حب.. مع فارق التوقيت!

كان حنوناً، متفهماً، كريماً، نبيلاً..

كان متقناً لعمله، مبدعاً في مجاله، متقدماً في طروحاته، حكيماً في قراراته..

كان عصامياً عفاً، نظيف الكف، أميناً..

كان مخلصاً في دعوته، متفانياً، مضحياً، ساعياً في كل خير..

كان بحراً من العلم، أسوة في العمل، حجة في الفهم، ومرجعاً في الحكم..

كان صلباً في مواقفه، واضحاً في رؤيته، ثابتاً في خطواته..

كان وكانت وكانوا.. ثم ماتوا، ولم يسمعوا منا هذا الثناء الصادق، ولم يسعدوا بتلك الكلمات، التي لم نبالغ بها حين قلناها!

ماتوا، فوقفنا على قبورهم، وأغرقنا التراب المنهمر على وجوههم، بوابل من عبارات المدح والثناء عليهم، مع زخات من دموع الحزن على خسارتهم!

ترى، لماذا نبخل على من اتصفوا بتلك الخصال الحميدة، بإسماعهم إياها في حياتهم؟!

لماذا يشعر الأحياء، فجأة، بقيمة من ذهبوا، ولن يعودوا؟!

لماذا يبدو الراحلون، الذين تركونا قبل ساعات، وكأنهم أغلى وأعز مما كانوا عليه، وهم معنا؟!

لماذا فقد كثيرون من الأحياء مهارة "ضبط توقيت التعبير" عن المعزة وذكر الفضائل، قبل أن يخطف الموت من "كانوا يعرفونهم" لكنهم "أجّلوا الاعتراف لهم"، فضيّعوا فرصتهم الوحيدة معهم؟!

كلنا نعلم أن الثناء على من هم أهل لذلك، على وجه الإخبار والإكبار، ومن باب الإعلام والإلهام، يتوافق مع منهج نبينا عليه الصلاة والسلام، في تعامله مع صحابته، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتحرّى ذكر خواصّ بعضهم، والثناء عليهم بخصائصهم ومميزاتهم، ليُقدّموا على من لا يساويهم، ويقتدي بهم من هو دونهم، والأحاديث النبوية في ذلك معروفة ومشهورة، ولا ننسى الآيات التي نصّت على قيمة مجموعهم، وقامة أفرادهم، فيما الوحي "بالبث الحي" يلامس شغاف قلوبهم، ويشنف آذانهم بالذكر الحسن على لسان نبيهم عليه الصلاة والسلام..

سيقول قائل: (ذاك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن ومعاذ وزيد وأبيّ وأبو عبيدة.. من مثلهم في الإيمان والتطامن والتواضع والتوازن النفسي؟ّ!).. لا أحد مثلهم، لكننا نريد أن نتربى على ما تربوا عليه، لنشبههم.. فهم نجوم طريقنا، وهداة مسيرنا، ولنا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يعيننا على اقتفاء آثارهم، "إن تكفّلتنا أيدي المربين المهتدين بهدي صاحب الرسالة".. هم تربوا ليسمعوا، واستمروا في العمل، ونحن نتربى لنعمل، ونعمل، ونعمل، دون أن نسمع كلمة "لوجه الله"، خشية العجب، وفقدان التوازن، وعندما تقال، نكون قد فقدنا حاسة السمع، للأسف!

فإن كنتم تخشون اغترار البعض بالثناء الحيّ، وتكبّره، أو كنتم تخافون انكفاء البعض عن مداومة العمل، والاكتفاء بما كان، أو كنتم تحرصون على نقاء السريرة، وصفاء النوايا، وتوحيد الوجهة، فلم لا تعملون على تحصين النفوس من الوقوع في ذلك، من خلال مجالس تزكوية روحية، وبرامج تربوية إرشادية، ومناهج نفسية اجتماعية، بدل أن تخففوا الحمل عن أنفسكم، وتتذرعوا بضعف النفوس، وتحرموا أصحاب المواهب من سماع "مُعجّل البشرى"، وتحولوه إلى "مؤجَّل الذكرى"؟! ستذكرونهم في وقت، لن تروا فيه لمعة عيونهم، ولن تشعروا بانتعاشة أنفاسهم، ولن تلمسوا يد الخير التي ستبادر من جديد..

لقد كان الأجدر بنا أن نشهد لهم في حياتهم، ونسمعهم كلماتنا المؤثرة، ونحتفل برفقتهم، ونكرّمهم بوجودهم، بعد أن نعلّمهم كيف يردّون على الثناء الصالح، ليحافظوا على استقرارهم النفسي..

قولوا ما ترونه حقاً وعدلاً، واستشعروا ما سيردّدونه سرّاً: (اللهم إن هؤلاء لا يعرفونني، وأنت تعرفني، فاغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون).. قبل أن تتكلموا، وهم تحت التراب صامتون ساكنون..

ولنقل: كم أنتَ.. وكم أنتِ.. ولا ننتظر قد كنتَ، وقد كنتِ، فالغبن في هذا لا يُعوض.. والندم على فواته مؤلم موجع..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين