تقريب الظلال: سورة التغابن

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فهذا تقريب سورة التغابن من تفسير: (في ظلال القرآن) لسيد قطب.

سورة التغابن من السور التي اختُلف في مكان نزولها، فقيل إنها مكية، وقيل إنها مدنية، والراجح أنها سورة مدنية، والذي جعل بعض المفسرين يقول بمكيَّتها؛ أن الجو المدني لا يكاد يتبين إلا في فقراتِها الأخيرة، تلك الفقرات التي جاءت تحضُّ المؤمنين على الإنفاق، وتحذرهم فتنة الأموال والأولاد، وترد كل الأمور إلى قدر الله تعالى؛ أما مطلع السورة فيستهدف بناء أسس العقيدة بأسلوب السور المكية، التي كانت تواجه الكفار المشركين ابتداءً.

مقطع السورة الأول يستهدف بناء التصور الإيماني الكوني، ويعرض حقيقة الصلة بين الخالق وهذا الكون الذي خلقه، ويقرر حقيقةَ بعض صفات الله، وأسمائه الحسنى، وأثرها في الكون، وفي الحياة الإنسانية؛ فيقول: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)﴾ [التغابن: 1 - 4]، هذا التصور الكوني الإيماني هو أدق تصور عرفه المؤمنون في تاريخ العقيدة وأوسعه، ونحن نؤمن أن الرسالاتِ السماوية كلَّها جاءت بوحدانية الله تعالى، وأن خالق الكون وما فيه اللهُ وحده، وأنه هو الذي يرعاه، حكى القرآن ذلك عن الرسل والرسالات، ولا عبرة بما جاء في بعض الكتب السماوية المفتراة، التي يخالف مضمونها هذا الاعتقاد ويكذبه؛ لأنه تحريف طارئ، لا من أصل الديانة، فدين الله واحد، ويستحيل أن ينزل الله ديناً يخالف تلك القواعد، أو يكذبها؛ ولكن ذلك لا ينافي أن يكون التصور الإسلامي عن الذات الإلهية، وعن الكون والحياة؛ أوسع وأدق وأكمل، من كل تصور سابق في الديانات الإلهية، وهذا الذي يتفق وطبيعة الرسالة الخاتمة، والرشد البشري، الذي جاءت الرسالة تخاطبه، وتنشئ فيه هذا الاعتقاد الشامل، بكل مقتضياته وآثاره. 

إن من شأن هذا التصور الواسع الشامل أن يدرك معه القلب حقيقة الألوهية وعظمتها، ويشعر بالقدرة الإلهية التي يرى آثارها في الكون، محيطة بكل شيء، لا يندُّ عنها شيء، سواء في ذلك الصغير والكبير، والجليل والحقير، وهذا الإدراك يجعل القلب يعيش في حساسية مرهفة، وخشية وارتقاب، وطمع ورجاء؛ ليمضي في الحياة متعلقاً بالله، شاعراً بقدرته وعلمه، وقهره وجبروته، ورحمته وفضله، مستشعراً أن الوجود كلَّه من حوله يتجه إلى الله خالقه، مسبحاً بحمد ربه؛ فيشاركه تسبيحه، مُدبَّراً بأمره وحكمته؛ فيخضع لشريعته وقانونه.

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قلبُ هذا الوجود مؤمن بالله، وروح كل شيء فيه مؤمنة؛ ولذا كل من فيه يسبح بحمد الله، المالك لكل شيء، والإنسان الذي يقف في خضم هذا الوجود المسبح لله كافرَ القلب، لا يسبح ربه، ولا يتجه إليه؛ فإنما يكون شاذاً بارز الشذوذ، منبوذاً من كل موجود، وإن المؤمن إذ يركن إلى الله ويسبحه؛ فإنما يركن إلى القدرة التي تفعل ما تشاء، وتحقق ما تريد، بلا حدود ولا قيود؛ ذلك أن الله على كل شيء قدير، وهذا الاعتقاد والتصور؛ فرع عن التصور الإيماني الكبير، عن الكون وخالقه.

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، عن إرادة الله وقدرته صدرَ هذا الإنسان، وميَّزه الله من بين خلقه فأودع فيه إمكانَ الاتجاه إلى الكفر، وإمكان الاتجاه إلى الإيمان، ثم أناط به حمل الأمانة الثقيلة في الأرض، وأمدَّه بالميزان الذي يزن به أعماله؛ أمدَّه بالدين الذي جاءت به رسل الله وأنبياؤه، والله من وراء ذلك رقيب على أعماله، بصير بحقيقة نيَّته واتجاهه.

﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾، صَدْرُ هذه الآية يقرُّ في شعور المؤمن أن الحق أصيل في هذا الكون، ليس عارضاً ولا نافلة، والذي أقرَّ هذا الحق هو الله خالق الكون، ومن شأن ذلك أن يمنح المؤمن ثقة وطمأنينة في الحق الذي يقوم عليه دينه، ويقوم عليه الوجود من حوله، وأنه حق لا بد ظاهر، ولا بد باقٍ مستمر؛ بعد زبد الباطل ونهايته.

الحقيقة الثانية في الآية تشعر الإنسان بكرامته على الله تعالى، وبفضل الله عليه في تحسين صورته، صورته الخلْقية، وصورته الشعورية، فهو أكمل المخلوقات في تكوينه الجثماني، وأرقاها في تكوينه الشعوري، واستعداده الروحي؛ ولذا وكلت إليه الخلافة في الأرض، وأقيم في هذا الملك العريض بالقياس إليه، وإن نظرةً فاحصةً في الهندسة العامة لتركيب الإنسان؛ تثبتُ هذه الحقيقة ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ فهي هندسة اجتمع فيها الجمال والكمال، والجمال يتفاوت بين شكل وشكل؛ ولكن التصميم في ذاته جميل، ووافٍ بكل الوظائف والخصائص، التي يتفوق بها الإنسان في الأرض على سائر الأحياء، ثم إن مصير هذا الكون، وهذا الإنسان إلى الله، المحيط بكل شيء ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾.

﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ إن استقرار هذه الحقيقة في قلب المؤمن؛ تجعله يحيا حياةَ الشاعر بأنه مكشوف كلُّه لعين الله، فليس له سرٌّ يخفى عليه، وليس له نيَّةٌ غائرة في الضمير لا يراها الله؛ لأنه سبحانه ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ والآيات التي سبقت تجعل المؤمن يدرك حقيقة وجوده، ووجود الكون كله، وصلته بخالقه، وأدبه مع ربه، وخشيته وتقواه، في كل حركة، وكل اتجاه.

ثم يأتي المقطع الثاني من السورة يذكر المشركين بمصير الغابرين، من المكذبين بالرسل والبينات، ويحذرهم عاقبتهم؛ فيقول: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)﴾ [التغابن: 5، 6]، يلفت أنظارهم بهذا الاستفهام الذي بدأ به المقطع، إلى أنباء بعض الأمم الهلكى، كعاد وثمود وقرى لوط، التي كانوا يمرون عليها في رحلاتهم للشمال والجنوب، ويضيف إلى تلك الأخبار التي يعرفونها عنهم في الدنيا؛ أن لهم في الآخرة ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، ثم يكشف لهم سبب ذلك العذاب الذي نالهم في الدنيا والآخرة، وأنه نفسه الاعتراض الذي يعترضون به على رسول الله الذي جاءهم فَقَالُوا: ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾، وهو اعتراض فجٌ، ناشئ عن الجهل بطبيعة الرسالة، وأنها منهج للبشر، ولا بدَّ أن تتمثل واقعاً في البشر، يكون بشخصه ترجماناً لها؛ فيصوغ الآخرون أنفسَهم على مثاله بقدر ما يستطيعون، ولا ينعزل هو عنهم بجنسه، فيتعذر أن يجدوا للرسالة صورة واقعية، يحاولون تحقيقها في ذوات أنفسهم، وفي حياتهم ومعاشهم.

وقولهم: ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ ناتج عن الجهل بطبيعة الإنسان أيضاً، وقدرته أن يتلقى رسالة السماء ويبلغَها، دون حاجة إلى أن يحملها ملك إلى الناس، كما كانوا يقترحون؛ ذلك أن في الإنسان نفخة من روح الله تعالى، تهيِّؤُه لاستقبال الرسالة من الله، وأدائها كاملة كما تلقاها.

وينطوي قولهم ذلك على تعنت واستكبار كاذب عن اتباع رسولٍ منهم، وكأن في اتباعهم له غضَّاً من قيمتهم، فجائز في عرفهم اتباع رسولٍ من خلق آخر بلا غضاضة، أما اتباع رسولٍ منهم فهو في نظرهم حِطَّة من قيمتهم؛ ولذا كفروا وتولوا عن الرسل معرضين متكبرين ﴿وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ استغنى الله عنهم وعن إيمانهم وطاعتهم؛ وما هو سبحانه بمحتاج إلى شيء منهم. 

ويأتي المقطع الثالث تتمة للمقطع الثاني، يحكي تكذيب مشركي مكة بالبعث، ويوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتأكيد أمر البعث لهم، ويصور مشهد القيامة، ومصير المكذبين به، ويدعو لطاعة الله ورسوله، ويردُّ كل شيء لله فيما يقع في الحياة؛ فيقول: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)﴾ [التغابن: 7، 13].

أول كلمة في المقطع تقضي بتكذيب المشركين في قولهم بعدم البعث فتسميه: زعماً، ثم توجه الآيات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليؤكد لهم البعث بأوثق توكيد، وهو الحلف بالله، وليس بعد حلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توكيد ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾... ﴿ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾ فليس شيء من عملكم بمتروك، فالله أعلم به منكم ﴿وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾، وفي ظل هذا التوكيد يدعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله، وبالنور الذي نزل عليه، وهو هذا القرآن، والدين الذي بشَّر به هذا القرآن، فهو نور في حقيقته؛ لأنه من عند الله تعالى، ونور في آثاره؛ لأنه ينير القلب فيشرق بذاته، ويبصر الحقيقة الكامنة في ذاته ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا﴾ ويعقب هذه الدعوة بما يشعرهم أنهم مكشوفون لعين الله، لا يخفى عليه منهم شيء ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.

ثم تعود الآيات بعد هذه الدعوة إلى استكمال مشهد القيامة فتقول: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ فأما أنه يوم الجمع فلأن جميع الخلائق في جميع الأجيال تبعث فيه وتجمع، والملائكة الذين لا يعلم عددهم إلا الله تعالى من بين الجمع يوم الجمع، وفي مشهد من مشاهد يوم الجمع يكون التغابن، فيفوز المؤمنون بالجنة ونعيمها، ويحرم الكافرون من كل شيء، ويصيرون إلى الجحيم، فكأنما هما في سباق، فاز في نهايته فريق بكل شيء، وحرم فريق من كل شيء، فهو تغابن بهذا المعنى المتحرك، تفسره الآيات بعده: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾، وبعد هذا تقرر الآيات قاعدة من قواعد الإيمان بالقدر، وهي ردُّ كل شيء إلى الله ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ وهذا جانب ضخم، ينشئه الإسلام في ضمير المؤمن، فيحس يدَ الله في كل حدث وحركة؛ فيطمئنَّ قلبُه ويهتدي؛ فيصبر على الضراء، ويشكر على السراء، وربما تسامى فوق ذلك فشكر في السراء والضراء؛ إذ يرى فيهما فضلَ الله ورحمتَه بالتنبيه، أو بالتكفير، أو بترجيح ميزان الحسنات، وفي الحديث: «عجباً للمؤمن! لا يقضي الله قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن».

ثم تتابع الآيات دعوتهم للإيمان؛ فتدعوهم لطاعة الله ورسوله، وتبين لهم بعد أن عرضت مصير الغابرين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ، وليس بعد البلاغ وإقامة الحجة؛ إلا ما ينتظرهم من عاقبة المعصية والتولي: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾، ويختم المقطع بتقرير حقيقة التوحيد، التي ينكرونها؛ فيقول: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، ومقتضى هذه الحقيقة أن يكون التوكل على الله وحده سبحانه.

وفي نهاية السورة يتوجه الخطاب للمؤمنين ببعض التوجيهات، على أولها الحذر من فتنة الأزواج والأولاد والأموال، ثم تقوى الله في حدود الطاقة والاستطاعة؛ فتقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)﴾ [التغابن: 14 - 18]، روى الترمذي: أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الآية الأولى من هذا السياق فقال: "فهؤلاء رجال أسلموا من مكة، فأرادوا أن يأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهمُّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله هذه الآية: ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾"، ومع ما جاء في سبب نزول هذه الآية؛ فإنها أشمل، وأبعد مدىً، وأطول أمداً، فالتنبيه إلى أن من الأزواج والأولاد من يكون عدواً؛ يشير إلى حقيقة عميقة في الحياة البشرية، ويمس وشائج متشابكة دقيقة في التركيب العاطفي، وفي ملابسات الحياة سواء، فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر الله، كما أنهم قد يكونون دافعاً للتقصير في تبعات الإيمان؛ اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم؛ لو قام المؤمن بواجبه، فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل، فصاروا بذلك عدواً له؛ لأنهم صدوه عن الخير؛ ومن ثمَّ اقتضت هذه الحال المعقدة المتشابكة، التحذير من الله؛ لإثارة اليقظة في قلوب الذين آمنوا، والحذر من تسلل هذه المشاعر، وضغط هذه المؤثرات.

ثم كرر التحذير أخرى من فتنة الأموال والأولاد؛ فقال: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، فهم فتنة بمعنى: اختبار من الله لكم؛ فانتبهوا، وفتنة توقعكم في المخالفة والمعصية؛ فاحذروها أن تبعدكم عن الله، وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن بريدة قال: سمعت أبي بريدة يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما، عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران؛ فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المنبر فحملهما، فوضعهما بين يديه، ثم قال: «صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما»، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذان ابنا بنته، ولا يصبر أن يراهما يعثران، فهو أمر خطير، والتحذير منه ضرورة يقدرها من خلق القلوب، وأودعها هذه المشاعر؛ كي لا تتمادى ولا تفرط في انجذابها إليهم؛ فتكون العداوة، ويعدهم الله على الصبر على تلك الفتنة أجرًا عظيمًا.

ثم تهتف الآيات للذين آمنوا بتقوى الله في حدود الطاعة والاستطاعة ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا﴾ وفي هذا القيد: ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ يتجلى لطف الله بعباده، وعلمه بمدى طاقتهم في تقواه وطاعته، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»، يقبل الله من الطاعة ما يُستطاع، أما النهي فلا تجزئة فيه، بل يطلب بكامله، ثم يهيب بهم إلى الإنفاق ﴿وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ فهم ينفقون لأنفسهم وذواتهم، ويعدهم عليه الخير حين يفعلون، ويريهم شحَّ النفس بلاءً ملازماً، السعيد السعيد من يخلص منه ويوقاه: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ثم تمضي الآيات في إغرائهم بالإنفاق؛ فتسميه قرضاً لله، يضاعفه ويغفر به: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ وتبارك الله ما أكرمه، وما أعظمه، وهو ينشئ العبد، ثم يرزقه، ثم يسأله فضل ما أعطاه قرضاً يضاعفه، ثم يشكر لعبده الذي أنشأه وأعطاه، ويعامله بالحلم في تقصيره هو عن شكر مولاه، يا لله!

ثم يختم هذه الجولة بصفة الله، التي بها الاطلاع والرقابة على القلوب: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ وهي تشعر الخلق بأن عين الله تراهم، وأن سلطانه عليهم، وأن حكمته تدبر الأمر كله، حاضره وغائبه؛ فيحملهم ذلك على تقواه، والإخلاص له، والاستجابة لأمره.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين