حدث في الثاني والعشرين من ربيع الأول: الملك الكامل الأيوبي يتفق على تسليم القدس للصليبيين

في الثاني والعشرين من ربيع الأول من سنة 626 وقع الملك الأيوبي الكامل ابن الملك العادل اتفاقية لتسليم القدس للإمبراطور فردريك الثاني، عاهل الإمبراطورية الألمانية المقدسة، بعد مفاوضات دامت شهوراً وانتهت باتفاقية سلم فيها الملك الكامل القدس للفرنج مقابل ألا ينقضوا عليه وأن يقفوا معه في صراعه مع إخوته.

كيف وصلت الأمور أن يقوم ابن أخي صلاح الدين الأيوبي بتسليم القدس للصليييين بعد قرابة 40 من تحرير المسلمين لها على يد صلاح الدين في سنة 583؟! الجواب في نبوءة القاضي الفاضل عندما أعلن وفاة صلاح الدين سنة 589 لأبنائه وعشيرته وقال في كتابه: إن وقع اتفاقٌ فما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم.

ذلك إن صلاح الدين رحمه الله كان قبل وفاته قد جعل أولاده ملوكاً على بلاد ومناطق الشام ومصر، وأخاه الملك العادل على الكرك والشوبك وإقليم شرق الأردن، وكان أولاده صغاراً أكبرهم الملك الأفضل نور الدين علي، الذي استقر في ملك دمشق عمره 23 عاماً، وكان كبير العائلة عمهم الملك العادل الذي كان عمره آنذاك 49 عاماً، وكان محنكاً ذا خبرة ناب عن صلاح الدين في حياته في مصر والشام.

وقد سبب هذا التوزيع عدة مشاكل تفاقمت بعد وفاة صلاح الدين، أولها أن الدولة الأيوبية بقيت دون إدارة مركزية، بل مجموعة دول ودويلات هي أشبه بما نسميه اليوم بالدولة الاتحادية، وربط هذه المجموعة وتوحيد قرارها يتطلب مقدرة سياسية ومهارة إدارية، هذا في وقت السلم، فكيف والأعداء ما زالوا يتربصون بهذه الكيانات الدوائر، وينتهزون الفرصة للانقضاض عليها وانتقاصها؟! وثانيها أنه ترك الدولة الإيوبية دون منهج واضح يقرر طريقة توارث الحكم بين أفرادها أو حل خلافاتها، وثالثها عدم جامعة تلم شأنها وتوزع الأعباء بينها وبخاصة في حالة هجوم الأعداء عليها، وقد ساهمت هذه العوامل في بقاء واستقرار الفرنجة في الساحل السوري بعد وفاة صلاح الدين، ونشطوا عندما دب الخلف بين الأبناء والأحفاد.

ووقع الخلاف بين البنين وبين عمهم في الباطن أولا، ثم خرج إلى العلن، ذلك إن ابن صلاح الدين الملك الأفضل استوزر ضياء الدين ابن الأثير، نصر الله بن محمد الجزري، المولود سنة 558 والمتوفى سنة 637، فحسن له طرد أمراء أبيه لينفرد الوزير بالملك الأفضل، فانفض الأمراء عنه إلى أخويه الملك العزيز عثمان بمصر والملك الظاهر بحلب، وحسنوا للملك العزيز الانفراد بالسلطنة، وحدثوه عن سوء سيرة أخيه الأفضل، فحصلت الوحشة بين الأخوين واستحكم الفتور،وسار العزيز في عسكر مصر في سنة 590 وحصر أخاه الأفضل بدمشق عشرة أشهر وقطع الماء عنها، فأرسل الأفضل إلى عمه العادل وأخيه الظاهر وابن عمه الملك المنصور صاحب حماة يستنجدهم، فساروا إلى دمشق وأصلحوا بين الأخوين وعاد كل ملك إلى بلده، وعاد الأفضل إلى اللهو واللعب، واحتجب عن الرعية وانقطع إلى لَذّاته، فسمي الملك النَّوام، واستبدل وزيرُه وحاجبُه أراذل الناس بكبراء الأمراء والأجناد ففسدت أمور العباد. 

وفي السنة التالية عاد الملك العزيز وقصد الشام من مصر، فاضطرب عليه بعض عسكره وفارقوه، فعاد إلى مصر، وكان الملك الأفضل ابن صلاح الدين قد استنجد بعمه العادل لما قصده أخوه، فلما عاد أخوه الملك العزيز إلى مصر، رحل الملك الأفضل وعمه العادل وساروا في إثره حتى نزلوا على بلبيس قرب القاهرة، وأراد الملك الأفضل مهاجمة أخيه الملك العزيز وانتزاع مصر منه، فمنعه عمه العادل وقال: مصر لك متى شئت. 

وطلب العم العادل من ابن أخيه الملك العزيز أن يرسل القاضي الفاضل ليصلح بين الأخوين، وكان قد اعتزل عن ملابسة أولاد صلاح الدين لما رأى من فساد أحوالهم، ففعل وتوجه القاضي الفاضل من القاهرة إلى الملك العادل واجتمع به واتفقا على أن يصلحا بين الأخوين فأصلحا بينهما.

وأقام الملك العادل بمصر عند الملك العزيز ابن أخيه ليقرر أمور مملكته، وعاد الأفضل إلى دمشق وأموره بيد الجزري يدبرها برأيه حتى كثر شاكوه وقل شاكروه، وكتب أعيان الدولةيشكونه إلى عمه العادل لكونه كبير العائلة الأيوبية، فأرسل العادل إلى الأفضل يقول: ارفع يد هذا الأحمق السييء التدبير، القليل التوفيق. فلم يلتفت لرأيه، فاتفق العم الملك العادل مع ابن أخيه الملك العزيز في سنة 592 على المسير إلى الشام وتأديب الملك الأفضل، ولما بلغت الأخبار الأفضل استشار أصحابه فأشاروا عليه ألا يخالف عمه وأخاه إلا الوزير الجزري فإنه أشار عليه بالعصيان.

واتفق العادل مع العزيز على أن يأخذا دمشق وأن يسلمها العزيز إلى العادل، ولما نزلا على دمشق وقد حصَّنها الأفضل، كاتب بعض الأمراء الملك العادل وسلموا المدينة إليه، واستسلم الملك الأفضل لمصيره وسلم دمشق لعمه العادل وفق تسوية تضمنت أن يكون ثلث البلاد للعادل والثلثان للأفضل وهو السلطان، وتكون الخطبة والسكة للملك العزيز في جميع المملكة كما كانت لأبيه، وخرج الملك الأفضل إلى قلعة صرخد فسار إليها بأهله واستوطنها، وأخرج وزيرَه الجزري في الليل في صندوق خوفا عليه من القتل، فأخذ أموالا عظيمة وهرب إلى بلده.

وفي سنة 595 توفي الملك العزيز عثمان في مصر، وعمره 27 سنة، فأقاموا ولده الملك المنصور محمد، وعمره 9 سنين، واتفقت آراء كبار الأمراء على إحضار أحد بني أيوب ليقوم بالملك، وأشار القاضي الفاضل أن يؤتى بالملك الأفضل من صرخد ليكون أتابك الملك المنصور بن الملك العزيز، ولما وصل الأفضل إلى مصر كره ذلك كبير الأمراء وسار مع من تبعه إلى الشام لينضم إلى الملك العادل، وكان آنذاك يحاصر ماردين.

وأرسل ملك حلب الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين إلى أخيه الأفضل يشير عليه أن ينتهز فرصة اشتغال العادل بماردين، فيقصد دمشق ويأخذها من عمه العادل، فأخذ بنصيحته وسار إلى دمشق، فبلغ العادل مسيره فعاد إليها، ونزل الأفضل على دمشق وجرى بين العم وابن أخيه قتال، رجحت كفته لصالح الملك العادل، ثم وصل إلى الأفضل أخوه الظاهر، ومن المفارقات أنه زوج ابنة الملك العادل، فحاصرا دمشق زماناً وقطعوا عنها الأنهار وأحرقوا غلة حرستا في بيادرها، حتى شحت الأقوات فيها، فلجأ العادل للدهاء وبث الشقاق بين الأخوين، فبعث إلى الظاهر يقول له: أنا أسلم إليك دمشق على أن تكون أنت السلطان وتكون دمشق لك لا للأفضل. فطمع الظاهر وأرسل إلى الأفضل يقول: أنت صاحب مصر فآثرني بدمشق. فقال: دمشق لي من أبي، وإنما أخذت مني غصبا فلا أعطيها أحدا. 

وإزاء هذا الموقف انسحب الظاهر من قتال العادل في سنة 596، فانتهى الحصار، وسار الأفضل إلى مصر والظاهر إلى حلب، فخرج العادل من دمشق في إثر الأفضل إلى مصر، وهزمه وأجبره على تسليم مصر وطلب الأفضل لقاء ذلك أن يعوضه مناطق ميافارقين وسميساط، وهي اليوم المناطق الحدودية بين سورية وتركيا، فوافق العادل على ذلك ثم لم يف له به، وعاد الأفضل إلى صرخد.

وأقام العادل بمصر مدة يسيرة ثم أزال الملك المنصور واستقل في السلطنة، وخطب لنفسه ولولده الكامل محمد من بعده، وكان ذلك مبدأ سلطنة العادل، فإن الملكين الأخوين الظاهر والأفضل قبلا أن ينضويا تحت رايته ولكن ليس بعد محاولات تمرد باءت بالفشل، واستقر الأمر للعادل سنة 598، وانتظمت ديار الشام والشرق ومصر كلها في سلك ملكه وخطب له على منابرها وضربت السكة فيها باسمه، وأخذ في السنوات التالية يقلم أظافر أمراء الأقاليم المدن والحصون ويخضعهم لسلطانه الذي امتد من جنوبي تركيا اليوم إلى مصر والحرمين.

وكانت لا تزال للصليبيين بقايا في عكا وصور وطرابلس، وكانت تجري بينهم وبين الملك العادل مناوشات ومعارك من حين لآخر، غالباً ما كانت تنتهي بالتفاوض والتهادن مع بعض التنازلات من الطرفين، وكان العادل قد توصل بدهائه إلى أن يرشي نساء قواد الصليبيين بالجواهر والمصنوعات الدمشقية فينقلن له أخبار قومهن وما يزمعون القيام به من حملات صغيرة أو كبيرة، فيستعد لها ويحبطها.

ثم مالبثت الحملة الصليبية الخامسة أن وصلت من أوروبا إلى عكا في جمع عظيم في سنة 615 وانفسخت بذلك الهدنة بين المسلمين والفرنج، وخرج العادل بعساكر مصر ونزل على نابلس فسار الفرنج إليه وكان عددهم 15.000 مقاتل، ولم يكن معه من العساكر ما يقدر به على مقاتلتهم، فانسحب من وجههم وانطلقوا يشنون الغارات حتى وصلوا إلى صيدا فجزِّين على الساحل اللبناني.

واختلف ملوك الحملة الصليبية في الهدف التالي هل يكون دمشق أم مصر انتهازاً لفرصة وجود العادل في الشام، واستقر رأيهم على مهاجمة السواحل المصرية، ومقايضة القدس بما سيحتلونه، فهاجموا الساحل المصري، فنفر العادل في بلاد الشام وابنه الكامل في مصر لصد الهجمات الصليبية القائمة والمتوقعة، فسار الملك الكامل من القاهرة لمواجهتهم، وأرسل أبوه القوات التي عنده كذلك لتنضم إليه، وبقي هو في الشام.

وكان أول نجاح للصليبيين أن استولوا بعد قرابة 4 شهور على برج السلسلة في دمياط، وهو برج عليه سلسلة تمنع دخول السفن من البحر إلى النيل، وذلك أنهم بنوا مركباً بعلو سورها، وشحنوه من الرجال والسلاح وأجروه في البحر إلى أن اتصل بالبرج فوثبوا إليه واستولوا عليه، وظنوا أن النيل أصبح مفتوحاً أمام سفنهم، فأخذ الملك الكامل عدة مراكب كبار وملأها بالحجارة وأغرقها فسدت الطريق على مراكبهم، ولما جاء خبر سقوط البرج إلى الملك العادل وهو مرابط في حوران في منتصف سنة 615 تأثر كثيراً وتوفي على إثره، فجاء ابنه الملك المعظم عيسى من نابلس وكتم موته، وعاد به في محفة إلى دمشق، وحلف له الناس وكتب على جناح الطير إلى الملوك من إخوته يخبرهم بموته، وكان الحمام الزاجل الوسيلة الأساسية للاتصالات الرسمية في الدولة الأيوبية.

ولما بلغ خبرُ موتِ الملك العادل الجيشَ الأيوبي في دمياط، وقع الاختلاف فيه وطمع الأمير عماد الدين المشطوب في الملك وبدأ يخطط لخلع الملك الكامل الذي تضعضع موقفه واضطربت عزيمته، وفكر بترك البلاد والذهاب إلى اليمن، وبلغ أخاه المعظم ذلك فرحل من الشام ووصل إلى أخيه الكامل، وأخرج عماد الدين ونفاه من العسكر إلى الشام فانتظم أمر الكامل، وكان ثمن هذه الفتنة أن قويت شوكة الفرنج ووهنت نفوس المسلمين.

وكان الملك العادل الوريث الحقيقي لصلاح الدين من حيث رغبته في متابعة الجهاد وحركته الدائمة، ولو رصد المرء حركته في السنين التي تلت وفاة صلاح الدين لوجد أنه لم يكن له مقر دائم على الحقيقة، بل كان يذهب حيث كان وجوده ضرورة لصد عدو أو لرأب شمل.

وكان العادل كذلك قد قسم المملكة في حياته بين أولاده، فجعل بمصر الكامل محمدا، وبدمشق والقدس وطبرية والأردن والكرك وغيرها من الحصون المجاورة لها ابنه المعظم عيسى، وابنه الملك الأشرف موسى على الرها وحران، ولما توفي لم يجر مع أولاده ابتداءً من الاختلاف ما جرت العادة أن يجري بين أولاد الملوك بعد آبائهم، بل كانوا على قلب رجل واحد، كل منهم يثق بالآخر بحيث يحضر عنده منفردا من عسكره ولا يخافه. 

واحتل الفرنج دمياط في شعبان سنة 616 بعد أن هلك أهلها بالجوع والوباء، فشق ذلك على الملك الكامل ابن الملك العادل، وسار من القاهرة لمواجهتهم، وبنى مدينة المنصورة مقابلهم في البر على مفترق شعبتين من النيل تنتهي إحداهما في دمياط، وأرسل أبوه القوات التي عنده كذلك لتنضم إليه، وبقي هو في الشام، وفي سنة 618 بدا أن الفرنج في دمياط على وشك أن يأخذوا مدينة المنصورة، واشتد القتال بين الفريقين برا وبحرا وكتب الكامل إلى إخوته وأهل بيته يستحثهم على إنجاده، فساروا إليه بالمدد، وكان الكامل قد بدأ مفاوضات مع الفرنج، وبذل لهم مقابل الصلح واستعادة دمياط أن يسلمهم القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة وجميع ما فتحه صلاح الدين من الساحل ما عدا الكرك والشوبك، فلم يرض مبعوث البابا بذلك وأصرعلى تسليم الكرك والشوبك، وكان يعلق آماله على قدوم وشيك لفردريك الثاني يحققون به نصراً ساحقاً على المسلمين. 

وفي أثناء المفاوضات تمكنت جماعة من عسكر المسلمين ففتحوا من النيل في أثناء زيادته بثقاً صار حائلا بين الفرنج أمام المنصورة وبين عودتهم إلى دمياط، وانقطعت عنهم الميرة والمدد، وأحبط المسلمون محاولة بحرية لإمداد جيش دمياط بالمؤن والرجال، فاضطر الفرنج المحاصرون أن يطلبوا الأمان والصلح، ويقنعوا من الغنيمة بالإياب، وانتهت الحملة الصليبية الخامسة بالفشل الذريع، وتذكر المراجع الغربية أن ممن شارك في هذ الحملة الراهب فرانسيس الأسيسي، القديس فيما بعد، والذي ألح حتى سُمح له بمقابلة الملك الكامل وجرت بينهم مناقشات دينية. 

فال المؤرخون المسلمون: لما تقرر الصلح جلس الملك الكامل في خيمته، وحضر عنده الملوك، فكان على يمين السلطان صاحبُ الملك حمص المُجاهد، ودونه الملك الأشرف شاه أرمن، ودونه الملك المعظم عيسى، ودونه صاحب حماة، ودونه الحافظ صاحب جعبر، ومُقدم نجدة حلب، ومُقدم نجدة الموصل، ومُقدم نجدة ماردين، ومقدّم نجدة إربل، ومقدم نجدة ميافارقين، وكان على يساره نائب البابا، وصاحب عكا، وصاحب قبرص، وصاحب طرابلس، وصاحب صيدا، وعشرون كوُنْت لهم قلاع في المغرب، ومقدم الداوية، ومُقدم الإسبتار، وكان يوماً مشهوداً، فرسم السلطان بمبايعتهم وكان يحمل إليهم في كل يوم خمسين ألف رغيف، ومئتي إردب شعير... فركب السلطان ومعه صاحب عكا فأخرج السلطان من صدر قبائه صليب التابوت، الذي كان صلاح الدين أخذه من خزائن خلفاء مصر فلما رآه صاحب عكا رمى بنفسه إلى الأرض، وشكر السلطان، وقال: هذا عندنا أعظم من دمياط. وقال له السلطان: خذ هذا تذكاراً من عندي، واركب في مركب، ورُح أنفذ رهائننا. فلم يفعل، وبعث الصّليب مع قسيس.

وبعد زوال خطر الفرنج الداهم بدأ الملك المعظم يتطلع إلى توسيع ملكه فهاجم حماة، ولكن أخاه الملك الكامل أمره بالعودة عنها فرحل مغضبا، وفي سنة 623 سار المعظم ونازل حمص ثم رحل عنها إلى دمشق، وورد عليه أخوه الأشرف طلبا للصلح وقطعا للفتن، فبقي مكرما ظاهرا وهو في الباطن كالأسير معه، ولما رأى الأشرف حاله مع أخيه المظفر وأنه لا خلاص له منه إلا بإجابته إلى ما يريد، حلف له مكرهاً أن يعاضده ويكون معه على أخيهما الكامل، وأن يكون معه على صاحبي حماة وحمص، فلما حلف له على ذلك أطلقه المعظم، ولما استقر الأشرف بأرضه رجع عن جميع ما تقرر بينه وبين أخيه المعظم، وتأول في أيمانه التي حلفها أنه مكره.

وإلى جانب الخطر الصليبي كان هناك خطر خارجي آخر تهدد مملكة الكامل، فقد برز في آسيا الوسطى الملك جلال الدين خوارزم شاه، محمد بن تكش بن آتسز، الذي تولى الملك بعد وفاة أبيه سنة 596، وكان مقاتلاً شديد المراس، لا يضحك إلا تبسما، ولا يكثر كلاما، هزم المغول أول خروجهم وقتل ابن جنكيز خان، ثم كسره المغول فاتجه شرقاً، ومن علو همته استولى على كرمان ثم شيراز وأراد الاستيلاء على بغداد والمشرق العربي، وهاجم أراضي الملك الكامل في الجزيرة الفراتية، واستولى على بعضها سنة 626، وخشيه ملوك وأمراء المنطقة لطموحه وشجاعته، فتحالفوا ضده وهزموه في سنة 627 ثم أدركته المنية سنة 628، عن 32 سنة، فاختفى هذا الخطر الداهم الشديد.

وفي سنة 624 كتب الملك المعظم إلى السلطان جلال الدين خوارزم شاه، يسأله أن ينجده ويعينه على أخيه الملك الكامل، ويكون من جملة المنتمين إليه، ويخطب له على منابر بلاده، ويضرب باسمه الدينار والدرهم، فأجابه إلى ذلك، وسير إليه خلعةً فلبسها، وشق بها مدينة دمشق، وغرم على رسل السلطان جلال الدين، في مدة تسعة أشهر، تسعمئة ألف درهم، وقطع الخطبة للملك الكامل.

وبلغ ذلك الكامل، فخرج من القاهرة بعساكره قاصداً الشام، فبعث إليه المعظم رسولاً بكتابين أحدهما سري جاء فيه: إني نذرت لله تعالى أن كل مرحلة ترحلها لقصدي أتصدق بألف دينار، فإن جميع عسكرك معي، وكتبهم عندي، وأنا آخذك بعسكرك! وأما الكتاب العلني فجاء فيه: إني مملوكك، وما خرجت عن محبتك وطاعتك، وحاشاك أن تخرج وتقابلني، وأنا أول من أنجدك وحضر إلى خدمتك من جميع ملوك الشام والشرق. فأظهر الكامل هذا بين الأمراء، ورجع إلى القاهرة وقبض على عدة من الأمراء ومماليك أبيه، لمكاتبتهم المعظم.

واعتبر الكامل التهديد الخوارزمي أخطر من تهديد الصليبيين الذين وصلت الأوضاع بينه وبينهم إلى حالة من توازن القوى، فلم يعد أحد منهم يهدد وجود الآخر أويخطط أو يتطلع لذلك، أما جلال الدين فكان يريد تأسيس دولة إسلامية واحدة من الهند إلى مصر بل وما بعدها، وهو جندي متقشف لا يأبه بنعيم الدنيا ولذائذ الملك، مفطور على حب القتال إلى حد التهور، لا يقيم لأحد وزناً ولا يعبأ بملك أو خطير، أرسل له الخليفة الناصر من بغداد شهاب الدين السهروردي رسولاً، فلم يأبه له ولمقام الخلافة، بل توعد بخلع الخليفة وتنصيب آخر مكانه، فهو مسعر حرب ومبيد دول ومنزِلُ نِقم.

ويذكر المؤرخون المسلمون أن تهديد خوارزم شاه وتحالف الملك المعظم معه، جعل الكامل يكاتب الأنبرور ملك الألمان أن يحضر إلى عكا، ويعطيه بعض ما بيد المسلمين من بلاد الساحل، وغرضه من هذا أن يشغل أخاه وخوارزم شاه، فأرسل الكامل رسالة حملها أخوه من الرضاعة الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، وكان لا يطوي عنه سراً، ويعتمد عليه في سائر أموره، ويثق به وثوقاً عظيماً، ويسكن إليه ظاهراً وباطناً، وسيستشهد في موقعة المنصورة مع لويس التاسع بعد قرابة 20 سنة.

وأجاب فردريك الملك الكامل بقبول عرضه، وأرسل هدية سنية وتحف غريبة، فيها عدة خيول، منها فرس الملك بمركب ذهب مرصع بجوهر فاخر، فاستقبل الكامل الرسول بالقرب من القاهرة بنفسه، وأكرمه إكراماً زائداً، وأنزله في دار الوزير صفي الدين بن شكر، واهتم الكامل بتجهيز هدية سنية إلى ملك الفرنج فيها من تحف الهند واليمن، والعراق والشام، ومصر والعجم ما قيمته أضعاف ما سيره، وفيها سرج من ذهب، وفيها جوهر بعشرة آلاف دينار مصرية، وعين الكامل للسير بهذه الهدية جمال الدين بن منقذ الشيزري. وسار رسول فردريك بعد ذلك إلى الملك المعظم في دمشق في نفس الصدد، ولعله أطلعه على موقف أخيه زيادة في التوهين، وأياً كان فقد كان جواب الملك المعظم صلباً لا استخذاء فيه، قال للرسول: قل لصاحبك ما له عندي إلا السيف.

ومن الغرابة أن يسعى الملك الكامل للتحالف مع الصليبيين ويدفع هذا الثمن المادي والمعنوي الباهظ، وهو الذي قال من قبل لأخيه الأشرف عندما جاء هو إلى دمشق ثم رجع عنها أثناء توتر العلاقات مع أخيه الملك المعظم: وأنت تعلم أن عمنا السلطان صلاح الدين فتح بيت المقدس، فصار لنا بذلك الذكر الجميل على تقضي الأعصار وممر الأيام، فإن أخذه الفرنج حصل لنا من سوء الذكر وقبح الأحدوثة ما يناقض ذلك الذكر الجميل الذي أدخره عمنا، وأي وجه يبقى لنا عند الناس وعند الله تعالى، ثم ما يقنعون حينئذ بما أخذوه ويتعدون إلى غيره، وحيث قد حضرتَ أنت فأنا أعود إلى مصر واحفظ أنت البلاد، ولست بالذي يقال عني أني قاتلت أخي أو حصرته، حاشا لله تعالى.

ثم توفي المعظم سنة 624، عن 48 سنة، وكان عالماً باللغة والفقه، وكان كما رأينا شجاعاً جريئاً فخوراً بنفسه، يهتم بجنده وكأنه واحد منهم، لديه ثلاثة آلاف فارس، وكان بهذا العسكر القليل يقاوم إخوته وتعظمه الملوك من حوله.

وذكر سبط ابن الجوزي أن الملك المعظم كان على منهج والده في التجسس على الفرنج، وكان يعطي النساء والجواسيس الأموال الكثيرة. قال يوسف سبط ابن الجوزي: قلت للملك المعظم في بعض الأيام: هذا إسراف في بيوت الأموال. فقال: أنا أستفتيك: لما أن عزم الأنبرور على الخروج إلى الشام، أراد أن يخرج من عكا بغتة، ويسير إلى باب دمشق، فبعث فارساً عظيماً، وقال له: أخفِ أمرنا ومجيئنا إلى البلاد لنغير عليها بغتة. وكان بعكا إمرأة مستحسنة، فكتبت إلي تخبرني الخبر، فبعثت إليها ثياباً ملونة، ومقانع وعنبرا، فلبست ذلك، واجتمعت بذلك الفارس، فدهش وقال: من أين لك هذا؟ فقالت: من عند صديقٍ لي من المسلمين. فقال: من هو؟ فقالت: الكريدي. فصلّب على وجهه، وقام فخرج من عندها، فما زالت تلك المرأة تتلطف به، حتى تسحب المودة بيني وبينه، فصرت أهاديه، حتى كان يبعث إليّ كتب الأنبرور التي يبعثها إليه، مختومة، وأرسلُ إليه، فيكتب ما أقول، فأنا أداري عن المسلمين بهذا القدر اليسير، وأفدي به الخطير، فإن الأنبرور لو جاء بغتةً، أسر من أهل الشام، وساق من مواشيهم وأموالهم ما لا يحصى قيمته.

وقام بالأمر من بعده ولده الملك الناصر صلاح الدين داود، وعمره 21 سنة، فقصده عمه الملك الكامل من مصر ليأخذ دمشق منه، فاستنجد بعمه الملك الأشرف، فجاء إليه في دمشق، ثم خرج منها متوجهاً إلى أخيه الملك الكامل، واجتمع به وجرى الاتفاق بينهما على أخذ دمشق من الملك الناصر وتسليمها إلى الملك الأشرف، ومقابل ذلك ينزل الملك الأشرف عن حران والرها وسروج والرقة ورأس عين، ويسلمها إلى الملك الكامل، ويبقى للملك الناصر الكرك والشوبك ونابلس وبيسان وتلك النواحي، وندم الملك الكامل على مراسلاته مع فردريك الثاني إذ لم يبق له حاجة إليه، ولكن لات حين مندم.

وفي منتصف سنة 625 جاء فردريك الثاني من إيطاليا كرسي ملكه على رأس الحملة الصليبية السادسة، وقد ولد الإمبراطور الروماني المقدس سنة 591=1194 في إيطاليا، وتوفي والده هنري سنة 593، وعمره 32 سنة، وهو على وشك أن يرحل في حملة صليبية، ولم يوافق الأمراء الألمان أن يخلف الطفل والده، واختلفوا على انتخاب خلفه، فانتخبوا ملكين متنافسين، وذهبت بفريدريك أمه إلى مملكة صقلية التي كانت ضمن ممالك والده وجرى تتويجه سنة 594 ملكاً على صقلية، وتوفيت والدته بعدها بقليل تاركة البابا إنوسنت الثالث وصياً على ابنها، فعين قيماً عليه راهباً سيصبح فيما بعد البابا أونريوس الثالث، ويبدو أن الملك الصغير قد تعلم العربية أثناء نشأته في صقلية.

وفي سنة 605 أعلن عن بلوغ فردريك سن الرشد، وتزوج في سنة 606 كوستانس أميرة أراجون الإسبانية مما وفر له عددا من الأشراف وجنودهم استطاع أن يوطد بهم دعائم ملكه في صقلية، ثم خلع الأمراء الألمان ملكهم وانتخبوا فردريك ملكاً على الإمبراطورية الألمانية المقدسة سنة 608، وأبدى الملك الشاب مبادرة وشجاعة في القضاء على منافسيه واستتب له الأمر سنة 611، إلا أن علاقاته بالبابا الطامع في صقلية كانت تمر بمد وجزر من حين لآخر.

وتوجه البابا فردريك إمبراطوراً سنة 617، فكان هذا ذروة الشرف له، ثم قام بتوطيد الأمور في صقلية والقضاء على المتمردين المسلمين فيها في حملة دامت سنتين 619-620، ونقل كل مسلمي صقلية إلى أنبوليا Apulia في البر الإيطالي، وأسكنهم مدينة لوجاره Lucera وجعلهم جنوده المقربين لاطمئنانه أنهم لن يؤثِرون البابا عليه في يوم من الأيام، وتوفيت زوجته كوستانس سنة 619، فتزوج الأميرة يولاند أو إيزابيلا من سلالة بريّنّ Brienne، والتي كانت سلالتها وريثة اللقب الإسمي لمملكة القدس، وكان والدها أحد قادة الحملة على دمياط، وانتزع فردريك اللقب من أخيها وأعلن نفسه ملكاً على القدس قبل أن تطأها أقدامه.

وكان فردريك قد نذر لما توج ملكاً سنة 608 وإمبراطوراً سنة 617 أن يقود حملة صليبية تسترجع ما حرره صلاح الدين من أيديهم، ودأب البابا يذكره بميثاقه، ولكن كانت الظروف المختلفة تحول بينه وبين الرحيل إلى الأراضي المقدسة، ولما فشلت الحملة الصليبية الخامسة في دمياط والمنصورة، أنحت الكنيسة باللائمة عليه وألبت عليه الرأي العام المسيحي لكونه بتقاعسه سبب هذا الفشل الكارثي.

ولما جاء البابا جريجوار التاسع في أوائل سنة 624 لم يعبأ بظروف وأعذار فردريك، وأوقع به أقصى عقوبة دينية عندما أصدر مرسوماً بحرمانه كنسياً في سنة 625، ولم يعبأ فردريك كثيراً بالمرسوم ورحل في منتصف عام 625 إلى قبرص فاحتلها ثم نزل في عكا، وأحجم أمراء الصليبيين عن التعاون معه متعللين ظاهراً بالحرمان البابوي، ومتخوفين في الحقيقة من طموحه وما هو معروف عنه من استئثار بالحكم ورغبة في توحيد الدولة المسيحية تحت لواء إمبراطوريته، بل ويقال إن الأمراء كتبوا للكامل يعرضون القبض على الإمبراطور حينما تقع المعركة، فأطلعه الكامل على كتبهم، فعرف له ذلك بالشكر والتقدير.

وأجرى فردريك تقييماً للموقف أدرك فيه أنه لا يستطيع تحقيق نصر عسكري بما معه من القوات، ودون مساعدة الإمارات الصليبية فلجأ للتفاوض، وبدأ من اتصال الملك الكامل معه، وقال له: : أنا عتيقك وأسيرك، وأنت تعلم أنّي أكبر ملوك البحر، وأنت كاتبتني بالمجيء، وقد علم البابا وسائر ملوك البحر باهتمامي وطلوعي، فإن أنا رجعت خائباً، انكسرت حرمتي بينهم، وهذه القدس فهي أصل اعتقادهم وحجّهم؛ والمسلمون قد أخربوها، وليس لها دخلٌ طائل، فإن رأى السّلطان - أعزّه الله - أن ينعم عليّ بقصبة البلد، والزيادة تكون صدقة منه، وترتفع رأسي بين الملوك، وإن شاء السّلطان أن يكشف عن محصولها، وأحمل أنا مقداره إلى خزانته فعلت. وكنتم بذلتم لنائبي في زمن حصار دمياط الساحل كله، ومَنْ نائبي؟ إن هو إلا أقل غلماني! فلا أقل من إعطائي ما كنتم بذلتموه له.

وشاور الملك الكامل أمراءه فأجابوه على هواه إلا الأمير سيف الدين ابن أبي زكري فانه قال: أبقِ دمشق على ابن أخيك الملك الناصر، واطلبه، واطلب أخاك الملك الأشرف وعسكر حلب. ونقاتل هذا العدوّ فإما لنا وأمّا علينا، ولا يقال عن السلطان أنه أعطى الفرنج القدس. فامتعض الكامل لهذه النصيحة الصادقة الغيورة وقبض عليه وحبسه.

ودامت المفاوضات عدة أشهر شارك فيها عن الجانب الأيوبي الأمير فخر الدين يوسف وصلاح الدين الإربلي، وتسلط الخوف من القتال على الملك الكامل فكان يتساهل في تقديم التنازلات، وانتهت المفاوضات باتفاقهما على إعطائه القدس فقط دون ريفها، والقرى التي على طريق عكا- القدس، وبيت لحم والناصرة، وأن تبقى قبة الصخرة ومسجد الأقصى في يد المسلمين، وتقام فيهما شعائر الإسلام، وألا يقوم فردريك ببناء سور حول القدس عوضاً عن الذي هدمه الملك المعظم، وأن تبقى الهدنة بينهم 10 سنوات، وأن يتعهد فردريك أن تشارك فيها الإمارات الصليبيية الباقية في السواحل كطرابلس وإنطاكية.

ولم يلق الاتفاق القبول من بقية الصليبيين ، وأدانه البابا وبطريرك القدس، وأعلن الأخير الذي عُرف بحقده على العرب انزعاجه بخاصة من الوضع الخاص للمسلمين في المدينة المقدسة، ومن عدم ذكر حقوق كنيسته، وأن ريف القدس حيث توجد كنيسة القبر المقدس بقي في أيدي المسلمين، ولم يرض عن الاتفاق كذلك فرسان المعبد Templars والأسبتارية Hospitalers، واعتبروه لعبة سياسية من فردريك لتوطيد مملكته على حساب الصليبيين، فقد قيد الاتفاق حركتهم ضد المسلمين، واعتبر بعضهم الإمبراطور كافراً أو زنديقاً واسموه تهكماً تلميذ محمد.

ولعل القصص التالية التي رواها مؤرخو المسلمون تفسر ذلك: بعث الإمبراطور يستأذن في دخول القدس، فأجابه الكامل إلى ما طلبه، وسير في خدمته القاضي شمس الدين قاضي نابلس، المولود سنة 590 والمتوفى سنة 679، فسار معه إلى المسجد بالقدس، وطاف معه ما فيه من المزارات، وأعجب الأمبراطور بالمسجد الأقصى وبقبة الصخرة، وصعد درج المنبر، فرأى قسيساً بيده الإنجيل، وقد قصد دخول المسجد الأقصى، فزجره وأنكر مجيئه، وأقسم لئن عاد أحد من الفرنج يدخل هنا بغير إذن ليأخذن ما فيه عيناه، فإنما نحن هنا مماليك السلطان الملك الكامل وعبيده، وقد تصدق علينا وعليكم بهذه الكنائس، على سبيل الإنعام منه، فلا يتعدى أحد منكم طوره. فانصرف القس وهو يرعد خوفاً منه.

ونزل الملك في دار في القدس وأمر القاضي شمس الدين المؤذنين ألا يؤذنوا تلك الليلة، فلم يؤذنوا البتّة، فلما أصبح الملك قال للقاضي: لم لم يؤذن المؤذنون على المناير؟ فقال له القاضي: منعهم المملوك إعظاماً للملك واحتراماً له. فقال له الإمبراطور: أخطأتم يا قاضي، تغيّرون أنتم شعاركم وشرعكم ودينكم لأجلي، فلو كنتم عندي في بلادي هل أبطل ضرب الناقوس لأجلكم؟ الله الله لا تفعلوا، هذا أول ما تنقصون عندنا، والله إنه كان أكبر غرضي في المبيت بالقدس أن أسمع أذان المسلمين وتسبيحهم في الليل. ثم فرَّق في القُوَّام والمؤذنين والمجاورين جملة؛ أعطى كل واحد عشرة دنانير، ولم يقم بالقدس سوى ليلتين، وعاد إلى يافا وخاف من فرسان المعبد، وتسميهم المصادر العربية الداوية، فإنهم طلبوا قتله.

أما بين المسلمين فكان لتسليم القدس للصليبين رنة أسى عميقة في كل بلد، وقام سبط ابن الجوزي في الجامع الأموي بدمشق، فقال في وعظه: انقطعت عن بيت المقدس وفود الزائرين! يا وحشة للمجاورين! كم كانت لهم في تلك الأماكن ركعة! كم جرت لهم في تلك المساكن من دمعة! بالله لو صارت عيونهم عيوناً لما وفت، ولو انقطعت قلوبهم أسفاً لما اشتفت! أحسن الله عزاء المسلمين! يا خجلة ملوك المسلمين! لهذه الحادثة تسكب العبرات، ولمثلها تنقطع القلوب من الزفرات، لمثلها تعظم الحسرات. ثم أنشد قوله: 

أعينيَ لا ترقي من العبرات ... صِلي بالبكا الآصال بالبكرات

وفي 20 ربيع الآخر سنة 626 توج فردريك نفسه ملكاً على القدس في كنيسة القبر المقدس، دون مشاركة بطرك القدس، فكانت هذه ذروة المجد له، وبدأ يتخيل نفسه المسيح المنتظر أو داود عليه السلام، بل قارن نفسه بالمسيح في أحد مراسيمه، ويذكر المؤرخ ابن نظيف الحموي في كتابه التاريخ المنصوري رسالة موجهة من الإمبراطور فريدريك الثاني إلى السلطان الكامل، ترد في مطلعها الألقاب الكاملة للإمبراطور: قيصر المعظم إمبراطور رومية فرادريك بن الإمبراطور هنريك بن الإمبراطور فريدريك مالك ألمانية ولمبردية وتسقانة وايطالية وانكبردية وقلورية وصقلية ومملكة الشام القدسية.

ولكن فردريك الثاني لم يُمتع طويلاً بهذا المجد لأن قوات البابا هاجمت صقلية فاضطر للعودة على عجل وأخرجهم منها مدحورين، ولكنه كان عاقلاً فلم يهاجم الولايات البابوية، وتلقى ثوابه على ذلك عندما ألغى البابا مرسوم الحرمان في سنة 627، وكانت هذه أول وآخر مرة يطأ فيها فردريك الأرض المقدسة، فقد أمضى ما تبقى من حياته في صراع لا ينقطع مع البابوات، الذين حرموه 3 مرات أخرى، ومع الأمراء والملوك المنافسين أو المتمردين قبل أن يموت في أنبوليا سنة 648، ويدفن في بالبرمو في صقلية.

ونذكر استطراداً أن العلاقات بين حكام مصر وبين أسرة فردريك الثاني في أنبوليا دامت علاقات ودية لفترة من الزمن، فنجد أن الظاهر بيبرس أرسل في سنة 659 رسولاً إلى مانفرد ابن فردريك الثاني، وكان هو القاضي العلامة جمال الدين محمد بن سالم بن واصل، قاضي القضاة الشافعي بحماة، المولود سنة 604 والمتوفى سنة 697، مؤلف مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، فأكرمه الإمبراطور منفريد المذكور واجتمع به مراراً، ووجده متميزاً ومحباً للعلوم العقلية، يحفظ عشر مقالات من كتاب إقليدس، وألف له ابن واصل كتاب الأنبرورية في المنطق.

تابع الكامل توسعه بعد تسليم بيت المقدس فأخذ في سنة 629 آمد، وهي اليوم ديار بكر في جنوبي تركية، وكانت العلاقات بين الملك الكامل وبين أخيه الملك الأشرف ممتازة إلى أن دبت الوحشة بينهما، وخرج الأشرف عن طاعة الكامل، وتعاهد هو وصاحب الروم وصاحب حلب وصاحب حماة وصاحب حمص وأصحاب الشرق، على الخروج على الملك الكامل، وبينما هم في تدبير أمورهم إذ مرض الملك الأشرف ثم توفي في أول سنة 635، عن 57 سنة، وبعد وفاته أخذ الملك الكامل دمشق من خليفته، ثم لم تلبث المنية أن أدركته فتوفي في دمشق في رجب من سنة 635.

ولم يمض على تسليم بيت المقدس 11 سنة حتى انتزعه منهم في سنة 637 صاحب الكرك الملك الناصر داود ابن الملك المعظم، ثم عاد مع عمه إسماعيل فسلماه للفرنج سنة 641 ليكونوا عوناً لهما على الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر، ولم يفلح ذلك لأن الصالح نجم الدين أيوب اقتلعه من أيدي الصليبيين في سنة 642، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين