مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (84)

﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 100]

السؤال الأول:

في قوله تعالى: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ) [البقرة:100] لِمَ عبّر الله تعالى عن نقض اليهود للعهد والميثاق بالنبذ؟

الجواب:

النبذ: هو الطرح والإلقاء مع الاحتقار، فما علاقة الطرح بنقض الميثاق؟ لقد جعل الله تعالى العهد والميثاق الذي أقرّ به اليهود بكتاب أحكموا قبضته بيدهم حتى لا يقع، ولكنهم سرعان ما تخلوا عن عهدهم وألقوا هذا الكتاب وطرحوه أرضاً إشارة إلى نقضهم للميثاق.

السؤال الثاني:

ما أهم دلالات هذه الآية ؟ 

الجواب:

1ـ لفظة(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا) واو العطف دخلت عليه همزة الاستفهام الإنكاري , و( واو ) العطف على محذوف بتقدير : أكفروا بالآيات والبينات وكلّما عاهدوا ؟ و( كلّما ) ظرف زمان يتضمن معنى الشرط ويفيد التكرار . والمقصود من هذا الاستفهام الإنكار وإعظام ما يقدمون عليه . 

2ـ قوله تعالى : (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا) أي :عهد بعد عهدٍ نقضوه ونبذوه , وأنّ ذلك ليس ببدع منهم , بل هي سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم .

وها نحن نعيش اليوم معاهدات بين اليهود والفلسطينين منذ سنوات طويلة إلى كتابة هذه السطور , وكلّما عاهد فريقٌ منهم عهداً نبذه فريقٌ آخر .

3ـ قوله تعالى : (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) لأنّ في جملة من عاهد من آمن أو يجوز أن يؤمن , فلمّا لم يكن ذلك صفة جميعهم خصّ الفريق بالذكر .

4ـ ثم لمّا كان يجوز أن يُظن أن ذلك الفريق هم الأقلون بيّن أنهم الأكثرون فقال : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) أي أكثر أولئك الفساق لا يصدقون بك أبداً لحسدهم وبغيهم , وهم أيضاً لا يصدّقون بكتابهم ولا يعملون بموجبه ومقتضاه , فوصفهم بعدم الإيمان حالاً ومآلاً .

(وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [البقرة:101]

السؤال الأول:

ما الفرق بين (أُوتُوا الْكِتَابَ) و (آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) في الاستعمال القرآني؟

الجواب:

وردت جملة (أُوتُوا الْكِتَابَ) في القرآن الكريم في ( 18) موضعاً في ( 16) آية , بينما وردت جملة (آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) في (8) مواضع في (8) آيات . والقرآن الكريم يستعمل جملة (أُوتُوا الْكِتَابَ) في مقام الذم , كما في الآيات :[ البقرة 101ـ 145 ـ آل عمران 100ـ النساء 44ـ البينة 4 ] ويستعمل جملة (آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) في مقام المدح , كما في الآيات: [ البقرة 121 ـ 146 ـ الأنعام 20 ـ 89 ـ 114 ـ الرعد 36 ـ القصص 52 ـ العنكبوت 47 ] .

فالقرآن الكريم يستعمل(أُوتُوا الْكِتَابَ) في مقام الذم، ويستعمل (آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) في مقام المدح، وهذا خط عام في القرآن على كثرة ما ورد من (أوتوا الكتاب) و(آتيناهم الكتاب) فحيث قال: (أوتوا الكتاب) فهي في مقام الذم، وحيث قال: (آتيناهم الكتاب) في مقام الثناء والمدح. والقرآن الكريم له خصوصية خاصة في استخدام المفردات وإن لم تجرِ في سنن العربية.

شواهد قرآنية : (أوتوا الكتاب) :

قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [البقرة:101] هذا ذم .

قوله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البيِّنة:4] هذا ذم .

قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) [النساء:44] هذا ذم.

شواهد قرآنية : (آتيناهم الكتاب) :

قوله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) [البقرة:121] مدح .

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [الرعد:36] مدح.

والتعبير (أوتوا) في العربية لا يأتي في مقام الذم، وإنما هذا خاص بالقرآن الكريم.

وعموماً فإن الله رب العالمين يسند التفضل والخير لنفسه؛ ولذلك لما كان قوله تعالى: (آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) فيه ثناء وخير نسب الإيتاء إلى نفسه , بينما (أوتوا) فيها ذم، فنسبه للمجهول، نحو قوله تعالى :

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) [الجمعة:5] هذا ذم

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) [الشورى:14] . هذا ذم .

بينما قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) [فاطر:32] فهذا مدح.

والله أعلم .

السؤال الثاني:

ما أهم دلالات هذه الآية ؟ 

الجواب:

1ـ قوله تعالى: ( نَبَذَ فَرِيقٌ) أي رمى رميَ استخفاف بمثل ما يُرمى به وراء الظهر استغناء عنه.

2ـ قوله تعالى: (كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) قيل إنه التوارة , وقيل إنه القرآن :

آ ـ قوله تعالى : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) لو كان المُراد القرآن لم يكن لتخصيص الفريق معنى , لأنّ جميعهم لا يصدّقون بالقرآن .

ب ـ التوراة فيها دلائل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لما فيه من النعت والصفة , وفيه وجوب الإيمان به , ثم عدلوا عنه فكانوا نابذين للتوراة .

3ـ قوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) فيه دلالة على أنهم نبذوه عن علم ومعرفة وليس عن جهل .

قال السُّدّي في معنى الآية : ولمّا جاءهم محمدٌ عليه الصلاة والسلام عارضوه بالتوراة , فاتفقت التوراة والقرآن , فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف , وسِحر هاروت وماروت , كأنهم لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه .

والله أعلم .

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين