مقدمة كتاب

الحمد لله رب العالمين، مبدع السماوات والأرضين، مصور بني آدم ومعلمهم التبيين، خلق الإنسان من علق، وعلمه بالقلم، علمه ما لم يعلم، والصلاة والسلام على رسوله الأكرم المبعوث رحمة إلى العرب والعجم، الناطق بالقول الفصل والحكم، والمتميز على الورى بجوامع الكلم، وعلى آله وصحبه صفوة الأمم، رضي الله عنهم أجمعين، ومن تبعهم من أئمة الدين وسائر المسلمين، أما بعد:

فإني لم أعجب بإنتاج بشري إعجابي بصحيح البخاري، عالقا به فؤادي وجدا وهوى، وإني لولوع به مستهام، وكلف به مشغوف، وكلما تذكرته تمثل لي البيت الذي أنشده العلامة شبلي النعماني بالفارسية، معناه: "إن البارئ المصور الأزلي لما رسم شكلك الجميل البديع ما فتئ يتلمحه مستحسنا له ومبتهجا به"، يخيل إلي أن الإمام البخاري عمل الصحيح وهو يلحظه وقد بهره واضح محياه، وبديع طلعته، ورائع سبكه، ومليح ظاهره، ووضيئ باطنه.

وقع حبه في قلبي في شوال سنة إحدى وأربعمائة وألف إذ استهللته في السنة الأولى من الدراسات العليا في دار العلوم لندوة العلماء، فكان أهنأ من المدام الخندريس، وأمرأ من معاطاة الكؤوس، وأشهى من قبلة العذارى، وأحلى من سكر السكارى، وسلام الله على الدار التي سباني بها هذا السفر الجليل، وسقت الغوادي تلك الأيام التي عكفت فيها عليه العكوف الطويل، والليالي التي سهرتها أرد معينه الصافي السلسبيل.

وهذه أربعون سنة تقريبا، وأنا مفتون به مغرم، وما فارقته منذ وددته، وما ودعته منذ التقيته، له في قلبي محل لم يحله شيء من أعمال البشر، ودهشتي لا تنقضي لما له من أثر، سما إلى العلا، وعلا وكأن النجم تحته يجري، فلا شيء يشبهه ولو كثر التجمل والكلام، ولا إنجاز يعجبني مهما أشاد به الأنام، استصغرت بين يديه كتابات الفلاسفة والحكماء القدامى والمحدثين، وتأليفات العلماء والأدباء الشرقيين والغربيين، ودواوين شعراء الأردية مير تقي مير، وأسد الله غالب، والدكتور إقبال، وشعراء الفارسية الشيخ السعدي، وحافظ الشيرازي، والرومي، وشعراء العربية الجاهليين والإسلاميين والمولدين، والأعمال المعمارية تاج محل وما دونه، والإمبراطوريات الرومية والفارسية والأموية والعباسية والتركية والمغولية، فإني بالصاحب الذي استأسر نفسي لمنعم ممتع، وهو لي مضجع ممنع، ولا أرى ثوب مجد غير ثوب هذا الجامع على أحد إلا وهو بلؤم مرقع.

ومن نعمة الله علي – ونعمه لا تعد ولا تحصى – أن شغلني بتدريس هذا السفر الجليل منذ عشر سنين وأكثر، فاكتشفت من كنوزه وبدائعه، وأسراره وصنائعه ما لم يكن بحسبان، ولقد رأيت تلاميذي أعجبوا به كما أعجبت، وطربوا من محاسنه كما طربت، ومنهم من سألني أن أؤلف مدخلا له أضمنه بعض خصائصه ومزاياه، يستعين به الطلاب على التقرب إليه والانتفاع به، فأجبته، وعملت بعون ربي هذا السفر، وسميته (مدخل رائع إلى صحيح البخاري وما فيه من أسرار وصنائع).

عنيت فيه بترجمة الإمام البخاري، وبيان تقدمه في الحديث وسائر العلوم، ووصف كتابه الجامع الصحيح، والتوثق منه، وانتشاره، ورواياته، ونسخه، والتآليف حوله، وشروطه، وأصوله، وما فيه من الموقوفات والمتابعات والمعلقات، وجلالته في وضع تراجمه، وتضمنه العلوم الأخرى من اللغة والتفسير والفقه والكلام والتاريخ، ودقة التزامه بشروطه، ومقارنة بينه وصحيح مسلم، ومناقشة نقد الدارقطني وغيره لأحاديثه، والرد على بعض المطاعن الموجهة إليه، وختمته ببعض أسانيدي إليه.

بذلت ما في وسعي أن أبين كل ملمح من ملامحه بأمثلة واضحة، محيلا على أحاديثه بأسانيده، ففيها فوائد تتجلى للناظر المتخصص، ومترجما للأعلام الذين لهم تأثير في فكر الإمام البخاري ومنهجه في الصحيح، بيد أني لم أترجم للصحابة رضي الله عنهم رومًا للاختصار، فتراجمهم مبسوطة وسهلة المتناول في المصنفات المختصة بهم، وعامة كتب الرجال والتاريخ.

وأدعو الله تعالى أن ينفعني به وسائر المسلمين، ويتقبله بقبول حسن، ويجعله من وسيلتي إلى صالح الأعمال، آمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين