محمد صلى الله عليه وسلم شخصيته وصفاته (1) مقـدمة الطـبـعة الانكليزية

أثره في حياتي عظيم جدا، فقد عرفته مذ كنت غلاما حدثا، بالرغم من أنه عاش قبل ألف وأربعمئة سنة، بل تزيد. علمني والداي محبته، وبيَّنا لي أنه مشعل الهدى الذي به تستضيء أسرتنا. ثم كان دور أساتذتي في المدرسة الابتدائية ليعمقوا هذا الحب. وقرب اختتام دراستي في السنة الاعدادية الأولى أعطاني أستاذ اللغة العربية، أجزل الله له الخير، كتابًا عن حياته جائزة لتفوقي في مادته. وعندما بدأت حياتي العملية في الاذاعة السورية، كتبت حلقات تمثيلية للإذاعة تناولت فيها حياته المباركة كانت تذاع يوميا في شهر رمضان. وقبل عشرين سنة سطرت حياته في كتاب باللغة الانكليزية في 830 صفحة، ثم أكرمني ربي أن رأيت الكتاب مترجما إلى اللغة الفرنسية ثم الروسية. وعلى مدى 31 سنة كنت أكتب بالانكليزية صفحة أسبوعية عن الإسلام في صحيفة"عرب نيوز" التي تصدر في المملكة العربية السعودية، وكنت أضمنها مقالة كل أسبوع عن حياته أو هديه. ومع كل هذا أشعر أني أعجز من أن أوفيه حقه. فكيف لي، أو لأيِّ إنسان أن يصور ما أعطاه للإنسانية وهو الذي يظل دائما النور الذي يضفي السعادة الصافية على قلوب الملايين من الناس في كل بلاد العالم؟

محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، المولود في مكة عام 570 م. والذي لم تكتحل عيناه برؤية والده، هو الإنسان الذي اختاره ربه جل وعلا ليبلغ رسالته الخاتمة إلى البشرية، والتي تكفل الله تعالى بحفظها ما استمرت الحياة الإنسانية في الأرض. تلك كانت مهمة ضخمة، فالرسالة ليست أمرا عاديا يؤدى إلى المرسل إليه وانتهى الأمر، بل كان عليه، صلى الله عليه وسلم، أن يقدم معها هديا واضحا لمعاصريه ولكل الأجيال المقبلة كي تعرف كيف تطبقها في حياتها العملية. ذاك هو الهدى الذي يطبع حياة كل مجتمع يقرر أن يلتزم بمنهاج الحياة الرباني، وهو الهدى الذي يصلح لكل فرد وكل مجتمع، ما استمرت حياة الناس على هذا الكوكب.

تلك هي المعجزة التي صنعها محمد، صلى الله عليه وسلم، فهو لم يقل للناس إنه سيأتيهم بمعجزات، أو يبين لهم خوارق تأخذ بألبابهم، بل أعطاهم نظام حياة يلبي كل احتياجاتهم الجسدية والروحية والعاطفية ويتجاوب مع مشاعرهم. ثم ارتقى بطموحاتهم ليصل بها إلى المستوى السامي الذي يليق بكرامة الإنسان. وبين لهم عمليا كيف يتحقق لهم كل ذلك بأسلوب سهل، ميسر، مباشر و نقيّ من الشوائب. ووضع أمامهم الهدف الذي عليهم أن يسعوا إلى تحقيقه والذي هو في مقدور كل إنسان، لا تعقيد فيه ولا تعسف.

سطر المؤلفون مئات الكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والحوادث التي شهدتها حياته المباركة، ومعظم هذه الكتب ألفها مسلمون أحبوه واتبعوه، وبعضها بأقلام أناس يحطون من قدره ويرفضون دعوته. ومع ذلك فكلما ازددت معرفة به وبحياته ورسالته ازداد إعجابك به. فأنت تراه في حياته حتى سن الأربعين يعيش بين قومه يشاطرهم همومهم، ولكنه وهو الذي لم يعرف شيئا بعد عن الرسالة والنبوة، ينأى بنفسه عن كل ما هو زائف وكل ما لا يليق بالإنسان. وتشتهر سمعته بأنه الصادق الأمين. ثم تراه بعد ثلاثة عشر عاما يأتمر المشركون لاغتياله، ويطاردونه في الصحراء ويضعون جائزة كبرى لمن يأتي به حيا أو ميتا، ولكن ثقته بالله ربه تظل راسخة كالجبال. ثم يتهدده الخطر، ويصبح في مرمى سهم الشخص الذي يطارده، لكنه يعد ذلك الشخص بأن يلبس سواري كسرى، إمبراطور فارس.

تمر عشر سنوات فتتبدل الدنيا غير الدنيا، وإذا ذلك الراكب الذي يرتحل مع رفيقين ودليل واحد مسافة تزيد على 500 كيلومتر يسلك فيها طرقًا غير مألوفة في صحراء الجزيرة العربية ليفلت من مطارديه تدين له الجزيرة العربية كلها، ليقيم فيها دولة الحق والعدل التي تعتبر رسالتها تحرير الإنسان في الأرض.. كل الأرض. يكتب إلى الأباطرة والملوك والحكام يدعوهم إلى الإيمان بالله وحده واتباع رسالته. وهو في الوقت نفسه يقبل دعوة للعشاء من رجل فقير، يشاركه طعامه الذي لا يزيد على كسرة من الخبز ودهن بدأ يفسد. وفي يوم آخر يأتي بيته متعبا جائعا فلا يجد إلا كسرة من الخبز وشيئا من خل، فلا يزيد على أن يقول: "نِعْم الإدام الخل".. يقولها في الوقت الذي يستطيع أن ينال أشهى ما يمكن أن يقدمه العالم من لذائذ وإمتاع.

قلنا: إن ثقته بالله كانت راسخة كالجبال، بل إن الجبال لتنهد وثقته بالله لا تتزعزع. ففي أحرج الأوقات وأعظم المخاطر نراه ممتلئا بالثقة بأن الحق الذي معه لا بد أن ينتصر. ثم نراه في لحظة انتصاره الكبرى وهو أشد الناس تواضعا مطأطئا رأسه يشكر الله. ثم نراه مع أعدائه الذين كانوا بالأمس القريب يخططون لاغتياله واستئصال أصحابه أكثر الناس ترفعا عن الانتقام، بل هو أكرم الناس وأكثرهم عطاء. أما المنظر الذي أسعده كل السعادة عند نهاية حياته الكريمة فهو مشهد أصحابه يؤدون صلاة الجماعة في مسجده. فقد عرف يومها أنه قد بلّغ رسالة ربه وأدى الأمانة.

واليوم نرى كتابا وراسمي الرسوم الكاريكاتيرية، وأصحاب مواقع على الإنترنت، وأناسا في مراكز شتى، يهاجمون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم لا يعرفون عنه إلا النزر القليل والكاذب. وهم يركزون أشد هجومهم في ثلاثة أمور: تعدد زوجاته، وزواجه بأم المؤمنين الطاهرة عائشة التي يقال إنها كانت طفلة عند زواجها به، وتعامله مع اليهود، وخصوصا بني قريظة. غير أن البحث المتعمق في كل من هذه القضايا يبين بكل وضوح أنه ليس في أيٍّ منها ما يمكن أن يحتج به هؤلاء المنتقدون. ولكن الهجوم مستمر، ويزداد حدة. ومن أسف، فإن معظم المسلمين اليوم لا يعرفون نبيهم المعرفة التي تعطي شخصيته وحياته صورتها الصحيحة. فالذي نراه اليوم أنه عندما يهاجَم رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب له المسلمون في كل أنحاء العالم، وغضبهم يزيد الشقة اتِّساعا بين المسلمين وغير المسلمين، لا سيما بين العالم الإسلامي والغرب. وهذا هو نقيض ما يريده معظم الناس في العالم كله، ولذلك فإن من الضروري العمل على تحقيق تفهم أفضل من كلا الجانبين.

خصصت كتابي الأول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسجيل سيرته العطرة مع تحليل لأحداثها وتعليقات وإسقاطات. أما هذا الكتاب فيهدف إلى إظهار شخصيته في صورتها الحقيقية. ولكنني وقد أنهيت الكتابة أشعر أني قصرت كثيرا عن تحقيق الغاية والوصول إلى الهدف. ولا أملك وأنا أقر بقصوري إلا أن أردد مع شاعر الانكليزية في القرن السابع عشر: "كيف يمكن لمن هو أحقر شأنا أن يفهم من هو أكبر شأنا، أو كيف يمكن للعقل المحدود أن يصل إلى غير المحدود؟" وكيف لي أن أعرض معا الطرفين المتباعدين: الحياة في أبسط صورها مع الحياة في غاية كمالها؟ لقد حقق رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرين معا دون أن يتكلف لذلك أمرا. ولئن استطعت أن أعطي قارئي لمحة من ذلك، أقول إن ما بذلت من جهد قد أعطى ثمرته.

سيدرك قارئي أني لا أحاول أن أدحض أي تهمة يحاول البعض أن يلصقها برسول الله صلى الله عليه وسلم. بل إن ما أحاوله هو أن أرسم صورة شخصيته كما هي. واعتمادي في هذا على كلمة الله تعالى التي وردت في كتابه، وعلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعاليمه، وما جاءنا من أصحابه الذين نقلوا إلينا ما قاله وفعله. ولا أعتمد إلا على المصادر الصحيحة، بل طرحت جانبا بعض الروايات والشواهد التي يمكن أن تزيد بعض الحجة قوة، أو تشرح فكرة، لأني وجدت فيها كلمة أو جملة تلقي بظلال من الشك في صحتها، رغم ورودها في بعض الصحاح.

خصصت فصلا لقضية بني قريظة ومصيرهم، نحوت فيه منحى مخالفا كلية لما هو مشهور في كتب السيرة. وللقارئ أن يحكم إن كانت حجتي صحيحة أم غير صحيحة. ولست أحاول في هذه القضية أو في قضية أخرى أن أدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تبرير فعله، فليس هناك في أفعاله أو تعاليمه ما يحتاج إلى تبرير. بل الذي نحتاج إليه هو فهم الوضع الذي جرى فيه الحدث، وأن نعتبر كل الجوانب والظروف والخيارات المتاحة.

والذي يبقى لي أن أقول إنه لا يمكن لأي صورة أن تصور حقيقة شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملة، إذ كان أعلى وأسمى من كل ما نتصور. ولعل الصفة الأقرب إلى الحقيقة هي أنه "معلم الخير في أكمل صوره". جزاه الله خير الجزاء إذ علّم الانسانية هذا الخير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين