبد ربه، 4/179.

40- الوساطة بين المتنبي وخصومه: الجرجاني، ص24.

41- مواد البيان، علي بن خلف، تحقيق: حسين عبد اللطيف، منشورات جامعة الفاتح: ۱۹۸۲م، ص۱۰۸.

42- العمدة، ابن رشيق، 1/71.

43- الشعر والشعراء، ص۲۹.

44- الوسطية الإسلامية والمذاهب الأدبية، عبد الحميد إبراهيم، ص۱۱۲، مجلة الحرس الوطني، الرياض: شوال 1431هـ/ أبريل 1993م.

45- الفكر العربي وصراع الأضداد: محمد جابر الأنصاري، ص۱۷-۱۸.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين