مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (97)

(وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ١١٦ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ١١٧ ﱠ[البقرة: 116-117]

السؤال الأول:

ما دلالة ختام الآية (116 ) بالوصف بالقنوت فى هذه الآية؟

الجواب:

1ـ القنوت هو الخضوع والانقياد مع الخوف، وهذا الأمر لا يقوم به إلا كل عاقل مبصر؛ فلذلك جمع الله تعالى في هذه الآية كلمة (قانت) جمع مذكر سالم (قَانِتُونَ) وهو مختص بجمع الذكور العقلاء ليبيّن لنا سمة أهل الخشوع والقنوت إنهم أصحاب العقول الراجحة التي تخشى الله عن إرادة وبصيرة.

2ـ والقنوت أصله الدوام، ثم استعمل على أربعة وجوه:

آـ الطاعة: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) [آل عمران:43].

ب ـ طول القيام: لمّا سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي الصلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت».

ج ـ السكون: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة:238].

د ـ الدوام.

السؤال الثاني:

ما الإضاءات الفكرية في هذه الآية؟

الجواب:

أراد الله سبحانه أنْ يرد على الذين حاولوا أنْ يجعلوا لله معيناً في ملكه الذين قالوا اتخذ الله ولداً، وجاء الرد في ثلاث نقاط:

آ ـ (سُبْحَانَهُ) أي: تنزه الله أنْ يكون له ولد.

ب ـ (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ).

ج ـ (وَالْأَرْضِ).

فإذا كان هذا ملكه وإذا كان الكون كله من خلقه وخاضعاً له فما حاجته للولد؟

1ـ قضية (إنّ لله ولداً) جاءت في القرآن الكريم (19) مرة ومعها الرد عليها؛ لأنها قضية في قمة العقيدة، فقد تكررت وتكرر الرد عليها مرة بعد مرة.

2ـ الله سبحانه يريدنا أنْ نعرف أنّ هذا ادعاء خطير مستنكر، ولقد عالجت سورة مريم هذه المسألة علاجاً واسعاً اشترك فيه انفعال السماوات والأرض والجبال حتى كادت الجبال تخر وكادت الأرض تنشق من هذا الافتراء على الله.

3 ـ السؤال هنا: ما الشبهة التي جعلتهم يقولون: ولد الله؟ النصارى فُتِنُوا في ولادة عيسى عليه السلام؛ لأنّ عنصر الأبوة ممتنع، وكان الأولى أنْ يُفتنوا بولادة آدم؛ لأنه بدون أب ولا أم، ومن العجيب أنّ النصارى لم يذكروا الفتنة في آدم، وذكروا الفتنة فيما فيه عنصر غائب من عنصرين غائبين في آدم.

4ـ الملكية تنافي الولدية، لماذا؟ لأنّ الذي يخلق شيئاً يكون فاعلاً، والفاعل له مفعول، والمفعول لا يكون منه أبداً، هل رأيت واحداً صنع صنعة منه؟ الذي يصنع سيارة أو طائرة هل هي من لحمه ودمه؟ طبعاً لا.

إذن مادام ملكية فلا يقال: إنها من نفس جنس صاحبها، ولا يقال: إنّ الفاعل أوجد من جنسه، وكل فاعل يوجد شيئاً أقل منه.

وقول الله في الآية: سبحانه؛ أي تنزيه له، لماذا؟ لأنّ الولد يُتخذ لاستبقاء حياة والده، فهو يحمل اسمه بعد أنْ يموت ويرث أملاكه، إذن هو من أجل بقاء نوعه، والذي يريد بقاء نوعه لا يكفيه أنْ يكون له ولد واحد.

5ـ إذن فما سبب اتخاذ الولد؟ هل هو معونة؟ الله لا تضعف قوته.. هل هو ضمان للحياة؟ الله حياته أزلية.

إذن كل هذا الكون لم يضف صفة من صفات الكمال إلى الله، بل إنّ الله بكمال صفاته هو الذي أوجده.

6 ـ لو فرضنا جدلاً أنّ لله ولداً، فأين ذرية الولد؟ لم نر ولم نسمع أولاداً لمن زعموا أنه ابن لله.

وماذا استجد على الله وعلى كونه بعد اتخاذ الولد كما يزعمون؟ لم يتغير شيء في الوجود.

إذن فالولد لم يعط الإله أي مظهر من مظاهر القوة؛ لأنّ الكون قبل أنْ يوجد الولد وبعده لم يتغير فيه شيء.

7 ـ ثم إذا كان لله سبحانه زوجة وولد فمن الذي وجد أولاً؟ إذا كان الله وُجِدَ أولاً ثم بعد ذلك أوجد الزوجة والولد فهو خالق وهما مخلوقان.

وإذا كان كل واحد قد أوجد نفسه فهم ثلاثة آلهة!!!

إذن الكمال الأول لله لم يزده الولد شيئاً؛ ومن هنا يصبح وجوده لا قيمة له.

السؤال الثالث:

قوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ولم يكرر اسم الموصول (مَا) كما في آية طه: 6، وآية سبأ: 1، أو في آيات التسبيح؟

الجواب:

1ـ إذا قصد بالسياق قصد الجنس أو الاهتمام بما هو المقصود في الآية لم يكرر ذكر اسم الموصول إلا مرة واحدة، كما في هذه الآية وآية الرحمن: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن:29].

2ـ والقرآن يكرر اسم الموصول (ما) في مواطن الشمول والإحاطة والتفصيل، كما في آية طه: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى).

فقد كرّر اسم الموصول (ما) في سورة طه؛ لأنّ الموطنَ موطنُ شمولٍ وإحاطةٍ وتفصيل، فقد ذكر أنّ له (مَا فِي السَّمَاوَاتِ) و (وَمَا فِي الْأَرْضِ) و (وَمَا بَيْنَهُمَا) و (وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) بينما أجملَ في سورة النحل فلم يكرر.

3 ـ التفصيل في آيتي سبأ واضحٌ في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ١ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) [سبأ: 1 - 2] لذا كرّر اسم الموصول، بخلاف آية البقرة حيث لم يفصل فلم يكرر.

4ـ وأمّا تكرار اسم الموصول مع آيات التسبيح فسيتبين في حينه.

السؤال الرابع:

لماذا جاء بـ (ما) في الآية وهي لغير العاقل، ولم يأت بـ (من) وهي للعاقل؟

الجواب:

1ـ جاء بـ (ما) لتتناول جميع الأشياء؛ لأنّ (ما) تشمل صفات العقلاء وتشمل ذوات غير العاقل. بينما (مَن) مختصة بالعقلاء لذلك (ما) أوسع استعمالاً من (مَن).

2ـ يقال: كيف جاء بـ (ما) وهي لغير العاقل، مع قوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) [البقرة:116] والجواب: كأنه جاء بـ (ما) دون (مَن) تحقيراً لشأنهم.

السؤال الخامس:

قوله تعالى في الآية (اتَّخَذَ) ما الفرق اللغوي بين الفعلين أخذ واتخذ؟

الجواب:

1ـ ورد الفعل ( اتخذ ) في القرآن الكريم في عشرين موضعاً ووردت صيغ أخرى كثيرة مشتقة نحو: [ اتخذت ـ اتخذوا ـ تتخذوا ـ يتخذ ـ....]

وورد الفعل ( أخذ ) في أحد ( 11) موضعاً ووردت صيغ أخرى كثيرة مشتقة نحو:

[ أخذنا ـ أخذناهم ـ يأخذه ـ يأخذونها ـ....].

2ـ الفعل ( أخذ ) بمعنى تناول بيده والأمر منه ( خذ ) و( الأخذ ) المصدر ويستعارفيقال: أخذه بلسانه إذا تكلم فيه بمكروه وجاء بمعنى العذاب في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ) [هود:102] وقوله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) [الحجر:83] وأصله في العربية الجمع ومنه قيل للغدير: وِخْذ وإخْذ والجمع: وِخاذ وإخاذ.

والاتخاذ: أخذ الشيء لأمر يستمر فيه مثل الدار يتخذها مسكناً ويكون الاتخاذ التسمية والحكم ومنه قوله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) [الفرقان:3] أي سموها بذلك وحكموا لها به.

والله أعلم.

السؤال السادس:

ما أهم دلالات الآية (117 )؟

الجواب:

1ـ قوله تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) البديع والمبدع بمعنى واحد وهو مثل: أليم بمعنى مؤلم وحكيم بمعنى مُحكم غير أنّ في ( بديع ) مبالغة على استحقاق الصفة في غير حال الفعل على تقدير أنّ من شأنه الإبداع والإبداع الإنشاء على غير مثال سبق ونقيض الإبداع الاختراع على مثال ولهذا السبب فإنّ الناس يسمون من قال أو عمل ما لم يكن قبله

( مبتدعاً ) وخصّ السموات والأرض بالإبداع لأنهماأعظم ما يُشاهد من المخلوقات.

2ـ قوله تعالى: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا) لفظ ( القضاء ) في القرآن يأتي على وجوه منها:

آ ـ بمعنى الخلق: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت:12] يعني خلقهنّ.

ب ـ بمعنى الأمر: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء: 23].

ج ـ بمعنى الحكم: ولهذا يُقال للحاكم: قاضياً.

د ـ بمعنى الإخبار: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ) [الإسراء:4].

هـ ـ بمعنى الفراغ من الشيء: (وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) [هود:44]

3 ـ قوله تعالى: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا) أي إذا خلق شيئاً أو حكم بأن يفعل شيئاً.

4 ـ المُراد من قوله تعالى: (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) هو سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء أي يوجد وفق ما أراد الله من حال العدم إلى حال الوجود لا يستعصي عليه ولا يمتنع منه. قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس:82].

وللعلم فإنّ الفعل ( كن ) في هذه الآية فعل أمر من كان التامة بمعنى حدث وكذلك الفعل:

( فيكون ) تام بمعنى يحدث.

5 ـ الآية رقم ( 116 ) ذكرت المخالفة السادسة والعشرين (26 ) لليهود التي ذكرها الله تعالى في سورة البقرة من أصل (32 ) مخالفة وهي تحمل مضمون: (قول اليهود: عزير ابن الله) والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين