فيتامين

 

"الداعية" وريث الأنبياء، ذلك الذي يرغّب بكل خير، ويبغّض كل شر، ويدعو إلى دار السلام بسلام، ويجمّل الحياة بأخلاق الإسلام.

هو المنارة التي تضيء للناس طريق الهدى والحق. إنه وعي الأمة المستنير، وفكرها الحر، وقلبها النابض، طبيب القلوب المتعبة، والنفوس الجريحة، قائد سفينةِ النجاة، في وسط الرياح الهوجاء والفتن المتلاطمة.

والخطباء والمفكّرون والكتّاب والوّعاظ والنشطاء، من ذوي العلوم الشرعية السليمة، هم عناصر هذا الفيتامين الطيب، وأدواتهم في مجال الدعوة: الحجّة العقلية، والأخلاق النبوية، لكن يتبادر إلى الذهن سؤال: هل فعلًا حذّر نبينا صلى الله عليه وسلم من "دعاة" على أبواب جهنم، يقذفون الناس في النار، بدل أن ينقذوهم منها؟!

صحيح أن الدعوة إلى الله هي روح الإسلام، وهي المكانة العظيمة التي يتمنّى كلّ مسلم أن يكون من أهلها. والدعاةُ إلى الله هم روح الأمةِ ومصدر نهضتها وعزتها، وبهم يميّز الناس الخيرَ من الشر، والصواب من الخطأ، لكننا في زمان قد أدركتنا فيه السنوات الخدّاعات، التي أخبرَ عنها النبي صلى الله عليه وسلم؛ انقلبت فيها الموازين، واختلت المفاهيم، ونطق فيها الرويبضة، وهم التافهون السفهاء، الذين يتكلمون بأمر العامة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(ولسنا بحاجة أن نذكرهم بالأسماء، فهم مِمّن عَظُمت بهم الفتنة، وعمّ بهم البلاء، وازدحمت بهم الشاشات ووسائل التواصل!).

ومن فتنِ زماننا أن يتحوّل مَن المفترض به أن يكون لنا دواء وشفاء، فيصير عَلينا وبالًا، ومسبّب الداء. وبدل أن يكون (الداعية)- بين هلالين- مقويًا لأركان الدين، هاديًا ودليلًا، ينقلب إلى سوسةٍ، تنخرُ بنيانه تغييرًا وتحويلًا!

فتنةٌ نتابع تفاصيلها، ونشاهد أجزاءها، ونسمع أصداءها، هنا وهناك وهنالك.

أما الدعاة الربانيون فهم معتقلون أو مطاردون أو معذبون في غياهب السجون، إلا من رحم ربي وكفاه، ولا زال يجاهد في ميدانه، محفوظاً في كنف الله، فيما يجلس على كرسي الدعوةِ دعاةٌ مضلّلون، للحقّ محاربون، وللباطل مداهنون، وللظلم مؤيدون، وللظالم مساندون، وإنا لله وإنا إليه راجعون..

إننا لا شك نثقُ بالدعاةِ، ونأتمنهم على ديننا، ونقبل دعوتهم وكلامهم. وكثيرٌ منا لا يتخيّلون وجود فئة محسوبة على الدعاة، يضلّون الناس، ويفسدون عليهم عقائدهم وعباداتهم، ويفتنونهم بغير الحق الذي أنزله الله!

إننا والله نستغرب وجود (دعاة)- بين هلالين أيضاً، والمصطلح مجازي هنا، وليس حقيقة- يصدّون الناس بأنواع التلبيس والزلل، ويستدرجونهم من الخير إلى الشر، بصنوف الحجج والدّجل!

يروى عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل أحد جلسائه: "هل تعرف ما يهدِم الإسلام؟"، أجاب المسؤول: لا. فقال عمر: "يهدِمه زلّةُ العالم، وجدال المنافقِ بالكتاب، وحُكْمُ الأئمةِ المُضلين".

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: "كيف بكم إذا لبستكم فتنةٌ، يربو فيها الصغير، ويهرَمُ فيها الكبير، وتتّخذُ سنّة، فإنْ غيَّرت يومًا قيل: هذا منكر! قالوا: ومتى ذلك؟! قال: (إذا قلّ أمناؤكم، وكثُر أمراؤكم، وقلّ فقهاؤكم، وكثر قرّاؤكم، وتُفُقّه في غير الدين، والتُمِست الدنيا بعمل الآخرةِ).

إنّها صفات زماننا، وهي المحنة التي سمّاها رسولنا صلى الله عليه وسلم: "فتنةٌ عمياءُ صمّاءُ، عليها دعاةٌ على أبواب جهنم".

حديث نبوي عجيب، كأنّه يصفُ واقعنا الذي نعيشه، وما فيه من الفتن والبلاء، حتى لكأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا اليوم، يعرّفُ الداء والدواء، ويرشدُ إلى المخرج مما نجده من ضياع وشقاء.

فقد رُويَ عن الصحابي الجليل حذيفةَ بن اليمان أنه قال: "كان الناسُ يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني".

وهذا من حذيفة رضي الله عنه وعيٌ، وبعدُ نظرٍ، فهو يعيش عهدَ نبوّةٍ وخيرٍ صاف، ورغم ذلك يستفسر عن أزمانٍ قادمةٍ، قد يسود فيها الشر، ليعمل وفق توجيه الملهم المسدّد من الله تعالى صلى الله عليه وسلم. فكيف يجب أن يكون حالنا، وسؤالنا عن مآلنا، ونحن نتخبط في أنواع الشر، ولا نكاد نجد على الخيرِ معوانًا؟!

قال حذيفة: يا رسول الله، كُنّا في جاهليةٍ وشر، فأتانا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال صلى الله عليه وسلم: (نعم). فقلت: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال صلى الله عليه وسلم: (نعم، وفيه دخَنَ)- أي غبش-، فقلت: وما دخنه؟ قال صلى الله عليه وسلم: (قومُ يهدون بغير هديي، ويستنّون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر). قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها). قلتُ: صفهم لنا يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: (قومٌ من بني جلدتنا، ويتكلّمون بألسنتنا)!

الله أكبر، كنَا نظنهم غريبين عنّا، من بلاد بعيدة، فإذا هم يعيشون بيننا، يأكلون من طعامنا، ويشربون من شرابنا، ويلبسون من ثيابنا! إنهم يجلسون في مجالسنا، يفسدون علينا ديننا، ويهرفون بما لا يعرفون، فيضّلون ويُضلّون.

ما أعظم هذا الفيتامين "فيتامين دعاة"، لو أنّهم لم يقتصروا على استمالة القلوب والأسماع، فاستندوا إلى المنطق والعقل، وركّزوا على التربية والمعايشة، بدل إشعال الأحاسيس والمشاعر، واستغلالها، لو أنّهم لم يتكلّموا إلا بكل صحيح، وردّوا القرآن إلى السنة، والسنة إلى القرآن. لو لم تجرّهم الأحداث، ويتحكم بهم مُحدِثوها، لو أنهم فهموا واقعهم ومواقعهم، لو أنهم لم يداهنوا، ولم يتنازلوا..

إن حالنا كحال رجلٍ، وقفت على رأسه ذبابة، فقام صاحبه مشفقًا عليه من الذبابة، فهوى على رأسه بصخرةٍ، فقتله!

المطلوب منا أن نهشّ الذبابة عن رؤوسنا، بحلم وفهم وعلم، وننقي أجواءنا من الدخلاء، ونخرجهم من بيننا مخارج الأذلاء، ونعيد الثقة بالصادقين الأمناء، وتلك هي الخطوات الأولى في تعزيز موقع الدعاة المخلصين، ليكونوا في حياتنا أنفع فيتامين..

وفي ظل هذه الأزمات والفتن، علينا أن نبالغ في اهتمامنا بفيتامين هو بداية العون، واستدرار الغوث من الله تعالى، إنه "فيتامين دعاء"، لكن ما صفة ذلك التوجه القلبي؟ وما مدى تأثير عنصر "الحركة" في الدعاء؟!

للحديث بقية.. تابعوني في المقالة القادمة، وشاركوني النشر، لعل الله يكرمنا بالقبول والأجر..

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين