نداء ناصح

أعلمني بعض الإخوان الطلاب بوجود خطأ علمي في التفسيرين الجديدين وهما: «في ظلال القرآن» و«التفسير الواضح»، أثناء شرح قول الله تعالى: [إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ] {آل عمران:55}. وإليكم ما جاء فيها ثم رد الخطأ منه:

قال في الصحيفة 76 من الجزء الثالث من تفسير: «في ظلال القرآن»: «لقد أرادوا قتل عيسى وصلبه، وأراد الله أن يتوفاه وفاةً عادية، وأن يرفعه إليه كما يرفع أرواح الصالحين من عباده، وأن يطهِّره من مخالطة الذين كفروا ومن البقاء بينهم وهم رجس ودنس، وأن يكرمه فيجعل الذين اتَّبعوه فوق الذين كفروا. وما يزال المسيحيون أعلى من اليهود حتى يومنا هذا وحتى يوم القيامة كما وعد الله. متى كانوا مسيحيين حقاً ومتَّبعين لتعاليم عيسى» اهـ.

وقال في الصحيفة 56 من الجزء الثالث من التفسير «الواضح»: مكر الله بهم إذ قال الله: يا عيسى إني موافيك أجلك كاملاً ولن يعتدي عليك معتد أبداً، فهذه بشارة له بنجاته من مكرهم وتدبيرهم، ورافعك في مكان عليٍّ، فالرفع رفع مكانة لا مكان، كما قال في شأن إدريس: [وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا] {مريم:57}. وكقوله في المؤمنين: [فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ] {القمر:55}. فليس المعنى- والله أعلم به- أن عيسى رفع إلى السماء، وأنه سينزل إلى آخر الدنيا حتى يستوفي أجله ثم يموت. وهناك رأي آخر في مسألة الرفع»اهـ.

ووجه الرد أن الوفاة مراد بها هنا الرفع حياً إلى السماء إما حال النوم كما قال به بعض الأئمة، وإما يقظة وهو الصحيح، وقد اتفقوا كلهم على هذا الرفع بالجسد والروح إلا وهب بن منبه الذي قال بموته عليه السلام ثلاث ساعات رفع خلالها إلى السماء ثم أحياه الله فيها، وإلا ابن حزم الظاهري الذي قال بموته ورفعه بجسده ثم إحيائه في آخر الزمان فيقتل، ولم يوافق ابن حزم في النزول كافة علماء المسلمين سلفاً وخلفاً للأحاديث النبوية التي تواترت وبلغت نحواً من سبعين حديثاً شريفاً، وللآثار التي فشت عن الصحابة وقد قاربت خمسين أثراً ولها حكم الأحاديث المرفوعة؛ لأن الرأي لا مجال له في هذا الأمر الغيبي الذي أخبرنا به النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.

وهذي كتب التفسير والحديث لا يخفى ما فيها على من يأتي البيوت من أبوابها، ويلتمس المعرفة من منابعها الصافية إن نظراً فيها من قلب سليم يجتثُّ كل شبهة في الأمر، ويقضي على كل ريب فيه فلا يكون إلا سَيْر مع قافلة أهل الحق الذين ما قالوا برفع سيدنا عيسى عليه السلام حياً إلى السماء ثم نزوله آخراً إلا بعد ما جاءهم فيه البراهين النقلية مثل فلق الصبح.

وليست كلمة متوفيك دليلاً للقول بموته، ذلك أن التوفّي لغة: قبض الشيء واستيفاؤه، وهو كما يكون للروح بالموت يكون لها بالنوم: [اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا] {الزُّمر:42}. ويكون أيضاً لقبض الدَّين وقبض الأجر فهو مشترك معنوي إذا أريد به أحد أفراده قُرن بما يفيد تعيينه وبغير هذا لا يمكن القطع بمعنى معين له.

وتبادر معنى الوفاة إلى أذهاننا عرف حادث لا يقاوم عرف العرب وقت نزول القرآن الكريم، وكيف وقد روى الأئمة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن عيسى لم يمت وأنه راجع إليكم قبل يوم القيامة»، واستدلوا بصريح قوله تعالى: [بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] {النساء:158}. والرفع حقيقة فيما كان جسداً وروحاً، ولا دليل على الروحاني فقط الحاصل لغيره عليه السلام ممَّن قتل أو مات لأنَّ إماتته تحصيل لغرض اليهود الذين أرادوا قتله وصلبه فأنجاه الله وطهَّره منهم فلم تنله أيديهم بسوء وألقى الله الشبه على غيره فقتلوه وصلبوه ظانين أنه هو وما هو به، وإن ختم الله الآية بقوله: [ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] {النساء:158} . تعزيز لمعنى الإنجاء بالرفع وتوكيد له بالتمدُّح وهل يكون تمدح بالأمانة وتحصيل غرض العدو من إزهاق الروح.

وبعد فالأمر متعالم مشهور وهو نقلي ليس لنا إلا التسليم له والاتباع، وعليه أجمعت الأمة كما قال ابن عطية وغيره قبل أن يكون هذا الشذوذ في الفهم وهذي المخالفة للجماعة.

والكلمة الآن لا تتسع لإيراد النقول بحذافيرها وحسب الموفق هذا القدر.

وفوقية الذين اتبعوا عيسى عليه السلام على الذين كفروا حاصلة لأهل الإسلام الذين آمنوا بأنه عبد الله ورسوله وهم متتابعون على الأزمان والقرون من عهده عليه الصلاة والسلام حتى بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأدركته بقايا منهم.

والأمة المحمدية تؤمن بعيسى كما آمن به قومه دون غلو الغالين الذين ردَّ القرآن الكريم غلوهم أقوى رد. 

أهل الإيمان في كل زمان فوق الذين كفروا حجَّة وبرهاناً وكانت لهم فوقيَّة سياسية أيضاً قبل الانتكاس الأخير.

على أن بعضاً من المفسرين جنح إلى أن المراد بـ[الذين اتبعوه] من يدعون اتباعه ومحبته وإن لم يكونوا على ملته الصحيحة والنصارى منهم، و[الذين كفروا] مفسرة لدى هذا البعض باليهود خاصة لخصوص المقام والقرينة.

إلا أنَّ الوجه الأول هو الذي يتعيَّن التزامه فأهل الإسلام في كل زمن هم الذين اتبعوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأن تعاليم عيسى عليه الصلاة والسلام تقضي باتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "والذين نفسي بيده لا يسمع في أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".

وقال الله تعالى: [وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] {آل عمران:85}. صدق ا لله العظيم .

وما كان وراء ذلك فلا ينبغي أن يكون في ظلال القرآن ولا يصح إيواؤه إليه وهو ينادي بخلافه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: مجلة الشهاب، العدد(27) من السنة الاولى 1375هـ=1955م.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين