في فقه الجمال والفن والإبداع

الفن صورة من صور الجمال التي يبخسها كثير من المسلمين حقها، ويزهدون بها، مع أن الله جميل يحب الجمال، وهو سبحانه كتب الإحسان في كل شيء، وفلسفة الفن هي هذا الإحسان الذي يمكن أن يكون وسيلة تقتحم بها الحكمة القلوب لا العقول فحسب، وإن من الشعر حكمة ومن البيان سحرا، (فقُمْ مع بلالٍ، فألْقِ عليه ما رأيتَ فليؤذِّن به؛ فإنَّه أنْدَى صوتًا منك) وكم بيان أخّاذ يسحر النفوس حتى تنقاد للحقّ بقوة ناعمة! وهذه رسالة الفن بكل تلاوينه..

وإذا كان يوسف الصديق عليه السلام جميلا، فإن داود وآل داود كانت رسالتهم الجمال والفن بألوانه، يتعانق الفن فيها مع الذكر مزاميرا يتلوها داود عليه السلام فتؤوب الجبال والطير! فياللذكر حين تحلّق به أصوات نديّة يؤوب من حولها الجماد والطير فتهتز النفوس بصدى التسبيح...

فن تزين به الأصوات تلاوة لكتاب الله، تتثنى بها الحناجر مثاني تقشعر منها جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله..

هذا الجمال يتجلى بصور كثيرة ذوقا وصوتا وعملا حرفيا يدويا، وسيدنا داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده، ويتفنن في إبداع الجمال..

فهو فوق ندى صوته فنان ماهر بصناعة الحديد، (وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدّر في السرد..

فهو عمل دقيق متقن موزون بقدره، شأن الإحسان في التدقيق والتقدير وحساسية الوزن المرهفة.. والآية أدخلت هذا بمفهوم العمل الصالح (وقدّر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير)

هذا الجمال والإبداع والفن ورثه سليمان عليه السلام، وانطلق فيه بصورة أشمل، فوجدناه بجنده ومهندسيه العابرين لعالم البشر، يستفيد من كل ما حباه الله من سلطان في صناعة نماذج جمالية مبهرة، تبدع ما قاله القرآن الكريم(يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات).. صورة فارهة جميلة أخاذة مما قدمته مدرسة الجمال الداودية (نسبة لآل داود)، وهو عمل صالح كان يتقرب فيه أنبياء الله إلى الله وينفر منه بعض الملتزمين اليوم بدعوى الزهد والتقشف والورع والاخشيشان!

بينما يثني الله على عمل عباده بهذه التماثيل والمحاريب ما دام الجمال رساليا، لذا قال تبارك وتعالى بعدها: (اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور).

إن الفن حين يخدم الفطرة يكون جليلا صالحا، ومرقاة لسوق القلوب نحو الطمأنينة التي تسكن بها النفوس، وتسلم قيادها لله رب العالمين، وهذه رسالة سليمان عليه السلام حين غيّر الله يإبداعه وفنه حال بلقيس من حال إلى حال بلا جدل ولا حجاج!

صرح ممرد من قوارير جعلها تسبّح الله كالطير، وتحلّق فوق كل أوهامها حين كانت وقومها تسجد للشمس من دون الله!

(قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، قال إنه صرح ممرد من قوارير)، هذا الفن هزّها (قالت ربّ إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين).

وهكذا فالفن نحتا ورسما وصوتا ولحنا وشعرا وبيانا وحكمة وبلاغا كله يدخل في معنى الإحسان القرآني (وقولوا للناس حسنا)..

فيكون الفن حينا مزنة راوية تحيي الأرض الخاشعة، فتهتز وتربو وتخرج من كل زوج بهيج.. ويكون حينا نارا حامية تصلي المعاند جحيم الغضب، حتى يقول الحبيب: اهجهم وروح القدس معك..

الجمال مظلوم في فقه كثير من المتدينين، لأنهم لا يقدرونه قدره، ولا يضعونه في نصابه من مقاصد الشريعة، فالشريعة ليست ضروريات وحاجيات... الجمال والإحسان مساحة تغطي ذلك الجانب الإنساني الحضاري من الشريعة، والذي نسيء للشريعة بإهماله، ونخسر كثيرا إن لم نعد له اعتباره.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين