فيتامين

ها هي الجرعة الثانية من جرعات "فيتامين الدافعية"، تلك التي تمثل الحصن النفسي، الحامي من السقوط، عند أول فشل..

إنها القوى الدافعة، والطاقات المحركة الباعثة على العمل والإنتاجية.

هي أن تقول لنفسك: لم أنجح بعد، بدل أن تقول: لقد فشلت!

وأن تملأك الرغبة في أن تسود وتقود، أو أن تكون في الحياة شيئًا مذكورًا، وعند الله مؤيدًا منصورًا..

الدافعية معناها أن تغامر في أمر مروم، ولا تقنع بما دون النجوم..

الدافعية هي الهمّ والهمة، والحزم والعزيمة، وأن تصبر في وجه المصاعب ﴿كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ (35)﴾ [الأحقاف]، وأن تعلم أن من شَرُفَتْ هِمّتُه ،فقد عَظُمت قيمته. ولا يوقظ هذه الهمة ،إلا شوق مقلق أو خوفٌ مفزع. وهل أعظم من الجنة يحركنا الشوق إليها؟! وهل أفظع من النار يدفعنا الخوف للهرب منها؟!، لأجل ذلك قيل تعجبًا من أحوال الناس الغافلين النائمين: "عجبت للجنةِ نام طالبها، وعجبتُ للنار نام هاربها!".

كنت قد وعدتكم بأني سأحكي لكم قصة واقعية، تجسّد لنا معنى الدافعية.

قصة ليست بعيدة عنا، وفيها عناصر النجاح، لمن بذل وتعنّى.

إننا -إخوتي أخواتي- ندور في هذا الملكوت، إمّا باحثين عن لذة أو هاربين من ألم، حياتنا جولات بين الفرص والتحديات، وبين الأهداف والتهديدات، بين النجاح والفشل، بين الواقع والأمل، ورغم صعوبة الرحلة، يظهر بيننا أشخاص تركوا بصمة في هذا العالم، أناس مثلنا أصرّوا على الإنحاز، أصابوا وأخطأؤوا، لكن دوافعهم كانت صادقة في كل الأحوال، فأثمرت نجاحًا مقدّرًا..

إنها قصة رجل، غيّر وأثّر وألهم حشود المتابعين، واستثار فيهم الدافعية والإنتاجية، وترك بصمته على كثيرين. توفي والده وهو صغير، فنشأ معتمدًا على نفسه، بعد مشاكل ذهبت بتجارة والده. كان ينبض طاقة منذ طفولته، فنزل ميدان العمل مبكرًا، وعمل نادلًا يحمل القهوة والشاي في الفنادق والمطاعم، لكن محيطه عاب عليه هذا العمل، إلا أن إيمانه: بالكفاح سبيلًا للفلاح، وبأن الجبل العظيم يتكون من أحجار صغيرة، وأن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة، كان صادقاً. فكان ذلك الإيمان الراسخ أعظم دوافعه، كما كان يردد دوماً.

كان أصدقاؤه يسخرون منه، كلما زاروا المطعم الذي يعمل فيه، لكن شيئًا ما داخله كان صلبًا ومتماسكًا، مانعاً من الاختراق. لم يسمح لأحد أن يفُتّ من عضده، وعلى الرغم من ظروفه الصعبة، إلا أنه حافظ على قوة طموحاته، وثقته بقدراته، وصفاء دوافعه.

هاجر إلى كندا، فصُدم بالجالية العربية تعاتبه وتؤنّبه على مجيئه، بحجة عدم وجود فرص له. بدأ العمل، وتقدم للوظيفة في أكثر من مكان، طُرد من أغلبها، عمل غاسل أطباق في مطبخ أحد الفنادق، ثم مساعدًا لحامل الطاولات، وحارسًا في المساء، تدرّج بشكل فاجأ من حوله.

اجتهد، وثابر، وعينه على الهدف، ودافعه إليه ثقته بربه، وبإمكاناته، حتى وصل إلى منصب مدير عام ذلك الفندق، ومن ثم مدير سلسة فنادق أخرى. وبعد 8 سنوات من الاجتهاد، حاز على جائزة أفضل مدير في قطاع الفنادق على مستوى أمريكا الشمالية.

استمر في التعلم والكسب معًا، لم تهدأ دوافعه للمزيد من النجاحات، مكّن نفسه علميًا في مجال التدريب والتطوير، وانطلق بعدها في رحلة شيقة متجولًا بين كندا وأمريكا، رافعًا راية التنمية البشرية.

أبدع، وأثار إبداع الآخرين ممن حضروا دوراته (وقد أكرمني الله بحضور إحداها منذ سنوات)، فانهالت عليه العروض من كل حدبٍ وصوب، فقد كان طاقة جبارة في التحفيز والتشجيع والإيجابية.

تحوّل بجهوده نحو العالم العربي، وراح ينشر ثقافة الأمل والاجتهاد والطموح، والتحفيز بالإيمان، والترغيب بالعمل الصالح، والمصير المفرح.

علّم ودرّب، وأطلق بإيمانه بدوافعه الأرضية والسماوية طاقات كثيرة، وتحققت على يديه أحلام كبيرة.

اسألوا إن شئتم، وابحثوا عن قصص نجاح، وراءها دوافع إيمانية وعلمية وعملية.. وهي كثيرة..وتلك إحداها: قصة الدكتور إبراهيم الفقي رحمه الله.

مثل أولئك يغادرون الحياة، لكن حكاية إنجازهم تبقى دافعاً حاضرًا، وشاهدًا قوياً على نجاح آخرين. فالقدوة عنصر مهم من عناصر الدافعية. ولسنا نعدِم في تاريخنا القديم والحديث أعلام الدافعية والهمة العالية، ليكونوا منارات هداية في زمن تفشت فيه أمراض الوهن والضعف والكسل والتراخي.

فهل من يعيدنا إلى الوصفة القرآنية التحفيزية، من أمثال قول الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا (55)﴾ [النور]،وقوله عز من قائل: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾ [النحل]، وقوله جل وعلا: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا (19)﴾ [الأحقاف]. وعن التشجيع والاندفاع لحيازة الرفعة: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (11)﴾ [المجادلة]، أو التعريف بالبدل المعنوي في قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)﴾ [الأنعام]؟!

إنّ الدافعية عندنا قد تختلف عن الدافعية عند غيرنا، فبينما أغلب دوافع كثيرين أرضية مادية، تكمن في دواخلنا دوافع روحانية إيمانية علوية، مستمدة من كتاب ربنا وهدي نبينا صلى الله عليه وسلم.

دفعةٌ قد توصل أحدنا إلى القمة، تلك دفعة بمثابة "دفقة مجزية"، ودفعة قد تهوي به إلى وادي الكسل والتراخي، وتلك دفعة بمثابة "دمغة مخزية"؛ فحيّ على الأولى، وحذار من الثانية.. والله المستعان..

في المقالة القادمة سأعرفكم ب "فيتامين دعابة". لا تستغربوا، وارسموا على وجوهكم ابتسامة لطيفة، ريثما نعود لنشرح أهمية هذا المنشط الفعال، في تجاوز أقسى الأحوال.. فلحديثنا بقية.. بإذن الله تعالى..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين