فقه الوباء: أمَّن يُجيبُ المُضطرَّ إذَا دَعَاهُ

عاشَ أهلُ غزّةَ – رُغمَ حصارِهَا وفقرِهَا – منذُ آذارَ المُنصرمِ شهوراً مِن العافيةِ مِن وبَاءِ كورُونَا الذِي ما تركَ دولةً في الأرضِ إلّا وأصابَ أبناءَهَا، وأثّرَ فِي اقتصادِهَا، وكانُ الواجبُ علَى العامَّةِ والخاصَّةِ أن يذكرُوا منَّةَ اللهِ عليهِم، وأن يشكرُوا لُطفَهُ، ونِعَمَهُ السَّابغَةَ التِي لا تُعدُّ ولَا تُحصَى، وأهمُّهَا بعدَ نعمَةِ الإسلامِ والحيَاةِ، نعمَةُ العافيَةِ فِي البدَنِ؛ فإنه مَنْ أَصبح آمِنًا في سِرْبِهِ، مُعَافًى في جَسدِه، عِندهُ قُوتُ يَومِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحذافِيرِها.

ولا يضرُّ العبدَ قلَّةُ ذاتِ اليَدِ مَع التقلُّبِ فِي نِعمَةِ العَافيَةِ، كمَا لا ينفعُهُ مَالُ الدُّنيَا، وهوَ سَقيمٌ مريضٌ، والقَناعةُ كنزٌ لا يفنَى، ولَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وعَن عبدِاللَّه بن عمروٍ رضيَ اللَّه عنهما أَن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ) [مسلم: 1054]، والكفافُ هوَ الذِي لا يَفضُلُ عَن الشَّيءِ، ويكونُ بقدرِ الحاجَةِ إليهِ.

ولكنَّ ألفَةَ النِّعمِ، وغفلَةَ العِبَادِ عن التّدبُّرِ، أنسَتْ عدداً مِن النَّاسِ عبادَةَ الذِّكرِ والشُّكرِ، فغدا بعضُهُم يتندَّرُ علَى البُلدَانِ التِي أصابَهَا الوبَاءُ، ومنُهم مَن أخذَ يستهزئُ بالمرضِ الذِي هُوَ مِن أقدارِ الجبَّارِ، ومنهُم مَن بالَغ فِي شكوَى الخَالِقِ للمَخلُوقِ، ولم يحمدِ اللهَ جلّ جلالُهُ على ما هوَ فيهِ من عافيةٍ، وفي ذلك كفرانٌ لأنعُمِ اللهِ، وقَد قالَ اللهُ تعالَى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

فأذاقَنا اللهُ لبَاسَ الجوعِ والخَوفِ، وأنزلَ البَلاءَ والوباءَ بِسَاحِ غزَّةَ المحاصرَة، وأضحَى عددُ المصَابِينَ يتضاعَفُ يوماً بعدَ يومٍ، ولولا نعمَةُ اللهِ علينَا لكُنّا مِن المُحضَرِينَ، وإنَّ اللهَ تعالى يبتلي خَلقَهُ في نفوسِهم وذراريهِم وأموالهِم، ويرسلُ عليهِم من آياتِه ما يُبيّنُ لهم بها ضَعفهم، مهما بلغوا من قوةٍ، ويُخوِّفهم بالآياتِ لعلهم يرجعونَ.

وإذَا عَلِمنَا أنَّ الأسقامَ والأوجاعَ مِن الابتلاءَاتِ، فإنَّهُ يجبُ علينَا أن نصبِرَ لحكمِ للهِ، وأن نرضَى بقضَائِهِ، فإنَّ الأمراضَ مِن أقدارِ اللهِ؛ وإنَّه مَن رَضِيَ فلهُ الرِّضَا، ومَن سَخِطَ فلَهُ السُّخطُ، رُفِعَت الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ، ومِن واجبَاتِ العَبدِ فِي البلاءِ التَّفاؤلُ برحمَةِ اللهِ ولُطفِه، واللُّجوءُ إليهِ لرَفعِ البَلاء، ودفعِ الوباءِ، وكَشفِ الضُّرِّ، والصَّبرُ علَى المُصَابِ، والرجوعُ للخالقِ بتركِ الذنوبِ، وردِّ الحقوقِ.

ولا يليقُ بالنَّاسِ إذا مَسّهم بأسٌ، بقاؤُهم فِي حالَةِ لَهوٍ مقيتٍ، وغفلةٍ سامدةٍ، واستهزَاءٍ أخرقٍ بتقادِيرِ اللهِ جل جلالُه، واعلمُوا أنَّ رحمَاتِ اللهِ لا تُستمطرُ بإطلَاقِ الطرائِفِ السَّمجَةِ، والنِّكاتِ السَّخيفةِ على أقدارِ اللهِ، ولا التَّندُّرُ بالأمراضِ والأيَّامِ والشُّهورِ والأعوَامِ، فإنَّ كشفَ الضُّرِّ لا يكونُ إلا بالفرارِ إلَى اللهِ، والتَّذلُّلِ بينَ يديهِ، والوقوفِ ببابِهِ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].

نسألُ اللهَ السلامَة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين