الفهم الركيك لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا}

كثير من الناس عندما تصلهم مقاطع فيديو لبعض الذين يتظاهرون أنهم يفسرون الآيات القرآنية بناء على الإعجاز البلاغي فإنهم ينخدعون بأسلوبهم الجذاب وطريقة عرضهم فينشرونها بهدف بيان روعة أساليب القرآن البلاغية، ولكن عندما تسمعها وتدقق في مضامينها تجد فيها معلومات غير دقيقة وليست صحيحة يخالفون بها ما اتفق عليه فطاحل علماء البلاغة وأئمة اللغة العربية المحققين الموثوق بهم، وبدل أن يكلفوا أنفسهم قبل النشر مراجعة كتب اللغة والبلاغة والتفسير ليتحققوا من صحة ما يقولونه، ولكنهم يتعالمون ويتفاصحون ويخطئون جميع العلماء.

1- والجديد الذي اكتشفه هؤلاء المتعالمون ان الاستثناء في قوله تعالى (إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا عامًا) ليس استثناء حقيقياً من المدة المذكورة في الآية (أَلْفَ سَنَةٍ)، وادعوا ان (إلا) بمعنى (الواو العاطفة)، فصارت المدة بناء على فهمهم الركيك هي مجموع المدتين (1000 سنة).

والذي دعاهم إلى ذلك أن هنا فرق بين العام والسنة فلا يصح الطرح بينهما.

وهذه دعوى باطلة، فقد اتفق كبار علماء البلاغة واللغة والتفسير وأئمة الإسلام على ان الاستثناء هنا حقيقي، اي ان المدة هي 950 سنة.

2- نعم فرّقَ العلماء بين السنة والعام في دلالتهما البلاغية، ولكن الاستثناء صحيح والطرح صحيح لان الاستثناء تام فالمستثنى من جنس المستثنى منه والجامع المشترك بين العام والسنة هو الزمن فجاز الاستثناء، وهذا مثل قولنا (بقيت في المسجد ثلاث ساعات الا عشر دقائق).

3- وقد صرح كبار علماء اللغة ان الاستثناء في الآية حقيقي، قال العلامة اللغوي ابن هشام رحمه الله في كتابه "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب "

[ فأما استثناء بعض ما دخل في المستثنى منه فجائز بغير خلاف علمناه فإن ذلك في كلام العرب وقد جاء في الكتاب والسنة قال الله تعالى (فلبث فيهم ألف سنه الا خمسين عاما) ]

وقال العلامة الفخر الرازي في تفسيره:

[,فَقَوْلُهُ: ﴿ألْفَ سَنَةٍ إلّا خَمْسِينَ عامًا﴾ كَقَوْلِهِ: تِسْعَمِائَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً، فَما الفائِدَةُ في العُدُولِ عَنْ هَذِهِ العِبارَةِ إلى غَيْرِها؟ فَنَقُولُ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ فائِدَتانِ:

إحْداهُما: أنَّ الِاسْتِثْناءَ يَدُلُّ عَلى التَّحْقِيقِ وتَرْكَهُ قَدْ يُظَنُّ بِهِ التَّقْرِيبُ، فَإنَّ مَن قالَ: عاشَ فُلانٌ ألْفَ سَنَةٍ أيْ يُمْكِنُ أنْ يُتَوَهَّمَ أنْ يَقُولَ: ألْفُ سَنَةٍ تَقْرِيبًا لا تَحْقِيقًا، فَإذا قالَ إلّا شَهْرًا أوْ إلّا سَنَةً يَزُولُ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ ويُفْهَمُ مِنهُ التَّحْقِيقُ.

الثّانِيَةُ: هي أنَّ ذِكْرَ لُبْثِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ في قَوْمِهِ كانَ لِبَيانِ أنَّهُ صَبَرَ كَثِيرًا، فالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ أوْلى بِالصَّبْرِ مَعَ قِصَرِ مُدَّةِ دُعائِهِ ]

4- اختلف المفسرون أيضا في الحكمة من استعمال لفظي " السنة " و " العام "، على قولين:

القول الأول: ذهب بعض المفسرين إلى أنها حكمة لفظية فحسب، لأن تكرار اللفظ نفسه فيه ثقل على اللسان، فجاء بلفظ مرادف مغاير، وهو " عاما " لتحقيق الخفة المطلوبة.

يقول الزمخشري في "الكشاف":

" فإن قلت: فلم جاء المميز أوّلاً بالسنة وثانياً بالعام؟ قلت: لأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتحيه المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك ".

القول الثاني: أن استعمال لفظ " السنة " جاء للدلالة على صعوبة السنوات التي قضاها نوح عليه السلام في دعوة قومه، فهي سنوات عجاف من حيث الخير والمطر والبركة، ومن حيث مشقتها أيضا على نوح عليه السلام في أمر الدعوة، حيث واجهه قومه بالإعراض والأذى، ثم عاش بعد الطوفان وهلاك الكفر من الأرض أعواما من الخصب والنعيم والرخاء، والعرب تطلق لفظ " السنة " على أيام الجدب والقحط، و لفظ " العام " على أيام الرخاء والنعيم.

يقول الراغب الأصفهاني في "مفردات ألفاظ القرآن":

[ العام كالسنة، لكن كثيرا ما تستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الشدة أو الجدب؛ ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، والعام بما فيه الرخاء والخصب، قال: (عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون)، وقوله: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما)، ففي كون المستثنى منه بالسنة والمستثنى بالعام لطيفة. ]

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين