مقياس العظمة وأخلاق النبوّة

مقياس العظمة:

إنّ عظمة العظماء عامّة في جميع منابتها تقوم على أسس هي أسباب لها، كما ينبت جذع الشجرة من الجذور، وبحسب ما يكون في تلك الأسس والأسباب من كثرة وقوّة، تكون قيمة العظمة وشأنها وخلودها، كالجَذع تكون قوّته وضخامته، وثباته في وجه الرياح والأعاصير ورسوخه بقدر ما لجذوره من كثرةٍ تُغذّيه، وقوّةٍ تحميه.

هذا، وإنّ أهمّ الأسباب التي تكتمل بها العظمة الحقيقيّة أربعة:

1 ـ الصفات النفسيّة والأخلاق الشخصية التي يكون عليها الإنسان العظيم.

2 ـ عظمة المبادئ والأعمال التي أتى بها الإنسان العظيم، ودعا إليها.

3 ـ قوّته وكفايته ونجاحه في تنفيذ المبادئ التي أتى بها.

4 ـ امتداد تأثيره، والأثر الذي تركه من بعده، ومدى نجاحه في تكوين جيل قياديّ صالح، مؤهّل لحمل المسئوليّة، والمحافظة على المبادئ التي أتى بها، ومتابعة تنفيذها.

فهذه الجوانب الأربعة تعدّ المقياس الموضوعيّ الدقيق، للكشف عن عظمة الإنسان، ومعرفة مستواها:

فالجانب الأوّل: هو الجانب النفسيّ، ويشمل قوّة الإنسان النفسيّة وسواؤها، وما يكون عليه الإنسان من طبيعة النفس ومواهبها واستعدادها، وأخلاقها وصفاتها.

والثاني: المبادئ التي يدعو إليها، ومدى إقرارِ العقل الحصيف، أو مجافاته لها، وموقعها من المبادئ الأخرى: أهي مقتبسة منتحلة، أم مبتدعة أصيلة لا عهد للناس بها، أم مجدّدة مكمّلة.؟!

والثالث: واقع الإنسان، وما يكون عليه سلوكه، وما يتحقّق له من نجاح أو إخفاق، وهل يتطابق واقعه، وينسجم سلوكه مع ما يدعو إليه من مبادئ.؟

والرابع: الأثر الذي تركه الإنسان من بعده، ومدى نجاحه فيه، وانسجامه مع واقعه ومبادئه، وهو ما يشير إلى التغيير التاريخيّ والحضاريّ، الذي يتركه الإنسان من بعده.

وقد جمع الله هذه الأسباب الأربعة للعظمة الحقيقيّة في شخص النبيّ صلى الله عليه وسلم على أكمل صورة وأوفاها، وأجلّها وأعلاها، وتحقّقت ببعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم على أعلى مستوى، وأكمل ما عرفته البشريّة، كما تحقّقت في هذه الأسباب ثلاث صفات وخصائص: شمولها واستيفائها، وكمالها وسموّها، ووضعها في مواضعها، فقد شبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظاً من الله تعالى، بعيداً عن أدناس الجاهليّة وعاداتها، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأشدّهم حياءً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأسماهم في اتّزان شخصيّته، ونبل صفاته، وأبعدهم عن الفحش والبذاءة، حتّى أسموه في قومه: " الأمين "، قد حفظه الله تعالى من عادات الجاهليّة، وكان يصل الرحم، ويحمل ما يثقل كواهل الناس، ويكرم الضيف، ويعين الضعيف، ويأكل من كدّه وعمله، ويعفّ عمّا في أيدي الناس.. ومن ثمّ فقد وصف الله تعالى أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعظمة، بقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم}[القلم:4].

ولا توصف الأخلاق بالعظمة إذا اختلّ ركن من هذه الأركان الثلاثة، فالشجاعة صفة كريمة مرغوبة، ولكنّها عندما توضع في غير موضعها، أو تكون في الإنسان في أمر دون آخر، لا توصف بكمال ولا عظمة..

والرحمة صفة كريمة مرغوبة، ولكنّها عندما يعامل بها المجرم الآثم، أو الباغي الظالم لا تقلّ شناعة عن البغي والظلم، لأنّها في الحقيقة ممالأة له وتشجيع، إذ تكون سبباً لنشر الشرّ في الأرض.. وقس على ذلك بقيّة الأخلاق والصفات..

خصائص الأخلاق النبويّة، أو مظاهر عظمة الأخلاق النبويّة، وهي تتجلّى في النقاط التالية:

* أصالتها ورسوخها وثباتها، فهي موهوبة غير مكتسبة، دائمة مستمرّة.

* وكمالها، فلا خلق أعلى منها أو أتمّ.

* وشمولها وعمومها فلا تَقصُر عن جانب، وتزيد في آخر، ولا تكون مع القريب غيرها مع البعيد.

* واتّزانها، فهي تسلك في كلّ مقام بما يناسبه، فلا تميل إلى جانبٍ على حساب آخر.

* وسموّها، فلا تحكمها ردّة الفعل، ولا الأغراض البشريّة الدنيويّة، أو المقاصد المسفّة، وإنّما غرضها الأوّل والأخير ابتغاء وجه الله تعالى، ونيل مرضاته، بتبليغ دعوته، ونصرة دينه، وهداية الخلق إلى صراطه المستقيم.

إنّها أخلاق ربّانيّة، حكيمة كريمة، عقلانيّة متّزنة، شاملة كاملة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين