ملامح سور القرآن الكريم: سورة يونس

سورة يونس جاءت بعد سورة براءة، وإذا كانت براءة في جهاد الطلب -على ما استظهرت من معناها- فإن سورة يونس في الدعوة وأحوالها وإجابتها أو ردّها، ذلك أن جهاد الطلب ليس لبسط سلطان الإسلام وتأمين بلاده وإرهاب أعدائه فحسب، ولكن أيضًا لاستكمال طريق الدعوة وهداية الناس بالحكمة والموعظة الحسنة وبالجدال بالتي هي أحسن.

ولك أن تتبين جملة من المعاني المتضمنة لهذا المعنى الكبير، فمنها شأن الكتاب الكريم، الذي هو كتاب الدعوة ومعجزة النبوة وبيان مراد الله من عباده. وإذا تلي على الذين لا يرجون لقاء الله قالوا تعنتا وتملصا: (ايت بقرآن غير هذا أو بدله)، وما كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولا لأتباعه أن يفعلوا ذلك، فكل الدلائل التاريخية تدل على أنه من عند الله: (فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله)، وما كان مفترى، فإن ادَّعوا ذلك فليأتوا بسورة واحدة مثله، إن كان افتراءُ مثله ممكنًا.

ومنها النذارة والبشارة، فإن لهذه الحياة الدنيا ما بعدها، فالمقصود الأول من الرسالات بعد أداء حق الله بتوحيده أن يستعدوا ليوم المعاد وما يكون فيه، وقد تضمنت السورة مشاهد للقيامة، فلينظر كل امرئ وكل قوم أين يكون مكانهم فيها. وهذا الخلق كله لم يكن إلا بالحق، ولم يكن سدًى ولا عبثًا، فالحساب محتوم.

ومنها أن مجيء الرسول والدعوة مؤذن بقرب حكم الله بين الداعين والمدعويين، كما قال هنا: (فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط)، وهذا يجري على منكري المنكر من الدعاة، كما مر بنا في سورة الأعراف: (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء) الآية. فالقائمين بالقسط والداعين إلى الله هم ورثة الأنبياء، فإذا قاموا بما عليهم فذلك مؤذن بقرب حكم الله بينهم وبين أقوامهم.

ويدعو الإنسان بالخير ودفع الضر إذا نزل به ويستعجل، أفلا يتدبر أن لإسرافه عواقب، فالذي يسوق الخير يقدّر الشر، ويبلو بالشر والخير فتنة، ويعاقب المجرمين، فكيف تتوجهون إليه طالبين خيره ولا تحذرون مكره ونكاله؟

إلى آخر هذه المواعظ والزواجر التي تسوقها السور المكية ترغيبًا وترهيبًا وحثًّا على تدبر مضمون الدعوة الذي هو النجاة والفلاح.

وقد جاء في السورة قصص لثلاثة من الأنبياء هم نوح وموسى ويونس، عليهم السلام، وثلاثتهم يشتركون في المعجزة المائية، فقوم نوح أهلكوا بالطوفان، وقوم فرعون بالغرق، ويونس التقمه الحوت. وتجد في السورة ذكر البحر في قوله: (هو الذي يسيركم في البر والبحر)، وأستظهر -والله أعلم- أن ذلك من أجل أن مهبط الوحي كان في الجزيرة العربية، وقد ندبت سورة التوبة إلى إخلاصها للإسلام ومنع مشاركة دين آخر للإسلام فيها، ومن المتوقع مجاوزة البحر المحيط بالجزيرة لنشر الدعوة والفتح.

وفي قصة يونس -عليه السلام- خصوصية، وقد سميت السورة باسمه، فهو من كل قصص الأنبياء النبي الذي آمن به قومه خوفًا من العذاب، فكشفه الله عنهم، وأما غيرهم فغرقوا في الفساد ولم ينهوا عنه حتى جاءهم أمر الله.

ولك أن تتبين في السورة أيضا معنى التوقيت والأجل والمباغتة شائعًا، وهو يبدأ من الإشارة الأولى: (لتعلموا عدد السنين والحساب)، واذكر ما كان في براءة من قوله: (إن عدة الشهور..) الآية. وانظر إلى قوله: (استعجالهم بالخير)، (ولو يعجل)، (فانتظروا)، (أسرع مكرًا)، (أتاها أمرنا ليلا أو نهار)، (بياتا أو نهارا)، (إلا ساعة من نهار).. إلخ، ولمعنى التوقيت هذا جاء في قصة فرعون: (آلان وقد عصيت قبل)، وقبل ذلك جاء: (آلان وقد كنتم به تستعجلون). وذكر الآن مستفهما عنه على سبيل الإنكار لم يجئ في القرآن إلا في هذه السورة. وذلك كله استحثاث للمبادرة إلى إجابة الدعوة، كما أجابها قوم يونس، قبل فوات وقتها، كما حدث لآل فرعون لم يؤمنوا حتى رأوا العذاب الأليم تحقيقًا لدعوة موسى وأخيه هارون عليهم، وكما حدث لقوم نوح لم يؤمنوا فأهلكوا بالغرق.

ومن هنا ترى الأقسام في إجابة الدعوة ثلاثة: قوم لم يؤمنوا كقوم نوح، وقوم آمنوا بعد وقوع العذاب فلم ينفعهم، كقوم فرعون، وقوم آمنوا قبل وقوع العذاب فنفعهم إيمانهم، كقوم يونس، وهم الناجون والمنوه بشأنهم في السورة: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين