قِفُوا حيث وقف

افترض الله على عباده أن ينطلقوا من حيث انطلق النبي صلى الله عليه وسلم، وينتهوا حيث انتهى، غير متقدمين عليه أو مبتدعين، ولا مجاوزين إياه أو زائدين عليه بشيء، فالدين هو إسلام المرء نفسه لله والانقياد لحكمه من خلال الاقتداء برسوله صادرا عما صدر وواردا إلى ما ورد، دون سعي في المغالبة أو التعلي.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحث على أن يقف الناس حيث وقف، لا يسرفون في الأمر ولا يشطون عنه شططا، أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله! إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول: إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا.

وأخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.

وأخرج أبو داود وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون، وأخرج الطبراني وغيره عن أبي الدرداء رفعه قال: ثلاث من أخلاق النبوة: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة.

فالذي يؤخر الإفطار لا يقف حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الذي يعجل السحور، وما ذلك إلا غلوا في الدين، وهو من بدع اليهود والنصارى، فنهى عن التشبه بهم.

ولقد أخطأ ناس من هذه الأمة في الأول، ولم يرضوا بأن يبدأوا من حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم، وأخطأوا كذلك في الثاني ولم يقنعوا بأن يقفوا حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم، وجرَّهم تماديهم في بعض الجوانب إلى إهمال الجوانب الأخرى، وقد حُذِّروا من ذلك تحذيرا، أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة.

وذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيء من مثل هذا المذهب إمعانا في التعبد وحرصًا على زيادة الخير، فتأسف على ذلك في آخر حياته، أخرج مسلم عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقول: لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آنت الذي تقول ذلك فقلت له قد قلته يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر ونم وقم وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر، قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك قال: صم يوما وأفطر يومين، قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك يا رسول الله، قال: صم يوما وأفطر يوما وذلك صيام داود عليه السلام وهو أعدل الصيام، قال: قلت فإني أطيق أفضل من ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أفضل من ذلك، قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أهلي ومالي.

ومن العُبَّاد من بالغ في صلاة الليل، يقوم كله ولا ينام، ومنهم من أفرط في الصوم لا يفطر أبدا، ومنهم من امتنع من النكاح، وحرم على نفسه الطيبات، وهو عين ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقلبوا الموازين وغيروا المعايير، كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل ما تيسر له من الطيبات في غير شبع، فنشأ قوم تزهدوا فيما رزقهم الله من الحلال الطيب واتخذوا الجوع لهم دينا، ولهم في ذلك قصص تبعث على العجب مبثوثة في كتب القوم ومنادى بها على ألسنة الواعظين، قال ابن الجوزي في صيد الخاطر:

"وأما المطعم، فالمراد منه تقوية هذا البدن لخدمة الله عز وجل، وحق على ذي الناقة أن يكرمها لتحمله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل ما وجد، فإن وجد اللحم أكله، ويأكل لحم الدجاج، وأحب الأشياء إليه الحلوى والعسل، وما نقل عنه أنه امتنع من مباح، وجيء علي رضي الله عنه بفالوذج، فأكل منه، وقال: ما هذا؟ قالوا: يوم النوروز، فقال: نورزونا كل يوم".

"وإنما يكره الأكل فوق الشبع، واللبس على وجه الاختيال والبطر، وقد اقتنع أقوام بالدون من ذلك؛ لأن الحلال الصافي لا يكاد يمكن فيه تحصيل المراد؛ وإلا فقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم حلة اشتريت له بسبعة وعشرين بعيرًا، وكان لتميم الداري حلة اشتريت بألف درهم يصلي فيها بالليل".

"فجاء أقوام، فأظهروا التزهد، وابتكروا طريقة زينها لهم الهوى، ثم تطلبوا لها الدليل، وإنما ينبغي للإنسان أن يتبع الدليل، لا أن يتبع طريقًا، ويتطلب دليلها".

وقال ابن الجوزي أيضًا في صيد الخاطر: "وأما الانقطاع، فينبغي أن تكون العزلة عن الشر لا عن الخير، والعزلة عن الشر واجبة على كل حال، وأما تعليم الطالبين، وهداية المريدين، فإنه عبادة العالم".

وقال: "فعليك بالنظر في السرب الأول، فكن مع السرب المتقدم، وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فهل نقل عن أحد منهم ما ابتدعه جهلة المتزهدين والمتصوفة، من الانقطاع عن العلم؟ والانفراد عن الخلق، وهل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق؟ وحثهم على الخير، ونهيهم عن الشر؟! إلا أن ينقطع من ليس بعالم بقصد الكف عن الشر، فذاك مرتبة المحتمي، يخاف شر التخليط، فأما الطبيب العالم بما يتناول، فإنه ينتفع بما يناله".

فالهدي المستقيم أن يتمسك الإنسان بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في جمع لصنوف الأعمال الصالحة واعتدال، منطلقا من حيث انطلق، وواقفا حيث وقف، شاكرا لأنعم ربه، وصابرا على الشدائد محتسبا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين