الأرْك معركة أندلسية ظافرة

بدأ دخول الإسلام إلى شبه جزيرة إيبريا (التي أصبحت بعدئذ دولة الأندلس) في عهد الوليد بن عبد الملك (86-96هـ) حيث أرسل والي بلاد المغرب موسى بن نصير جيشاً صغير العدد، قوامه 7000 مقاتل بقيادة القائد العسكري العظيم طارق بن زياد إلى إيبريا وتمكّن من الانتصار في معركة وادي لكّة في رمضان 92هـ = تموز 711م، وقتل "لذريق" ملك تلك البلاد.

واستمرت الفتوحات في الممالك القائمة حتى إن القائد عبد الرحمن الغافقي وصل إلى حدود فرنسة، واستشهد هناك في معركة بلاط الشهداء في رمضان 114هـ = 732م.

ولما سقطت الدولة الأموية سنة 132هـ تمكّن عبد الرحمن الداخل (عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك) المعروف بصقر قريش (113-172هـ) من جعل الأندلس دولة مستقلة، امتداداً زمنياً لدولة بني أمية، وكانت هذه الدولة منارة للعلم والعمران، وكانت تدخل في معارك مع الدويلات النصرانية بين الحين والآخر، وكانت تزدهر كلما التزمت شرع الله وتوجهت قلوب أمرائها نحو رضوان الله وتوحّدوا في وجه الصليبيين، وتنتكس كلما أغرقت في الترف واللهو، وتصارع أمراؤها، وتحالف بعضهم مع الصليبيين ضد إخوانه، وهكذا حتى سقطت سنة 897هـ = 1492م، فقد استمرت ثمانية قرون كاملة (92-897هـ = 711-1492م).

وكان من المعارك الظافرة التي خاضتها معركة الأرْك. بقيادة يعقوب بن عبد المؤمن قائد الموحدين (الذي لُقّب بالمنصور)، وكانت معاصرة لمعركة حطين التي دحر فيها القائد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الصليبيين في بلاد الشام عام 583هـ = 1187م.

فقد حدثت معركة الأرك عام 591هـ = 1195م. وكان سببها أن "ألفونسو الثامن" ملك قشتالة كان قد وقّع معاهدة مع يعقوب المنصور سنة 586هـ لكن رأى أن ينقض هذا العهد اغتراراً بقوته بمقابل ما يراه من تناحر أمراء الأندلس وضعفهم، فأرسل رسالة إلى المنصور يستفزّه فيها ويهدّده لعلّه يخضع له. ولم يكتفِ بالرسالة بل شفعها ببعض الغارات على مناطق للمسلمين أهلكت زروعهم، وغنمت منهم الأموال، وسَبَت الذراري.

يقول ألفونسو في رسالته ليعقوب المنصور: "باسمك اللهم فاطر السماوات والأرض، وصلّى الله على السيد المسيح، روح الله وكلمته السيد الفصيح، أما بعد: فإنه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب، أنك أمير الملّة الحنيفية، كما أني أمير الملّة النصرانية. وقد علمتَ ما عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية... وأنا أسومهم بحكم القهر وخلاء الديار، وأسبي الذراري، وأُمثّل بالرجال وأذيقهم شديد النكال، ولا عذر لك في التخلف عن نصرهم إذا أمكنتك يد القُدرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا، فلا تستطيعون دفاعاً، ولا تملكون امتناعاً... فلا أدري أكان الجُبن أبطأ بك، أم التكذيب بوعد ربك... وأنا أتحداك أن ترسل إليّ جملة من عبيدك بالمراكب، وأجوز بحملتي إليك فأقاتلك في أعزّ الأماكن لديك، فإن كان النصر لك فغنيمة كبيرة جلبت إليك، وإن كان الفوز لي كانت يدي العليا عليك، واستحققتُ إمارة الملّتين والحكم على البرّين...". [اهـ مختصراً].

فلما قرأ المنصور الكتاب أخذته غَيرة الإسلام وأمر بقراءته على الموحدين والعرب وسائر الأجناد، فعزموا على الجهاد. وكتب على ظهر كتاب ألفونسو، رداً شديداً، بدأه بقول الله تعالى: (ارجع إليهم فَلَنَأتينّهم بجنودٍ لا قِبَلَ لهم بها، ولنُخرِجَنّهم منها أذلّةً وهم صاغرون). {سورة النمل: 37}، الجواب ما ترى، لا ما تسمع.

ثم عبر المنصور بجموع المسلمين من العرب والبربر، في جمادى الأولى 591هـ، وتجهّز ألفونسو في جموع ضخمة جمعها من سائر الممالك التي استردّوها من المسلمين حتى ذلك الحين. والتقى الجيشان في موقع الأرْك بالقرب من قلعة رباح، إلى الشرق من مكان موقعة الزلاقة، وكانت الدائرة، في البداية، على المسلمين، فقُتل منهم عشرون ألفاً! ثم كانت على الكافرين، فهزمهم الله شر هزيمة، وقُتل منهم 140 ألف مقاتل، وأُسر ثلاثة عشر ألفاً، وغنم منهم المسلمون شيئاً كثيراً. من ذلك 143 ألف خيمة، و46 ألف فرس، و100 ألف بغل، و100 ألف حمار، و70 ألفاً من السلاح، ومن العُدَد شيء كثير. وملك المسلمون الكثير من حصونهم، وهرب ألفونسو إلى طليطلة في أسوأ حال، فحلق رأسه ولحيته، ونكّس صليبه، وحلف ألا ينام على فراش، ولا يقرب النساء، ولا يركب فرساً ولا دابّة حتى يثأر لهذه الهزيمة النكراء، ثم صار يجمع النصارى ويحشدهم للثأر، لكن المنصور لحق به إلى مكان جمعه وهزمه مرة أخرى.

لقد كانت هذه المعركة محطة استردّ فيها المسلمون بعض الهيبة التي تليق بأهل الإيمان، وبرهنت على أنهم أهل العزّ والنصر والتمكين طالما وحّدوا صفوفهم، ورفعوا راية الجهاد في سبيل الله.

(ولَيَنصرنّ الله مَن ينصُرُه. إنّ الله لقوي عزيز).

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين