التاريخ إن حكى.. كيف وصلت الخزانة الزيدانية إلى الإسكوربيال

الخزانة الزيدانية هي مخطوطات تعود لمكتبة السلطان المغربي زيدان الناصر بن أحمد، استولى عليها قراصنة إسبان في عرض مياه المحيط الأطلسي سنة 1612م وهي موجودة اليوم بخزانة الإسكوريال بإسبانيا. 

المخطوطات ذات أهمية علمية بالغة وهي من أشهر الخزائن العلمية في تاريخ المغرب، حيث تتكون من كتب مكتبة زيدان ووالده السلطان أحمد المنصور الذهبي ومما حازه من مكتبتي أخويه الشيخ المأمون وأبي فارس بعد وفاتهما، وتضم الخزانة الزيدانية دراسات في مختلف المجالات وبلغات متعددة منها التركية والفارسية واللاتينية.

كتاب (منافع الحيوان) من محفظات الخزانة الزيدانية في الإسكوربيال

أما (الإسكوريال) (بالإسبانية: El Escorial)‏ فاسم عريق في عالم الثقافة والتاريخ. يطلق على مجمع ضخم تشكله مجموعة مبانٍ أنشأها الملك الإسباني فيليب الثاني (1527 - 1598) والذي حكم إسبانيا بداية من العام (1556) حتى وفاته. وقد أقامه على أنقاض منجم للحديد، فأخذ الإسم من الموقع، ويشمل المجمع: القصر الملكي، والدير، والكنيسة، والمعهد الديني، والمتحف، وعدد من الأبنية الصغيرة . 

واليوم تحول إلى متحف تاريخي وثقافي هام يقع على بعد حوالي 45 كم شمال غرب العاصمة الإسبانية مدريد، وقد أُعلن موقعا تراثيا عالميا من قبل اليونسكو في 2 تشرين الثاني 1984. 

وتعدّ مجموعة مباني الأسكوريال من أهم الصروح الملكية في أوروبا لضخامتها ومحتوياتها الفنية ومكتبتها الشهيرة. وتشتهر بمقتنياتها من العديد من الكتب والمخطوطات القديمة، وأعمال علمية وأدبية لعلماء عرب في القرون الوسطى، إضافة إلى زخارف الفنان تيباليدي: وهي صور تمثل الفنون السبعة الحرة. 

مجمع الإسكوربيال

وأهم تلك المقتنيات والمحفوظات على الإطلاق هي مجموعة المخطوطات العربية النفيسة النادرة العائدة للسّلاطين المغاربة السعديين، فما الذي غرَّبها عن موطنها الأصلي لتحل في دهاليز، وأروقة، ورفوف (دير سان لورينثو) بمكتبة الإسكوريال الإسبانية؟ 

كيف وصلت المخطوطات الى دير الإسكوريال

يروي العلاّمة المغربي الرّاحل محمد الفاسي - أوّل عربي يتولّى إدارة منظمة اليونسكو العالمية - في مقدمة تحقيقه لمخطوط (الإكسير في فكاك الأسير) للسّفير المغربي ابن عثمان المكناسي - أبي عبد الله محمد بن عبد الوهاب بن عثمان المكناسي المسطاسي، (توفي 1799م) الرحالة والمؤرخ – الذي أرسل موفدا من قبل السلطان المغربي محمّد بن عبد الله في سفارة لدى ملك إسبانيا كارلوس الثالث سنة (1779) لإطلاق سراح الأسرى المسلمين الذين كانوا في سجون مدينتي شقوبيّة وقرطاجنة الإسبانيتين: «أنّ خزانة الإسكوريال المليئة بالمخطوطات الثمينة يظنّ الكثيرون أنها من مخلفات العرب والأمازيغ في إسبانيا، والحقيقة أنّ محاكم التفتيش الإسبانية كانت أحرقت كلّ الكتب العربية أينما وجدت، ولم يبق بعد خروج العرب والأمازيغ منها كتب تستحقّ الذكر، وفي أيّام السّعديين كان المنصور الذهبي ( 1549م - 1603م) مولعًا باقتناء الكتب، وجمع منها خزانة عظيمة، وسار خلفه ابنه زيدان (حكم بين 1613 - 1628م) على سنته في الإهتمام بالكتب ، فنمّى الخزانة التي كانت عند والده. 

ولما قام عليه أحد أقاربه واضطرّ للفرار، كان أوّل ما فكّر فيه خزانة كتبه، فوضعها في صناديق مُحكمة ووجّهها إلى مدينة (آسفي) لتشحن في سفينة كانت هناك إلى أحد الفرنسيين لينقلها إلى أحد مراسي سوس (بوّابة جنوب المغرب).

فلمّا وصلت السفينة انتظر رئيسها مدّة أن يدفع له أجرة عمله، ولما طال عليه الأمر هرب بمركبه وشحنته الثمينة، فتعرّض له في عرض البحر قرصان إسباني تحت إمرة الأميرال فاخاردو، وطارد المركب للاستيلاء على الصناديق، ولا شكّ أنهم كانوا يظنّون أنّها مملوءة بالذهب، واستولوا بالفعل على المركب الفرنسي، وأخذوا الصناديق، فلمّا فتحوها ولم يجدوا فيها إلاّ الكتب، فكّروا (من حسن الحظ) أن يقدّموها هديّة إلى ملكهم. 

ولما وصلت هذه الكتب إلى الملك فيليبي الثاني، الذي كان منهمكًا في بناء الديّر الفخم للقدّيس لورينثو بالمحل المـُسمّى الإسكوريال، وكان قد نذر؛ في حرب مع فرنسا ألجأته لهدم كنيسة تحمل إسمَ القدّيس المذكور؛ أنّه إذا انتصر فسيبني له كنيسة أفخم. 

فلمّا وصلته هذه الكتب أوقفها على هذا الدّير، وهي التي لا تزال إلى اليوم موجودة فيه، ويقصدها العلماء من كل الأقطار للإستفادة من ذخائرها».

وقد وثق كتاب (الإكسير في فكاك الأسير) وجود (المكتبة الزيدانية) في أقبية الإسكوربال، فقد رآها بعينيه، وفي وصفها يقول: «كانت الكتب في غاية الحفظ، ومنها عدة تفاسير جُلُّها حواشي، وكثير من كتب الطب، وطالعت ما سمح به الوقت مع ضيقه، فخرجت من الخزانة بعد أن أوقدت نار الأحزان بفؤادي نارها، يا ليتني لم أرها، إنها الإسكوريال إحدى عجائب الدنيا».

تحقيق زمن وصول الكتب

هذا ما يذكره الأستاذ الفاسي أن الكتب وصلت أثناء انهماك الملك فيليب الثاني ببناء المجمع الملكي مع الدير، وهذا أمر فيه نظر، لأننا إذا دققنا في التواريخ فسوف نجد فجوات تحتاج إلى ملإ ، وفوارق تحتاج إلى شرح وإيضاح.

فالملك فيليب الثاني ولد ومات وبنى المجمع في القرن السادس عشر: ولد سنة (1527) وتُوفي سنة (1598)، وقد شرع ببناء القصر سنة (1564) بعد دراسات انطلقت سنة (1559) وتم بناؤه سنة (1584) ، وكان السبب المباشر لبنائه تحقيق الملك فيليب الثاني طلب أبيه أن يدفن خارج غرناطة حيث كان يدفن ملوك عائلة تراستامارا.

وما ذكره الأستاذ الفاسي في مقدمة تحقيقه للكتاب السابق يدل على أن هذه الكتب كانت في حوزة الملك زيدان السعدي الذي حكم في القرن السابع عشر (حكم بين 1613 - 1628م)، وأنه بسبب خلاف بينه وبين بعض منافسيه من أقاربه خاف على الكتب فوضعها في صناديق .. 

والمضمون نفسه تقوله المستشرقة الإسبانية نييفيس باراديلا ألونسو، حيث تؤكد قضية سطو القراصنة الإسبان عام (1612) بالقرب من مدينة سلا المحاذية لمدينة الرّباط على مركب فرنسي كان يحمل المكتبة الخاصة للسلطان المغربي زيدان والتي كانت تتألف من حوالي أربعة آلاف مخطوط، وقد تمّ تحويل هذه الكتب والمخططوطات جميعها إلى مكتبة دير الإسكوريال بأمر من الملك الإسباني فيليبي الثاني.

ونحن كان من الممكن أن نسلم بهذه الروايات لولا ورود اسم الملك الإسباني فيليب الثاني، لأن هذا الملك توفي سنة (1598)، أي قبل الحادثة المذكورة بأربع عشرة سنة، فكيف يأمر بذلك وهو تحت الأرض؟

إذن عندنا مشكلة في سرد الروايات التاريخية تحتاج إلى تحقيق وضبط. وسريعا يمكن أن نقول: إن إسبانيا تعاقب عليها في هذه الفترة ملكان كل منهما اسمه فيليب: 

- فيليب الثاني Felipp II (1527 – 1598)

- فيليب الثالث Felipp III (1578 – 1621)

فإن صحت تلك الروايات في السطو على الكتاب، وأراها صحيحة، فتكون في عهد فيليب الثالث لا الثاني. والذي يجعلني أؤكد على صحة أن المكتبة الزيدانية تمت مصادرتها من صناديق السلاطنة المغاربة وليست مما بقي في الأندلس بعد خروج المسلمين منها، هو ما ذكره الأستاذ محمد الفاسي من أن الفرنجة عندما استولوا على كامل الأندلس أحرقوا كل ما وجدوه من ميراث علمي مكتوب، وتؤكد المستشرقة الألمانية (زيغريد هونكه) في كتابها (شمس الله تسطع على الغرب) أنه تم حرق «مليونًا وخمسة آلاف من المجلدات، هي مجهود العرب في الأندلس وثمرة نهضتهم في ثمانية قرون». وبالتالي لا يمكن أن تكون هذه المخطوطات من مخلفات المسلمين في الأندلس.

وفي تاريخ طرابلس الشام الوسيط ما يؤيد أن الفرنجة لم يكن من سياستهم حفظ التراث العلمي، فإنهم عندما دخلوا طرابلس الشام سنة (1109) كان فيها دارا للعلم (مكتبة) حوت قريبا من ثلاثة ملايين مخطوط في مختلف فنون العلم، أحرقت جميعها، وهدمت المكتبة حتى صارت أثرا بعد عين. وحتى اليوم لا ندري أين كان موضع هذه المكتبة.

مصدر الإشكال وتصحيح الخطأ

وبرأيي أن سبب هذا الإشكال الذي وقع فيه الدارسون لتاريخ العلاقة بين إسبانيا والمغرب في تحديد اسم الملك الذي ضُمت المكتبة الزيدانية على عهده إلى مكتبة الإسكوريال يعود إلى الألقاب التي كانت تطلق على هذين الملكين الإسبانيين: الثاني والثالث:

فالثاني كان في الوقت نفسه ملكا لنابولي وصقلية، بل وكان ملك انكلترا القرين بين سنتي (1554) و (1558) لأنه في هذه الفترة تزوج من ملكة انكلترا ماري الأولى. كما لقب بملك تشيلي بين عامي (1554) و (1556). وحكم البرتغال باسم فيليب الأول من سنة (1850) حتى (1598). 

فبالنسبة للإسبان هو الملك فيليب الثاني، وبالنسبة للبرتغاليين هو الملك فيليب الأول.

أما الثالث، وهو الذي يُعرف أيضل بفيليب الورع، فإنه كان الثالث بالنسبة لإسبانيا، وفي الوقت نفسه ملكا للبرتغال والغرب وصقيلية تحت اسم (فيليب الثاني). ولأنه كان ورعا ومحبا للعلم قدم له القرصان ما سطا عليه من كتب لمعرفته يأنه مما يستهويه.

فهذا الذي أحدث الإشكال عند المؤرخين فلم يحققوا في التواريخ، وبالتالي فإن المكتبة الزيدانية وصلت إلى أقبية (دير سان لورينثو)، في القرن السابع عشر زمن ملك إسبانيا فيليب الثالث وليس ملك إسبانيا فيليب الثاني الذي توفي في القرن السادس عشر. وقد وصلت وكانت الكنيسة والمجمع كاملا قد اكتمل بناؤه منذ ثمانية وعشرين سنة، ولم تصل أثناء بناء المجمع كما ذكر الأستاذ محمد الفاسي محقق كتاب (الإكسير في أحكام الأسير).

قاعة المكتبة في دير سان لورينثو

وللفائدة أُرفق مع المقال عنوان موقع الكتروني يحوي (500) صحيفة لمخطوطات مكتبة الإسكوريال هـــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين