مقدمة العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة للتفسير الحديث للأستاذ محمد عزة دروزة

 من عبد الفتاح أبو غدة إلى الأستاذ الفاضل السيد محمد عزة بك دروزة سلّمه المولى، ونفع به وبآثاره آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛ فأرجو أن تكونوا بخير من الله وعافية، تسلّمت من الأستاذ السيد عمر بك الأميري مؤلفكم العظيم «التفسير الحديث» ، وشرح لي رغبتكم في المشاركة بخدمة القرآن الكريم، وإني لحريص على أن يكون لي هذا الشرف الكبير، ولكن كما حدثت الأستاذ عمر بك: شواغلي وواجباتي كثيرة تحول بيني وبين هذه الأمنية الغالية لدي.

وإني إذ أعتذر بكل أسف لعدم تمكني من القيام بهذه الخدمة الجليلة لكتاب الله تعالى، أذكر لكم أستاذا من كرام إخواني وأحبائي، وهو خير مني لهذا العمل وأجدر به، بما آتاه الله من سعة في الوقت، وبسطة في المعرفة والاطلاع، ومتانة في الأسلوب واللغة، وأناة في حلّ المشكلات وتتبع المعضلات، وهو الأستاذ الشيخ محمد فوزي فيض الله، أخي وزميلي في مراحل التحصيل كلها في حلب والأزهر، ويقوم الآن بتدريس الفقه الحنفي في كلية الشريعة بالجامعة السورية خير قيام، ولديه فوق ما ذكرت من طيب النفس وحسن السيرة ما يزيدكم حبّا به واعتمادا عليه إلى الحدّ المرتضى إن شاء الله.

وقد اتصلت به بعد زيارتكم يوم كنت بدمشق، وحدثته بهذا العمل الجليل فاعتذر أولا بمهامّ التدريس التي يقوم بها، ثم قبل أن يقوم بالعمل بعد أن يقف على الجهد العلمي الذي يتطلبه الكتاب، وقد اتفقت معه أن نزوركم إذا بقيت في دمشق، ثم أعجلني الوقت فسافرت ولم نتمكن من زيارتكم، وها أنا ذا أرسل هذا الكتاب مع «الجزء الأول» من التفسير إليه ليكون وسيلة طيبة لزيارتكم والالتقاء بكم.

وكان الأستاذ عمر بك سألني في حديثه عن كتابكم هذا عن صنيعكم في ترتيب السور المفسرة إذ بدأتم بها حسب النزول لا حسب تدوينها الآن في المصحف الشريف، فذكرت له أني لا أرى مانعا من ذلك فيما أعلم، وعلى من قال أو رأى غير هذا الرأي أن يدلي بما يستند إليه في المنع فأكون له من الشاكرين.

وحينما سعدت بزيارتكم في دمشق ذكرتم لي أن أحد أصدقائكم العلماء الأفاضل في فلسطين قد رغبتم منه أن يشارككم في خدمة هذا التفسير الكريم، فأبدى لكم أطيب الاستعداد لذلك، غير أنه توقف من أجل طريقتكم في ترتيب السور المفسرة بحسب النزول، فإنه يراها طريقة غير سائغة في رأيه، وليتني وقفت على مستنده في هذا الرأي لأرجع عن رأيي الذي لا أزال أراه صوابًا حتى يقوم الدليل على خلافه.

وإني أذكر لكم هنا ما يحضرني الآن مما يؤكد جواز صنيعكم، ولعل فيه مقنعا لمن قد يرى غير الذي أرى، والله ولي التسديد والتوفيق.

إن شبهة المنع لهذه الطريقة آتية من جهة أنها طريقة تخالف ما عليه المصحف الشريف اليوم من الترتيب المجمع عليه والمتواتر إلى الأمة نقله جيلا بعد جيل. ودفع هذه الشبهة أن المنع يثبت فيما لو كان هذا الصنيع مسلوكا من أجل أن يكون هذا الترتيب «مصحفا» للتلاوة، أي ليتلو الناس القرآن على هذا النحو الذي سلكتموه، أمّا وإن الغرض للمفسر والقارئ معا غير هذا، فلا مانع من سلوكه إطلاقا.

ويستأنس لسواغية هذه الطريقة بما سلكه أجلّة من علماء الأمة المشهود لهم بالإمامة والقدوة من المتقدمين في تآليفهم، ولم يعلم أن أحدا أنكر عليهم ما صنعوا، ويحضرني منهم الآن الإمام ابن قتيبة المتوفى سنة 276 من الهجرة، فقد مشى في تفسير ما فسره في كتابه المطبوع «تأويل مشكل القرآن» على غير ترتيب النزول وعلى غير الترتيب المتلو الآن، ويبدو هذا جليا فيه ب ص 240- 339، ولا أشك أن هناك غيره من شاركه في هذه الطريقة من علماء عصره وما بعده، ممن لا يسعني الآن البحث عنهم، لضيق الوقت لديّ.

على أن القول بالمنع تبعا لهذه النظرة الضيقة ينبغي أن يشمل ما سلكه الشيخ جلال الدين المحلّي ثم جلال الدين السيوطي في تفسيرهما المعروف بتفسير الجلالين، إذ قد بدأ الأول بالتفسير من آخر القرآن الكريم وهو صاعدا إلى سورة الكهف، ثم مات فأتم الجلال السيوطي من حيث وقف سلفه إلى أول القرآن الكريم، فهما لم يراعيا في مسلكهما هذا: البدء على ترتيب القرآن من أوله إلى آخره. وكذلك ينبغي أن يشمل ما صنعه الشيخ عبد الوهاب النجار في كتابه «قصص الأنبياء» والشيخ محمد أحمد العدوي في كتابه «دعوة الرسل إلى الله» ، فهما أيضا لم يراعيا في مواضيع كتابيهما ترتيب القرآن المتلو اليوم، بل راعيا اعتبارا آخر، وكذلك ينبغي أن يتناول المنع كتابكم «الدستور القرآني في شؤون الحياة» ، فقد سلكتم فيه نحو طريقتكم في التفسير من جمع طائفة من الآيات الكريمة في صعيد واحد، ثم تفسيرها وبيان ما تلهمه من المعاني الكريمة، فهل يصح أن يقال: إنكم مع من ذكرنا قد خالفتم ترتيب كتاب الله تعالى، وجافيتم الحق المشروع؟

فإن قيل: هناك فارق بين صنيعكم هناك في «الدستور» وصنيعكم هنا في «التفسير» ، فإن الأول يمكن أن يجعل من باب التأليف على اعتبار وحدة الموضوع التي ينظر فيها إلى مدلول الآيات فحسب، وأما الثاني فإن النظر فيه متجه إلى مراعاة النزول فحسب، فالجواب: فليجعل هذا أيضا من باب وحدة الموضوع بين السورة والسورة من حيث زمن نزولها سابقة أو لاحقة.

ثم إن المنع إنما يتجه القول به لدى قائله إذا كان ترتيب السور توقيفيا لا دخل للاجتهاد فيه، ولكن السيوطي رحمه الله تعالى قد حكى في كتابه «الإتقان» عن جمهور العلماء أن ترتيب السور اجتهاد من الصحابة، لا وليس هو بتوقيف من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا نص عبارته (1/ 62) :

«وأما ترتيب السور فهل هو توقيفي أيضا أو هو باجتهاد من الصحابة؟

خلاف، فجمهور العلماء على الثاني، منهم مالك والقاضي أبو بكر في أحد قوليه، قال ابن فارس: جمع القرآن على ضربين، أحدهما تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين، فهذا هو الذي تولته الصحابة، وأما الجمع الآخر، وهو جمع الآيات في السور فهو توقيفي تولاه النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه، وما استدل به لذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور، فمنهم من رتبها على النزول، ومصحف عليّ كان أوله «اقرأ» ثم المدثر ثم نون ثم المزمل ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي والمدني.

وكان أول مصحف ابن مسعود: البقرة ثم النساء ثم آل عمران، على اختلاف شديد وكذا مصحف أبيّ وغيره، ثم ساق السيوطي رحمه الله بعد نحو صفحتين صورة عن الترتيب الذي في مصحف أبي بن كعب ومصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.

قلت: وإذا كان الأمر في ترتيب السور في المصحف اجتهاديًّا، وجمهرة العلماء عليه، فلا يقوم للقول بالمنع وجه في مراعاة النزول في التفسير وفي غير المصحف.

وجاء في كتاب «فرائد فوائد قلائد المرجان، وموارد مقاصد منسوخ القرآن» للشيخ مرعي بن يوسف المقدسي الحنبلي (مخطوط عندي) ما صورته:

«ذكر ترتيب السور: وقد وقع فيه خلاف كبير بين العلماء، هل هو بالنص أو بالاجتهاد؟ فمنهم من قال: إن ترتيب السور كان بتوقيف من جبريل عليه السلام، ومنهم من قال: إن زيد بن ثابت هو الذي رتب السور بمشاركة من عثمان ومن معه.

قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: ترتيب السور بالاجتهاد لا بالنص في قول جمهور العلماء من الحنابلة والمالكية والشافعية، فيجوز قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة، ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة في كتابتها، لكن لما اتفقوا على المصحف زمن عثمان صار هذا مما سنَّه الخلفاء الراشدون، وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب اتباعها» اه.

وواضح كل الوضوح أن محل اتباع هذه السنة التي يجب اتباعها إنما هو في كتابة المصحف الذي يكون للتلاوة والقراءة، لا في كتابة تفسير وشرح لمعاني الآيات والسور الكريمة، فإن ذلك غير داخل في موضوع اختلاف العلماء أو اتفاقهم إطلاقا، بل هم فيما أرى متفقون على سواغيته وجوازه، والله تعالى أعلم.

هذا ما حضرني الآن كتابته في هذا الصدد كتبته لكم راجيا المولى أن يسددنا إلى الحق والصواب، ويهدينا سواء السبيل. وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حلب البياضة الأحد 19/ من ذي القعدة سنة 1376.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين