التزوير المقدس

ما هو التزوير المقدس؟

هو تحريف النصوص التاريخية وإخراجها من سياقاتها الطبيعية في سبيل التنفيس عن أحقاد دينية تلبس لباس النقد التاريخي.

وهذا أمر لا يستغرب عندما يكون مصدره رجال ضعاف النفوس يتجلببون بجلباب الدين لتحقيق أهدافهم الخاصة باسم الدين.

إلا أن المستغرب أن نجد هذا النفس عند أساتذة جامعيين يفترض أنهم يعلمون الناس المنهجية التاريخية الصحيحة، فإذا بهم يستغلون هذا الموقع لتنفيذ «التزوير التاريخي المقدس»..

ففي جامعة الوطن، والتي يفترض بها انها (جامعة) لا مفرقة، نفاجأ بنصوص تاريخية تعطى للطلبة من مواقع تبشيرية تبحث وجهات نظر وليس حقائق او وقائع تاريخية.. حيث أعطى المحاضر الزميل الطلبة هذا النص:

«في كنيسة الروم ذكرى ال 40 ألف ضحية الذين سقطوا يوم “غزو” العرب دمشق !!! نعم، فقبل عام 634 كان الروم يحكمون دمشق، وكل سكانها مسيحيون.. وعندما هاجمها العرب اقتحموها بقيادة خالد بن الوليد من جهة الشرق.. قاوم الروم دفاعاً عن مدينتهم، لكن خالد هاجم المدينة ذابحاً الأطفال والنساء والرجال ومدمّراً كل شيء..

ونقلت مراجع المسلمين قوله:”لن أرفع السيف عن رقابهم، حتى أفنيهم عن آخرهم”. (1).

وقد حاول روم المدينة التفاوض مع العرب طالبين إليهم وقف المذبحة وعودة العرب “إلى بلادهم” (اي شبه الجزيرة العربية) مقابل إعطائهم مالاً وطعاماً، إلا أن خالد بن الوليد رفض وقال: ” ما أَخْرَجَنا إليكم الجهدُ والجوعُ، وإنما نحن قوم نشرب الدماء، وبَلَغَنا أنه لا دم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك”. (2).

وهكذا استمرت المذبحة، وخالد وجيشه يقتلون من روم دمشق حتى فاق عدد الشهداء الأبرياء ال 40 ألفاً من مسيحيي المدينة.

وكانت المدينة من جهة الغرب قد استسلمت لأبي عبيدة بن الجراح، فدخل أبوعبيدة صلحاً من جهة الغرب، وخالد “قتلاً وذبحاً” من جهة الشرق حتى وصل عدد شهداء دمشق تقريبا الى 40 ألفاً سقطوا يوم “فتح” العرب دمشق. (3).

المراجع:

1- الواقدي، فتوح الشام، ص 41.

2- ابن كثير، البداية والنهاية، ج 7، سنة 13 ه، وقعة اليرموك.

3- القديسون المنسيون في التراث الإنطاكي، الأرشمندريت توما البيطار، ص 289. و راجع سورية المسيحية في الألف الأول الميلادي، موسوعة البطريركية الأنطاكية، الأب متري هاجي اثناسيو، ج 5، ص 216.». انتهى النص بهوامشه.

طبعا عندما مراجعة النصوص في مراجعها سواء في كتاب الواقدي او في تاريخ ابن كثير نجد أن هذه العبارة وردت في سياقات مختلفة، إلا أن الموقع الإلكتروني الذي أخذ عنه النص كان يتبع اسلوب (التزوير المقدس).

فخالد بن الوليد صحيح أنه قال هذه الكلمة ولكنه قالها في معرض حوار بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، ولم يخاطب بها الروم، ولم يترتب عليها أي شيء..

وهذا نص الحوار بينهما كما اورده الواقدي:

«قال الواقدي: ما خاطب أبو عبيدة خالدا يوم الفتح بدمشق إلا بالإمارة فقال: أيها الأمير قد تم الصلح فقال خالد: وما الصلح لا أصلح الله بالهم وأنى لهم الصلح وقد فتحتها بالسيف وقد خضبت سيوف المسلمين من دمائهم وأخذت الأولاد عبيدا وقد نهبت الأموال؟

فقال أبو عبيدة: أيها الأمير اعلم أني ما دخلتها إلا بالصلح

فقال له خالد بن الوليد: إنك لم تزل مغفلا وأنا ما دخلتها إلا بالسيف عنوة وما بقي لهم حماية فكيف صالحتهم

قال أبو عبيدة: اتق الله أيها الأمير والله لقد صالحت القوم ونفذ السهم بما هو فيه وكتب لهم الكتاب وهو مع القوم

فقال خالد: وكيف صالحتهم من غير أمري وأنا صاحب رايتك والأمير عليك ولا أرفع السيف عنهم حتى افنيهم عن آخرهم

فقال أبو عبيدة: والله ما ظننت أن تخالفني إذا عقدت عقدا ورأيت رأيا فالله الله في أمري فوالله لقد حقنت دماء القوم عن آخرهم واعطيتهم الأمان من الله جل جلاله وامان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رضي من معي من المسلمين والغدر ليس من شيمنا..».

إذن هو مجرد حوار بين قائدين لكل منها وجهة نظره، إلا أن الأمر استقر على الصلح وحفظ دماء الناس اهل دمشق الروم. فاين هذا من عبارة النص بأن خالد بن الوليد ذبح الأطفال والنساء...

ثم إن من حُفظت ارواحهم ودماؤهم كيف يقتل منهم اربعون الفا؟؟

إنها كلمات كتبت بحبر الحقد، لا بحبر التاريخ.

لا أريد أن أسترسل، لأن النقل عن تاريخ ابن كثير، مثل سابقه، أما النقل الثالث فهو عن مؤرخين من الرهبان، فكلامهم لا يقبل في مخالفيهم لأجل اختلاف الدين والمذهب الذي هو مظنة الطعن، وقليل جدا المؤرخون المنصفون.

ولكن حقيقة المرء يأسف عندنا يجد أن البعض يأخذ منابر جامعة الوطن لبث أحقاده بدل تعليم الطلاب النقد التاريخي الصحيح، وتوجيههم نحو حسن دراسة النصوص التاريخية ظاهرا وباطنا، كما تعلمنا من أستاذ النقد التاريخي في القرن العشرين المؤرخ الكبير أسد رستم رحمه الله، من خلال كتابه (مصطلح التاريخ)..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين