ليلة النصف من شعبان وما ورد فيها

تمرّ شهور العام والناس مشغولون عن الله في طلب الدنيا والعمل لها، منغمسون في أعمالهم يطلبون المزيد من زخارف الحياة الدنيا وشهواتها، ولهذا فقد جعل الله لهم محطات ينتبهون فيها إلى أنفسهم، فيستيقظ من يستيقظ ليجد نفسه وقد أضاع عليها أياماً وشهوراً طويلة، وهو منقطع عن الله، سادر في لعبه ولهوه، فإذا جاء شهر رمضان، صامه مع الصائمين، صيام عادة أو تقليد لآبائه وأجداده وإخوانه، صياماً لا يجد فيه إلا الانقطاع عن الطعام والشراب لساعات معدودات، ثمّ يستدرك ما فاته من الطعام والشراب بعد الإفطار.

لعل أفضل استعداد لاستقبال شهر رمضان شهر الصيام، بالصيام حيث يشعر المسلم أنه يعيش هذا الشهر قبل حلوله فإذا حلّ وجد في نفسه الراحة والطمأنينة، والحبّ للطاعة التي هيأ نفسه وجسده لاستقبالها ويكون صيامه في شهر شعبان تمرينا عمليا على صيام شهر رمضان، حتى لا يدخل في شهر الصوم على مشقة وكلفة، بل يكون قد درب نفسه على الصيام ووجد في صيام شهر شعبان حلاوة الصيام ولذته

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكثر الصيام في شهر شعبان، بل ربما صامه كله، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان)[1] ،

وعن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان)[2]،

أما ليلة النصف من شعبان فتعد من الليالي الفضليات من السنة وإحياؤها بالطاعات من صلاة وقراءة للقرآن الكريم، وذكر لله، وغير ذلك من العبادات، فيه استعداد لاستقبال ليالي رمضان المباركة وليلة القدر خاصة، فقد ورد فيها الكثير من الأحاديث الشريفة، التي تحض على إحيائها، ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى يتجلى فيها على عباده تجلياً خاصاً يكثر فيه من استجابة الدعاء ومغفرة الذنوب، منها: ما روي عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، (إذا كان ليلة النصف من شعبان، فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا، فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا من مسترزق فأرزقه، ألا من مبتلى فأعافيه، ألا كذا، ألا كذا حتى يطلع الفجر)[3] ، وفي حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو في البقيع رافعاً رأسه إلى السماء، فقال: أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟.. فقلت: يا رسول الله؛ ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: إن الله تبارك وتعالى يتنزل في ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب)[4] وعن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله ليطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لعباده إلا اثنين: مشاحن أو قاتل نفس)[5].

وكان سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين يخصون هذه الليلة بمزيد من العبادات والقربات، استعدادا لاستقبال شهر رمضان، فقد روي أنّ بعض التابعين من أهل الشام كخالد بن معدان[6] ومكحول[7] ولقمان بن عامر[8] وغيرهم كانوا يعظمونها وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها،

ويروى عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أنه كتب إلى عامله بالبصرة: (عليك بأربع ليال من السنة، فأن الله يفرغ فيهن الرحمة إفراغاً: أول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلة الفطر، وليلة الأضحى)[9]، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: (بلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال: ليلة الجمعة، والعيدين، وأول رجب، والنصف من شعبان، قال: واستحب كلّ ما حكيت في هذه الليالي)[10].

أما ما اعتاد عليه الناس في يومنا هذا من الاجتماع في المساجد، وقراءة سورة (يس) عدة مرات، ثم الدعاء بدعاء خاص، يكرره الناس، فلم يرد فيه شيء صحيح، وقد كرهه بعض الأئمة من أهل العلم، يقول الإمام عبد الرحمن بن رجب الحنبلي[11] ( يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء ، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها بخاصة نفسه ، وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيهها وهذا هو الأقرب إن شاء الله )[12]

فمنهج السلف في الاستعداد لاستقبال شهر رمضان كان بالتوبة بتجديد الإيمان، وترك المعاصي، وبر الوالدين وصلة الأرحام وكثرة الصيام والقيام وقراءة القران الكريم وهذا هو الاستعداد الحقيقي لاستقبال هذا الشهر المبارك.

والحمد لله رب العالمين

[1] أخرجه الإمام البخاري باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان رقم:1969

[2] رواه الترمذي في الصوم رقم : 2336

[3] رواه ابن ماجه في سننه رقم (1388) باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان وورد في كنز العمال رقم 5177 وعزاه إلى البيهقي وفي الترغيب والترهيب 2/199 وفي إسناده ضعف

[4] رواه الإمام أحمد في مسنده 6/283 والترمذي في الصوم رقم 739 وابن ماجه رقم 1389 والمنذري في الترغيب والترهيب 2/118

[5] مسند الإمام أحمد واسناده صحيح 2/176، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/56 والمنذري في الترغيب والترهيب 2/119

[6] خالد بن معدان بن أبي كرب الكلاعي أبو عبد الله، تابعي، ثقة ممن اشتهر بالعبادات، شيخ أهل الشام من أئمة الفقه روى له جماعة، مات سنة 103 هـ (طبقات ابن سعد 7/455)

[7] فقيه الشام في عصره من حفاظ الحديث، رحل إلى الشام طلباً للعلم واستقر بها، توفي سنة: 112 هـ (تذكرة الحفاظ 107)

[8] لقمان بن عامر الوصابي أبو عامر الحمصي، روى عن أبي الدرداء وأبي هريرة صدوق، ثقة،. (تهذيب التهذيب 8/455)

[9] لطائف المعارف ص 263 .

[10] المصدر السابق 264 .

[11] عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن حسن السلامي البغدادي الدمشقي، الحنبلي، إمام، حافظ، مقرئ، محدث،،حجة فقيه، زاهد، ولد في بغداد، سنة: 736 هـ وتوفي في دمشق، سنة: 795هـ ( الدرر الكامنة 2/321، وإنباء الغمر 3/195، وشذرات الذهب 6/339، وأعلام الزركلي 3/295

[12] لطائف المعارف ص: 263

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين