البحر بين مادحه وقادحه

ألقى صيادون شبكاتهم في البحر فاصطادوا أسماكا كثيرة من أنواع مختلفة وأجناس متباعدة، ففرحوا جدا متهللة وجوههم ومنبسطة أساريرهم، وكتبوا على الشاطئ: يا بحر أنت مأوى الفقراء، ملجأ المساكين، تطعم الجائعين، وتيسِّر المعيشة للمعسرين، وتوسع نطاق التجارة للأغنياء الموسرين، فإنا لك شاكرون وبجميل نعمتك معترفون.

وركب أناس سفينة يُبحرون الشراع، يشقون العباب ويخوضون الغمار، وتجول بهم بين شواطئ البلدان، فإذا بالرياح تعانق شراعها المنصوبة بقوة وتدفعها بشدة مقلبة إياها تقليبا، أودى بحياة من من فيه، فهجم أهلهم على البحر باكين نادبين ورقموا على الرمال: يا بحر أنت ظالم غاشم، عابث بركابك، وعاثر بأحبابك، لك الويل مزبدا، تغدر ببني آدم كاشرا عن أنيابك لهم، فلا ترعى فيهم إلا ولا ذمة، فما أضيقك صدرا، وما أشأمك ضغينة وحقدا.

وغاص غواصون في البحر وظفروا بدرر في أحشائه كامنة، فتلألأت نفوسهم تلألؤ الدرر، مستغنين بها عن الفضة والذهب، ومزدرين بالنجم والكوكب، فأثبتوا على ناحية: يا بحر! أنت جواد كريم، فائض بالخيرات والثروات، ما أرحبك صدرا، وما أبلغك يمنا وبركة، تحمل المراكب والسفن، وتدر على العالمين بالعطايا، ومن قصد البحر استقل السواقيا.

وجاء طفل إلى البحر يتقلب في أحضان رماله، ويمس بيديه وقدميه ماءه، فإذا بحذائه يقع فيه، فسخط وامتعض، وصخب وصرخ، وخط على جانب: يا بحر! أنت لص، ما أصواتك إلا نداء بالشر، وإعلانا بالحرب، لا ترحم صغيرا ولا كبيرا، أسبك وأشتمك، فأنت لئيم لا يرجى منك خير، ولن أعود إليك أبدا فما أقبح وجهك وما أبشع صنيعك.

وتماشى محبان على رماله الذهبية متضامين، يحدقان في الأمواج المتلاطمة، ويتمتعان بارتطامها بالصخور، وبالأصداف مبعثرة تحت أقدامهما، وخيوط الشمس تعانق تلك الأمواج وتحمل معها أشواق المحبين، ويا له من منظر بهيج ومشهد رائع، يبعث في النفوس الراحة والهدوء، فنقشا على الأرض: يا بحر! أنت أفضل مكان يرتادك كل مهموم وحزين، وكل عاشق مغرم، يشكو إليك همومه وأحزانه، ويشاركك مسراته وأفراحه، أنت صديقه في الوحدة، ونجيه في العزلة، نسيمك يخفف عن وجعه، ويلهيه عن مآسيه، أنت جمال رباني، ورونق وبهاء يثير في النفوس المشاعر الخامدة، لا تسخر من أحد ولا تفشي له سرا، فما أجلك قدرا وأرفعك شأنا.

وجلس شاعر عند شاطئ البحر، يتأمل ماءه الأزرق، وأمواجه الساحرة، ومساحته الشاسعة، فكتب على الشاطئ: يا عالم السحر والغموض، يا مصدر الراحة والهدوء، ويا منبع الحسن والجمال، مهما تنافست الكلمات، وتسابقت العبارات في الثناء عليك وعد مناقبك فلن تصف روعة الجلوس على شاطئك، ومدى الاستمتاع بشروق الشمس وغروبها فيك، إن اتساعك يعطي النفس أملا ويضفي عليها سكينة، أنت مصدر الإلهام ومغبط الأنام، ما أصفاك نهارا وما أبهاك ليلا، تزينك الشمس ملاحة وفتنة، ويزيدك القمر نضارة وسحرا، منظرك يسرق الفؤاد ويشد نياط القلوب ويتركني أهيم بك وبروائك، مخلفا ورائي هموم هذه الدنيا الوضيعة، فبارك فيك وعليك رب العالمين.

ثم ثارت موجة عاتية فأزالت كل شيء، ومحت كل رقم، ولم يبق لتلك الكتابات عين ولا أثر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين