السُنَّة في مواجهة شُبُهات الاستشراق (2)

وكانت الخطوة التالية أَنْ قام المحدثون فَنَقَّبُوا في البلاد في البحث عن الروايات، المختلفة والأسانيد الصحيحة وكان لهم في ذلك هيام وغرام لم يعرف عن أُمَّةٍ من الأمم في التاريخ من التجول في البلاد والسفر في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ولم يقتصروا على جمع الحديث وتدوينه ب تَعَدَّتْ عنايتهم إلى الوسائط التي وقعت في رواية الحديث وهم الرُوَاةُ الذين رَوَوْا هذه الأحاديث، فعنوا بمعرفتهم ومعرفة أسمائهم وأسماء آبائهم وحوادث حياتهم وأخلاقهم ومكانتهم في الأمانة والصدق والحفظ، وهكذا ظهر علم أسماء الرجال إلى الوجود وكان من مفاخر هذه الأمة التي لا يشاركها فيها أُمَّةٌ من الأمم كما يقول الدكتور شبرنجر في مقدمته لكتاب (الإصابة). وكان هؤلاء المحدثون أقوياء وعلى جانب عظيم من الصبر والجَلَدِ واحتمال المشاق وقوة الذاكرة، وكانت عندهم نهامة للعلم وحرص زائد على اقتباسه والتقاطه من موضعه.

وهكذا نجد أَنَّ الشُبْهَةَ التي اعتمدوا عليها في مهاجمة السُنَّة فاسدة ومُضَلِّلَةٌ ولم يكن لها أي أساس علمي أو تاريخي.

ولعل من الخرافات التي جرى وراءها المستشرقون وأتباعهم فرحين بأنهم التقطوا شيئاً ما، هو ما أطلقوا عليه (معراج ابن عباس) والكتاب مكذوب، لا يتداوله إِلاَّ عامَّة الناس، وليس له سند يربطه به، ولا رواية ترقى إليه، وقد احتفل به المستشرقون ثم تَبَيَّنَ لهم زيفه.

ولقد عرف عن هؤلاء المستشرقين طابع التحامل الواضح وتزييف النصوص في محاولة دعم شُبُهَاتِهِمْ، ومن أقوى الأمثلة على ذلك: أَنَّ جولدتسيهر حَرَّفَ عبارة الإمام الزُّهْرِي: (إِنَّ هَؤُلاَءِ الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ (الأَحَادِيثِ)) إلى لفظ: (عَلَى كِتَابَةِ (أَحَادِيثِ)) فضلاً عن اتهامه الإمام الزُّهْرِي بأنه واضع حديث فضل المسجد الأقصى إرضاءً لعبد الملك بن مروان ضد ابن الزبير، مع أَنَّ الزُّهْرِي لم يلق عبد الملك إلاَّ بعد سبع سنوات من مقتل ابن الزُبير.

أما القول الذي يتردد على ألسنة أصحاب الشُبُهات مثل قولهم: (لِنَرْجِعْ إِلَى القُرْآنِ الكَرِيمِ وَلكِنْ يَجِبُ أَلاَّ نَجْعَلَ مِنْ أَنْفُسِنَا مُتَعَبِّدِينَ لِلْسُنَّةِ) فإنَّ هذا القول، كما يقول العلاَّمة محمد أسد (ليوبولد فايس) (يكشف بكل بساطة عن جهل بالإسلام، إنَّ الذين يقولون هذا القول يشبهون رجلاً يريد أَنْ يدخل قصراً ولكنه لا يريد أَنْ يستعمل المفتاح الأصلي الذي يستطيع به وحده أَنْ يفتح الباب!!) ويتساءل: (هل هناك مبرر علمي لرفض الحديث على أنه مصدر يستند إليه الشرع الإسلامي؟) ثم يجيب: (إنه على الرغم من جميع الجهود التي بذلت في سبيل تَحَدِّي الحديث على أنه نظام ما، فإنَّ أولئك النقاد العصريين من الشرقيين والغربيين لم يستطيعوا أَنْ يدعموا انتقادهم العاطفي الخالص بنتائج من البحث العلمي، لأنَّ الجامعين لكتب الحديث الأول - خصوصاً الإمامين البخاري ومسلما - قد قاموا بكل ما في طاقة البشر عند عرض صحة كل حديث على قواعد التحديث عرضاً أشد كثيراً من الذي يلجأ إليه المؤرخون الأوروبيون عادة عند النظر في مصادر التاريخ القديم. ويكفي أَنْ نقول أنه نشأ من ذلك (علم تام الفروع) غايته الوحيدة البحث في معاني أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وشكلها وطريقة روايتها. 

وإِنَّ رفض الأحاديث الصحيحة جملة واحدة أو أقساماً ليس حتى اليوم إلاَّ قضية ذوق، وإِنَّ السبب الذي يحمل على مثل هذا الموقف من المعارضة بين كثيرين من المسلمين المعاصرين يمكن تتبعه إلى مصدره، إنَّ السبب يرجع إلى استحالة الجمع بين طريقة حياتنا وتفكيرنا الحاضرة المتقهقرة وبين روح الإسلام الصحيح. ولكي يستطيع نقدة الحديث المُزَيَّفُونَ أَنْ يُبَرِّرُوا قصورهم وقصور بيئتهم، فإنهم يحاولون أَنْ يزيلوا ضرورة اتِّبَاع السُنَّة، لأنهم إذا فعلوا ذلك كان بإمكانهم حينئذٍ أَنْ يَتَأوَّلُوا تعاليم القرآن الكريم كما يشاؤون على أوجه من التفكير السطحي أي حسب ميول كل واحد منهم وطريقة تفكيره هو، ولكن تلك المنزلة الممتازة التي للإسلام على أنه نظام خلقي وعملي ونظام شخصي واجتماعي تنتهي بهذه الطريقة إلى التهافت والاندثار، وإنَّ الذين خلبتهم المدنية الغربية لا يجدون مخرجاً من مأزقهم إلاَّ برفض السُنَّة على أنها غير واجبة الاِتِّبَاعِ بين المسلمين، ذلك لأنها قائمة على أحاديث لا يُوثَقُ بها، وبذلك يصح تحريف تعاليم القرآن الكريم لكي تظهر موافقته لروح المدنية الغربية أكثر سهولة).

وهذا هو الخطر الكامن وراء مهاجمة السُنَّة وإثارة الشُبْهَةِ حول الحديث النبوي.

لا مشاحة أَنَّ السُنَّةَ النبوية الشريفة هي المصدر الثاني للإسلام بعد القرآن باعتباره عقيدة وباعتباره تشريعاً وباعتباره أخلاقاً، وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المعنى في قوله الشريف: (أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ. أَلاَ وَأَنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ).

وقد كان جبريل - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسُنَّةِ كما ينزل عليه القرآن ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن. قال الإمام الشافعي: (وَسُنَنُ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَصُّ كِتَابٍ فَاتَّبَعَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم كَمَا أَنْزَلَ الله، وَالآخَرُ جُمْلَةً، بَيَّنَ رَسُولُ الله فِيهِ عَنْ الله مَعْنَى مَا أَرَادَ بِالجُمْلَةِ وَأَوْضَحَ كَيْفَ فَرْضُهَا عَامّاً أَوْ خَاصّاً، وَكَيْفَ أَرَادَ أَنْ يَأْتِي بِهِ العِبَادُ وَكِلاَهُمَا اتَّبَعَ فِيهِ كِتَابَ اللِه).

ولقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يُبَيِّنُ للناس القرآن عقيدة وشريعة وأخلاقاً على وجوه شتى وعلى أنحاء مختلفة وعلى أساليب متعددة، يُبَيِّنُ لهم ذلك بسلوكه وبقوله وبإقراراته، يقول: (مَا تَرَكْتُ شَيْئاً مِمَّا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ إِلاَّ وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلاَ تَرَكْتُ شَيْئاً - مِمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ. إِلاَّ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ) (3).

وقد عَلَّمَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس بثلاث طرق: 

تعليماته الشفوية التي هي أقواله، وسلوكه الشخصي الذي هو أعماله، وسكوته الذي يعني موافقته الحكيمة على أفعال غيره من الناس، يقول الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله تعالى: (إِنَّ الأحاديث النبوية مرتبطة في الإسلام بالقرآن كما ترتبط قوانين الدولة بدستورها، فالقرآن يأمرنا بالرجوع مباشرة للحديث النبوي لأخذ التعليمات المفصَّلة منه فيما يتعلق بأكبر فرضين أساسيين: الصلاة والزكاة (الصلاة واجبنا تجاه الله والزكاة تجاه مجتمعنا) والقرآن يُقِرُّ السُنَّة ويمنحها حق إيضاح فرائض القرآن الكريم العامة والتعريف بها، ولولا السُنَّة لظلَّت النصوص القرآنية غير مفهرسة ولبقيت مجملة).

ويقول الدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله تعالى: (كان بيان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشتمل على بيان ما أجمل في كتاب الله، أجمل القرآن الصلاة والزكاة والحج وفَصَّلَهَا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. بين ما فرض من الصلوات ومواقيتها وسُنَنِهَا وعدد ركعاتها، والزكاة ومواقيتها وكيف عمل الحج والعُمرة، كان يُبَيِّنُ كيفية الصلاة بقوله: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)، وفي الحج: (خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ)، وفرض الله سبحانه الزكاة ولم يُبَيِّنْ مقاديرها ولم يذكر بالتفصيل الزروع والثمار والأموال التي تجب فيها، وقد بَيَّنَتْ السُنَّةُ أَنَّ القاتل لا يرث وأَنَّ الوصية لا تكون في أكثر الثلث وأَنَّ الدَّيْنَ يُقَدَّمُ على الوصية).

ومما يروى أَنَّ عمران بن حصين رضي الله عنه قال لرجل يريد أَنْ يقتصر على القرآن دون السُنَّةِ: (إنك أمرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله الظهر أربعاً لا يجهر فيها بالقراءة؟) ثم عدَّد عليه الصلاة والزكاة ونحو هذا.

وقد أشار القرآن إلى مكانة السُنَّة وإلى مهمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفصيل ما أجمل القرآن وذلك في آيات بَيِّنَتٍ:

{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3،4].

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92].

{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21].

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].

ويقول الدكتور عبد الجليل شلبي: (إِنَّ الأية الكريمة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] تدل على أَنَّ وظيفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ يُوَضِّحَ للناس الأحكام التي نزلت إليهم في القرآن الكريم، وكان لابُدَّ أَنْ يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإِلاَّ لم يكن مُبَلِّغاً من عند الله تعالى وقد كان هذا البيان بالقول والعمل معاً. 

فالسُنَّةُ إذن مرجع الشريعة الكامل وبيانها الموضح كما أَنَّ السُنَّة جزء مكمِّل للقرآن وهي من عند الله تبارك وتعالى كما أَنَّ القرآن من عنده).

وقد أشار الأئمة الأعلام إلى أنه لا يرى قول الإمام من أئمة المذاهب في القرنين الثاني والثالث إِلاَّ وقد سبقه إليه صحابي أو تابعي، وإِنَّ مكانة السُنَّة النبوية والحديث من الشريعة الإسلامية لا تخفى، وأثرها في الفقه الإسلامي منذ عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة رضي الله عنهم حتى عصور الاجتهاد ... واستقرار المذاهب، وَإِنَّ من يَطَّلِعُ على القرآن والسُنَّةِ يجد أَنَّ السُنَّةَ الأثر الأكبر في إتساع دائرة التشريع الإسلامي وعظمتها وخلوده، هذا التشريع العظيم الذي بهر أنظار علماء القانون في جميع أنحاء العالم هو ما حمل ويحمل أعداء الإسلام في الماضي والحاضر على مهاجمة السُنَّة والتشكيك في صحتها ورُواتها من أعلام الصحابة.

هذا وبالله التوفيق.

الحلقة السابقة هــــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: أبحاث المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400هـ ، محرم 1400 هـ - الجزء 2.

(1) هو المستشرق فان فلوتن.

(2) نقلاً عن " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 195. الطبعة الثالثة - بيروت: 1402 هـ - 1982 م، المكتب الإسلامي: دمشق - سوريا، بيروت – لبنان.

(3) رواه الشافعي في " الرسالة ": (ص 87) وأثبت الشيخ أحمد شاكر صحته، في الصفحات: (93 - 103).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين