تقريب الظلال: سورة المنافقون

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فهذا تقريب سورة المنافقون من تفسير: (في ظلال القرآن) لسيد قطب. 

لا تكاد سورةٌ مدنيةٌ تخلو من ذكر المنافقين، إما تلميحًا أو تصريحًا، ذلك أن حركة النفاق بدأت بدخول الإسلام المدينة، واستمرت إلى قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وشَغلت حركتُهم تلك قدرًا كبيرًا من جهد المسلمين ووقتهم؛ ولذا ورد ذكرهم كثيراً في السور المدنية، وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ الأمر الذي يدل على ضخامة حركتهم، وأثرهم البالغ في حياة الدعوة في ذلك الحين، وتأتي سورة المنافقين هذه وتكاد تكون مقصورةً على الحديث عنهم، والإشارة إلى بعض الأحداث والأقوال التي وقعت منهم، ومن ثمَّ تشن حملةً على أخلاقهم، ودسائسهم، وما انطوت عليه نفوسهم، من الكيد للمسلمين، والجبن وعمى البصيرة، وليس في السورة إلا لفتة تحذر فيها المؤمنين من كل ما يلتصق بهم من صفات المنافقين، كالغفلة عن ذكر الله تعالى، والانشغال بالأموال والأولاد، والتقاعس عن الإنفاق في سبيل الله(1). 

يقول تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون: 1، 2]، تبدأ السورة بتكذيب الله تعالى للمنافقين في شهادتهم برسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم لم يقصدوا وجهَ الحق بشهادتهم تلك؛ وأنهم إنما جاؤوا ليخدعوا المسلمين بها؛ ففضحهم الله بهذه الآيات؛ بعد التحفُّظ، الذي يثبت حقيقة الرسالة ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾... ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾، والآيات توحي بأنهم كانوا يحلفون الأيمانَ كلما انكشف أمرهم، أو كاد ينكشف، فيجعلون من أيمانهم تلك جنَّةً يتَّقون بها ما يترتب على افتضاح أمرهم؛ ليواصلوا كيدهم، وإغواءَهم للمخدوعين فيهم ﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، صدوا أنفسهم وغيرهم، مستعينين بتلك الأيمان ﴿إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾،وعِلَّة أفعالهم تلك أنهم: ﴿آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ عرفوا الإيمان، ثم اختاروا العودة إلى الكفر؛ لأن قلوبهم قد خلت من الفقه والذوق والحياة، واستساغت الكفر الكالح، المجدب الكنود ﴿فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾، وحتى تنكشف حقيقتهم أكثر وأكثر؛ ترسمُ لهم السورة صورةً فريدةً مبدعةً، تثير السخرية والهزء بهم، وتسمهم بالفراغ والجبن، والفزع والحقد؛ بل إنها تنصبهم تمثالاً وهدفاً للسخرية فتقول: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون: 4]، فهم أجساد تعجب العيون ما داموا صامتين؛ أما حين يتكلمون فهم خواء من كل معنى، كالخشب الـمُسنَّدة، لا حركة فيها ولا حس، إنما هي ملطوعة بجانب الجدار، وهم مع ذلك في توجس دائم، واهتزاز دائم، يعرفون أنهم منافقون، مستورون بستار رقيق من الحلِف والـمَلَق الكاذب؛ لذا فهم يخشون في كل لحظة أن يكون أمرُهم قد افتُضح، وسترُهم قد انكشف ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ ترسمهم الآية متلفتين حواليهم، متوجسين من كل حركة وصوت، يظنونها تطلبهم، أو عرفت حقيقتهم، بينما هم خشب ملطوعة؛ إذا ما كان الأمر أمرَ فقه وشعور بالإيمان، وهم بحالهم هذا يمثلون العدو الأول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ العدو الكامن داخل المعسكر المسلم، وهو أخطر من العدو الخارجي الصريح ﴿فَاحْذَرْهُمْ﴾، ولـما لم يؤمر هنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتلهم؛ أخذهم بخطة فيها حكمة، وثقة بالنجاة من كيدهم، كما سيأتي، ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ ودعاء الله عليهم بالقتل قضاءٌ نافذٌ، لا رادَّ له، ولا معقبَ عليه، وهو الذي كان نهاية المطاف.

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 5 - 8]، ذكر غير واحد من السلف أن هذه الآيات نزلت في عبد الله بن سلول رأس المنافقين، وفصَّل ذلك ابن إسحاق في حديثه عن غزوة بني المصطلق فذكر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان بعد الغزوة على ماء المريسيع، ووردت واردة الناس عليه، وممن ورد: عمر بن الخطاب، ومعه أجير له من غفار يقال له: جهجاه؛ فازدحم جهجاه وسنانَ الجهني، حليف بني عوف ابن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصاح الجهني: يا معشر الأنصار، وصاح جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن سلول، وقال: أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش(2) إلا كما قال الأول: سمِّنْ كلبَك يأكلْكَ! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم: أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم بأيديكم؛ لتحولوا إلى غير داركم؛ فسمع ذلك زيد بن أرقم؛ فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب؛ فقال: مُرْ به عباد بن بشر فليقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا، ولكن أذن بالرحيل» وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرتحل فيها؛ فارتحل الناس، وقد مشى ابن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه؛ فحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، وكان في قومه شريفاً عظيماً؛ فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل؛ حدباً على ابن سلول، ودفعاً عنه، قال ابن إسحاق فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسار؛ لقيه أسيد بن حضير، فحيَّاه بتحية النبوة، وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحتَ في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟» قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال «عبد الله بن أُبي» قال: وما قال؟ قال: «زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعزُ منها الأذلَّ؟» قال: فأنت يا رسول الله والله لتخرجنَّه منها إن شئت، هو والله الذليل، وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز؛ ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً! ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض؛ فوقعوا نياماً، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله ابن أبي، ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في ابن سلول، ومن كان على مثل أمره؛ فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأُذن زيد بن أرقم، ثم قال: «هذا الذي أوفى لله بأذنه»، ولـمَّا بلغ عبدَ الله بن عبدِ الله بن أبي الذي كان من أمر أبيه؛ أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه؛ فإن كنت لا بد فاعلاً؛ فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا»، وجعل بعد ذلك ابن سلول إذا أحدث الحدث؛ كان قومه هم الذين يعاتبونه، ويأخذونه، ويعنفونه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلتُه يوم قلت لي اقتله؛ لأرعدت له آنفٌ لو أمرتها اليوم تقتله لقتلته» فقال عمر رضي الله عنه: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم بركة من أمري.

وذكر عكرمة وغيره أن الناس لـمَّا قفلوا عائدين؛ وقف عبد الله بن عبد الله بن أبي على باب المدينة، واستلَّ سيفه؛ حتى جاء أبوه؛ فقال له وراءك، فقال: مالك؟ ويلك! فقال: والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل! فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ شكا إليه ابن أُبي ابنَه؛ فقال ابنُه عبد الله: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له؛ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أما إذ أذن لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجُزِ الآن.

كانت الأحداث تجري كما يرسمها القدر لحِكمٍ وغايات، يريد الله تعالى أن يربي بها تلك الجماعة المختارة، والأمةَ من بعدهم، وحادثة عبد الله بن أُبي هذه، وابنه عبد الله، وتعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معها؛ هي وحدها موضع عبر وعظات جمَّة، فالمنافقون كانوا مندسين في الصف المسلم، يعيشون فيه في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرابة عشر سنوات، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخرجهم منه، ولم يعرِّفهم الله لنبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم بأسمائهم وأعيانهم، إنما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرفهم بلحن القول، بكيدهم ودسائسهم؛ وذلك كي لا يكل الله قلوب الناس للناس، فالقلوب لله وحده، هو الذي يعلم ما فيها، ويحاسب عليه، أما الناس فلهم الظاهر فقط، ولا يجوز لهم أن يأخذوا الناس بالظنة، ولا بالفراسة، ولـمَّا عرَّف الله نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم أواخر حياته بأسماء المنافقين؛ لم يخرجهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الجماعة وهم يظهرون الإسلام، ويؤدون فرائضه، إنما عرَّف بهم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، ولم يُشعْ ذلك بين المسلمين، لكنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يصلي عليهم، فكان المنافق يُعرف من ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلاةَ عليه، وبعده كان يُعرف بترك حذيفة رضي الله عنه الصلاةَ عليه.

ابن سلول عاش قريبًا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فيض الإسلام، ومدِّه في يثرب، يشهد الأحداث المتتالية، والآيات الدالة على حقيقةِ هذا الدين، وصدْقِ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن كفَّته عن الهداية إليه إحنةٌ في صدره؛ أن لم يكن ملكًا على الأوس والخزرج، وكان ابنه عبد الله نموذجاً رفيعاً للمسلم المتجرد الطائع، يشقى بأبيه، ويضيق صدره بأفاعيله، ويخجل من مواقفه؛ ولكنه يكنُّ له ما يكنه الولد البار العطوف، يسمع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد قتل أبيه؛ فتختلج في قلبه عواطف ومشاعر متباينة، يواجهها في صراحة وقوة؛ فيلجأ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليعينه على تلك الخلجات، ويرفعَ عنه العنت الذي يلاقيه؛ فيطلب منه إن كان لا بد فاعلاً أن يأمره هو بقتل أبيه، وهو يأتيه برأسه، كي لا يتولى ذلك غيره، فلا يطيق أن يرى قاتل أبيه يمشي على الأرض؛ فيقتله؛ فيقتل مؤمناً بكافر؛ فيدخل النار، ويرى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه النفس المؤمنة المحرجة؛ فيمسح عنها الحرج في سماحة وكرامة ويقول: «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا»، وبعد ذلك يقف عبد الله على باب المدينة فلا يسمح لأبيه بالدخول إليها؛ إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليتقرر بالتجربة الواقعية من هو الأعز، ومن هو الأذل، وهي والله قمَّةٌ سامقة تلك التي رفع الإيمان إليها أولئك الرجال، وهم بشر، فيهم ضعف البشر، وعواطف البشر وخوالجهم، وهذا أجمل وأصدق ما في هذه العقيدة، حين يدركها الناس على حقيقتها، فيصبحون هم حقيقتُها، تدب على الأرض في صورة بشر، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق. 

ثم تتابع السورة الحديث عن صفات أولئك المنافقين فتقول: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ وبعد أن ينكشف أمر المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ يحلفون الأيمان كذباً أنهم ما فعلوا، وإذا قال لهم قائل: تعالوا يستغفر لكم رسول الله؛ لووا رؤوسهم ترفعاً واستكباراً، وهذه صفات ملازمة للنفس المنافقة، وبعدها يأتي الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشأنهم: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ ثم تحكي الآيات طرفاً من فسقهم الذي استوجب قضاء الله فيهم فتقول: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾ قولةٌ يتجلى فيها خبث الطبع، وهي خطة التجويع التي يتواصى بها خصوم الإيمان على اختلاف الزمان والمكان، في حرب العقيدة والدين، كانت خطة قريش في حصار بني هاشم في الشعب؛ لينفضوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي خطة المنافقين كما تحكيها السورة هنا؛ لينفض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نصرته تحت وطأة الجوع، وكانت خطة الشيوعيين في حرمان المتدينين في بلادهم من بطاقات التموين؛ ليموتوا جوعاً، أو يكفروا بالله تعالى، وهي خطة كلِّ الذين يحاربون الدعوة إلى الله تعالى، يسدُّون أسباب العمل والرزق على الدعاة، وهكذا يتوافى على هذه الخطة الخسيسة كل خصوم الدين من قديم الزمان، إلى هذا الزمان، ناسين الحقيقة التي يذكرهم القرآن بها فيقول: ﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾ ومن تلك الخزائن يرتزق هؤلاء، الذين يحاولون التحكم بأرزاق المؤمنين، فليسوا هم من يرزقون أنفسهم، وما أغباهم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين، وبهذه الحقيقة يثبِّتُ الله المؤمنين لمواجهة خطة التجويع الخسيسة، التي لا يمارسها إلا أخس الأخساء، وألأم اللؤماء، فخزائن الله في السماوات والأرض هي خزائن الأرزاق للجميع، والذي يعطي أعداءه، لا ينسى أولياءه، ثم كانت قولة المنافقين الأخيرة: ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾، وقد وقفنا على أن الأذل لم يدخلها إلا بإذن الأعز ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ وهذا تكريم هائل كبير، أن يضم الله رسولَه والمؤمنين إلى جانبه، ويقول: ها نحن أولاء، وهذا لواء الأعزاء، وصدق الله فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن، تُستمدُّ من عزته تعالى، فلا تلين، ولا تهن ﴿وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون هذه العزة، ولا يتصلون بمصدرها الأصيل؟

ثم يأتي النداء الأخير في السورة لهؤلاء الذين أوقفهم الله في صفه مع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ليرتفعوا إلى هذا المكان الكريم، ويبرأوا من كل صفة تشبه صفات المنافقين، ويختاروا ذلك المقام الأسنى على الأموال والأولاد، فلا يدعوها تلهيهم عن بلوغ ذلك المقام الوضيء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)﴾ [المنافقون:9 - 11] الأموال والأولاد ملهاةٌ ومشغلة؛ إذا لم يستيقظ القلب، ويدرك غاية وجوده، ويشعر أن له هدفاً أعلى، يليق بالمخلوق الذي نفخ الله فيه من روحه، والله قد منح العبد الأموال والأولاد؛ ليقوم بالخلافة في الأرض، لا لتلهيه عن ذكر الله، ومن ألهتهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله ﴿فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ ومن يخسر نفسه، فقد خسر كل شيء؛ مهما ملك من مال، ومن أولاد.

وتختم السورة بلمسات متنوعة، تحضُّ المؤمنين على الإنفاق من رزق الله الذي آمنوا به، قبل أن يأتيهم الموت؛ فيتركوا كل شيء وراءهم لغيرهم، ومن لم يجد بين يديه شيئًا؛ تمنى أن لو كان قد أُمهل؛ ليتصدق، وليكون من الصالحين، وأنى له هذا؟ ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

(1) أورد سيد قطب في مقدمة تفسيره للسورة كلامًا مقتبسًا عن المنافقين من كتاب: (سيرة الرسول صور مقتبسة من القرآن الكريم) لمحمد عزة دروزة؛ آثرت عدم ذكره، والاكتفاء بالإشارة إليه.

(2) الجلابيب: اسمٌ كان يلقب به المنافقون أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المهاجرين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين