الامام الذهبي وصناعة الرجال

كان مؤرخ الإسلام الحافظ الكبير الإمام أبوعبدالله الذهبي (673- 748) رحمه الله تعالى ورضي عنه ممن جمع بين صناعة الكتب وصناعة الرجال، مع الإحسان في الصناعتين..

وتآليفه الكثيرة الشهيرة المعتمدة الحية من وقته إلى وقتنا = ناطقة بذلك مغنية بظاهر حالها عن مدحها، فكيف وألسنة الشكر لا تفتأ تثني عليها مذ وجدت.

وأما مساهمته البليغة الحميدة في توريث ميراث النبوة وما يتعلق به من علوم، وفي صناعة طلبته وتخريجهم وفي تهيئة المناخ المعين على ذلك = فكل أولئك جانب جميل جليل شائق فائق في شخصيته وسيرته حري بأن يدرس دراسة لائقة يعم النفع بها...

وقد تكرر عرض أمثلة لعنايته وحفاوته بفضلاء طلابه وتشجيعه لهم وإقباله عليهم وتواضعه معهم حتى إنه ليعاملهم معاملة الأنداد بل ربما لبس ثوب الأخذ عنهم والاستفادة منهم، وقد ظهرت آثار رفعة الله تعالى له في الدنيا ونسأل الله تعالى أن يرفع مقامه في الآخرة ويجزيه عنا وعنهم خير الجزاء

وفي الصورة المرفقة إشارة إلى مثال جديد يمكن أن يبسط الكلام عليه فيطول ولكن أجتزئ هنا بإشارات خفيفة.

في هذه الصورة: طبقة سماع كتبها الذهبي بآخر نسخة من كتابه النفيس «المشتبه» الذي هذبه الحافظ ابن حجر في «التبصير»، وشرحه الحافظ ابن ناصر الدين في «التوضيح» فكانا مع أصلهما أجمع وأنفع ما في بابهما.

كتب الذهبي هذه الطبقة أواخر سنة 737 قبل وفاته بإحدى عشرة سنة، وكان وقتها ابن أربع وستين سنة في أوج كماله وجلالته وعطائه نجماً مضيئاً هادياً في سماء السُّنة والعلم بل شمساً ساطعة، وقد وصف بعض تلك الجلالة الباذخة تلميذه المعترف بفضله عليه وإحسانه إليه مع مخالفته البيّنة له وشدته فيها العلامة الأصيل القاضي التاج أبو نصر ابن السبكي رحمهما الله تعالى جميعاً.

وقد أثبت الذهبي في هذه الطبقة سماع كتابه هذا بكماله لأخوين تونسيَّين من كهول نجباء طلابه الذين هم من سن أبنائه، وهما البرهان أبو إسحاق، والشمس أبوعبدالله محمد ابنا محمد بن إبراهيم القيسي السفاقسيان المالكيان، وذلك بقراءة البرهان كاتب هذه النسخة من الكتاب، وذكر الذهبي أنها عورضت أثناء السماع بنسخته، ثم أجاز لهما ما لديه من منقول ومعقول، ثم كتب: «والتمست منهما إصلاح ما يَظْهَرُ لهما - إن شاء الله تعالى - الوهمُ البيِّنُ فيه لتأهُّلِهما لذلك، أمدَّهما الله بنور اليقين والإخلاص، آمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله».

لم يقتصر هذا التواضع العلمي الرفيع على الاعتراف بالتعرض للوهم مع الغفلة عنه وظهوره أصغر سناً وعلماً بل مع كونه تلميذاً مستفيداً، بل تجاوزه إلى التصريح بـ(التماس) إصلاح الوهَم من تلميذيه الشابين اللذين في محل أولاده مع الشهادة بأهليتهما لذلك، ثم ختم بهذا الدعاء الجميل لهما، وقدم بين يدي جميع ذلك: الثناء عليهما بالحُلى العالية، إذ نعَتَهما بالإمامين العالمين الأوحدين المتفننين البارعين الأحفلين الأعدلين الأكملين.

وقد صحب هذان الأخوان الحافظ مدة كان هذا الكتاب مما تلقيا عنه فيها، ومع تواضعه هذا معهما وتشجيعه لهما لم يستنكف أن يستفيد منهما، ثم يترجم لهما مع فضلاء شيوخه ورفاقه وطلابه في المعجم الذي أفرده لمحدثي عصره، فنعت محمداً في ترجمته بالفقيه الإمام، ونعت أخاه الأكبر إبراهيم بالعلامة صاحبِ «كتاب إعراب القرآن»، وهو كتاب معروف وبالتحرير موصوف، يسمى بـ«المجيد»، استمده من التفسير الكبير لشيخه أبي حيان وإعراب القرآن لأبي البقاء العكبري وغيرهما بمناقشات وزيادات، وقد طبع منه إعراب الفاتحة مع البسملة، وكان عمدة لكثير من العلماء ولا سيما المغاربة والمالكية.

وذكر الذهبي أنَّ مولد إبراهيم كان في حدود سنة 698، ومولد محمد في سنة 706، فبينه وبين أكبرهما في السن نحو من ربع قرن، وبين أصغرهما نحو ثلثه، وكان إبراهيم عند كتابة هذه الطبقة قد قارب الأربعين، ومحمد ابن إحدى وثلاثين.

ومن المؤسف أنهما بعد هذا السماع بسنوات معدودة ماتا في حياة شيخهما فأرخ وفاتهما كما أرخ مولدهما، وكانت وفاة إبراهيم سنة 42 في مثل أيامنا هذه قبل سبعمائة عام تماماً، ووفاة محمد سنة 44، وهما في عز شبابهما وكهولتهما وأرجى ما كانا عطاء رحمهما الله تعالى وعوضهما الجنة.

وتحصَّل من ترجمة الذهبي لهما أنهما قدما دمشق سنة 737 التي وقع فيها السماع المذكور أولاً، وذكر في ترجمة محمد إكثارهما السماع من جماعة من المسندين ثم قال: «وسمعا مني، لديهما فضائل وخير»، وقال في ترجمة إبراهيم: «سكن هو وأخواه بمصر»، ثم ذكر وفاة إبراهيم بها، قال: «وله همة في العلم والفضائل»، وذكر في ترجمة محمد وفاته بحلب بعد أن استقر بها ودرَّس ورأَس، وقال: «أنشدني من شعره».

ولعل فرصة تسنح لمزيد من التعريف بهذين الأخوين العالمين الشابين النابغين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين