رجال ومواقف: أشهليان يوم حمراء الأسد بعد أحد

هما رَجلان أنصاريان من بني عبد الأشهل، شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أحد، وعادا بعدها جريحين إلى المدينة المنورة. خرج الرجلان للجهاد في سبيل الله، والذبِّ دون دِينه أن تطغى عليه العُصبة المشركة التي جاءت بجيوشها، وعسكرت عند جبل أحد يحدوها حقدٌ دفين لِما أصابها يومَ بدر إذ تركت سادتها تفتكُ بهم سيوفُ المسلمين، ومضت تولّي الأدبار لا تلوي على شيء.

جاءت العُصبة المشركة وهي تَأمَلُ أن تُنزِلَ بالمسلمين ضربة قاضية، وترجو أن تَقتُلَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وتعاهَدَ أربعة من فرسانها على قتلِه عليه الصلاة والسلام. واستنفر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم جُندَ الإسلام الصادقين من المهاجرين والأنصار، فخفّوا سِراعاً كراماً، سادةً نُجُباً، فرساناً غَطاريفَ، لا يبالون أوَقعوا على الموت أم وقعَ الموتُ عليهم.

وعند جبل أحد نظّم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم جيشَه الشجاعَ المؤمن.. ووزع المسؤوليات، ورتّب الخطط، وطلب من الجميع الصدق والصبر، وطاعة الأوامر بدِقة..

ونشبت المعركة ضارية شديدة، وكان النصرُ حليفَ المسلمين بادئ ذي بدء إذ التزموا أوامر الرسول القائد صلى الله عليه وسلم.. لكن بعضهم لم يلبث أن خالفَ تلك الأوامر فانقلب ميزان المعركة فإذا المسلمون مغلوبون.

شهدَ الرجلان الأنصاريان هذا كلّه.. ونظرا انتقال النصرِ من الجانب المسلم إلى الجانب الكافر.. وأبصرا الهزيمة الساحقة تكاد تحُلُّ بالمسلمين، لولا أن ثبتَ الرسولُ الكريم صلى الله عليه وسلم ثبات الجبال الرواسي.. وثبتت معه قِلّةٌ من المسلمين.. فاعتدل الميزانُ بعضَ الشيء، وعادَ الجيش المسلم يتجمعُ ويتلاقى، ونجا بذلك من هزيمة شنعاء كان من المحتمل أن تَحُلَّ به.

شهدَ الرجلان الأنصاريان هذا كلَّه.. وشهدا الجراح تشتدُّ عليهما وعلى الجيش المسلم، وعلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نفسِه، وشهدا عودة المسلمين إلى المدينة المنورة آخرَ النهار، وقد استبدَّ بهم الجَهْدُ والإعياء.

عاد الأنصاريان الأشهليّان إلى المدينة المنورة جريحين مرهَقيْن مكدودين.. بعد إعياءِ يومٍ طويل، وجراحاتٍ أثقلت خطاهما، وآذت مشيهما، وجعلتهما يبحثان أول وصولهما عن الراحةِ والعلاج.. وهكذا كان!.. فما وصل الرجلان دارَهما حتى استلقيا على الأرض.. واجتمع حولَهما الأهلُ والمحِبّون، يسهرون عليهما، ويُعْنَوْنَ بهما، ويقدمون لهما كل ما إليه يحتاجان.. ومضت سويعات الليل الساكنِ الساجي على المدينة المنورة، والمسلمون بجراحاتهم مشغولون، ومنهم الرجلان الأنصاريان الأشهليّان.

* * *

لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتأمل في نتائج معركة أحد.. فقد سقطت هيبة المسلمين العسكرية التي ارتفعت يومَ بدر، وتنفَّس المنافقون والمشركون واليهود الصُّعَداء، وأخذوا يتربّصون الشرّ بالمسلمين، والقبائلُ العربية المجاورة طمعت بالمسلمين، وقريشٌ قد تُعاوِدُ الهجومَ مجدداً على المدينة المنورة لاستئصال الإسلامِ نهائياً ما دامت الفرصةُ قد سنحت لها، والمسلمون أنفسُهم قد ضعفت روحُهم المعنوية بسبب الهزيمة. إذن لا بد من عمل حاسمٍ لتداركِ الموقف وإنقاذه.. وكان هذا العمل الحاسم غزوةً دعا إليها الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني لأحُد.. وهي غزوة حمراءِ الأسد التي غسلت جميع الآثار السلبية للذي جرى يومَ أحد.

أذَّنَ مؤذِّنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج في غزوةِ حمراء الأسد، وسمعَ المسلمون النداء، فسارعوا يستجيبون.. انطلقوا على الرغم مما بهم من مشقةٍ وعناء، وتعبٍ ونصَب، وجراح وكلومٍ لم تَجِفَّ دماؤها بعد، مما حلَّ بهم يومَ أمس في معركة أحُد.

وسمع الرجلان الأنصاريان الأشهليّان النداء.. وكُلٌّ منهما مُرهَقٌ مُتعَب، مكدودٌ جريح. تُرى أيَظَلّانِ في الفِراش رَهْنَ العلاج أم يخرُجان؟ كيف تفوتهما غزوةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنهما جريحان.. لكنهما ليسا الجريحين الوحيدين، فالجرحى سواهما كثير، بل إنه صلى الله عليه وسلم جريح.. لكنّه على رأس الخارجين للجهاد. إذن فهما خارجان على الرغم من التعبِ والنصَب، والجهدِ والإعياء والكلومِ والجراح. هما خارجان للجهاد.

لكن كيف يرحلان وما مِن دابةٍ عند أحدهما؟ تُرى أيكونُ ذلك عُذراً للقعود أم ماذا؟ لا.. إن الرجلين الجريحين عزَما على الخروج مشياً على الأقدامِ على الرغمِ من كل شيء. وهكذا كان.. خرجا ماشِيَيْنِ في طلبِ العدوِّ وهما جريحانِ ثقيلان.

قال أحد الرجلين لأخيه –فقد كانا أخوين–: أتَفوتُنا غزوةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ ما لنا من دابةٍ نركبُها، وما مِنّا إلا جريحٌ ثقيل؟

تساؤلٌ رائع عظيم يقولهُ الأخُ لأخيه: أتَفوتُنا غزوةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا.. إنهما أكرمُ وأعقلُ وأكْيَسُ وأحرصُ على الأجرِ والثواب من أن يظلّا رَهْنَ العلاجِ، فيخسرا بذلك غزاة مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

حديثٌ عَجَبٌ أمْرُكما أيها الأخوانِ الأنصاريانِ الكريمان!.. لكنَّ العجَبَ لم ينقضِ بعد.. ولكن لِمَ لَمْ ينقضِ بعد.. أثمة جديد؟؟ أجلْ؛ جديدٌ وأيُّ جديد!.. كان أحدُ الأخوين أيْسَرَ جُرحاً من الآخر.. فكانا يمشيان، فإذا اشتد الإعياءُ بصاحبهِ حملَه بعضَ الوقت ومشى به، فإذا استراحَ تركه يمشي.. وظلّا هكذا حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون.

وهكذا وصل عبد الله بن سهل، ورافع بن سهل، وهما الأخَوان الأنصاريان الأشهليان إلى حيث عسكر المسلمون.. وهما جريحان مُثقلان، فما فاتَتهما غزوة حمراءِ الأسد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أيها الصحابيان الكريمان، سلامٌ عليكما في الأحياء، وسلامٌ عليكما في الأموات، وسلامٌ عليكما يوم تُبْعَثان.. سلامٌ عليكما وعلى الدِّين الذي أنجبَكما، والنبي الذي ربّاكما مؤمنينِ مجاهدينِ صادقينِ.

*****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين