ورفع أبويه على العرش

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وختام النبيين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:

حقيقة إن القصص القرآني المتعلق ببني إسرائيل يتأثر المفسرون عند تفسيره أحيانا بما يرويه أحبار اليهود والنصارى، وذلك إحسانا للظن بهم وبما عندهم من العلم بالتوراة، وذلك يجعلهم أحيانا يخالفون ظاهر القرآن، الذي ينص على خلاف ما عندهم تكذيبا أو تخطئة لهم، لكن بعض المفسرين مع ذلك يخالفون ظاهر القرآن إلى حكايات التوراة والتراث الشعبي اليهودي، بل يذهبون يسوقون الأدلة على صحة ما في هذه الكتب المحرفة وصرف الآيات عن ظاهرها.

ففي قول الله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100]، نجد بعض المفسرين - كالسدي وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن - قد ذهبوا إلى أن المقصود بأبوي يوسف عليه السلام في الآية الكريمة: يعقوب أبو يوسف عليهما السلام، وليئة خالته، وقد كانت زوجة أبيه، وأن أمه راحيل كانت ماتت أثناء ولادة أخيه بنيامين [تفسير الطبري 16/267، 269، وتفسير ابن كثير 4/ 411، وتفسير الرازي 18/ 509].

ومنشأ هذا القول ما ورد في التوراة من أن أم يوسف عليه السلام قد ماتت أثناء ولادة أخيه بنيامين، فقد جاء في سفر التكوين: (ثم رحلوا من بيت إيل، وبينما هم على مسافة من أفراتة، ولدت راحيل وعسرت ولادتها، فلما عسرت ولادتها قالت لها القابلة: لا تخافي فإن هذا أيضا ابن لك. وكان قبل أن تفيض نفسها - لأنها ماتت - قد سمته "بن أوني"، وأما أبوه فسماه "بنيامين") [تك 35: 16 - 18].

ومن قال بهذا القول من المفسرين قالوا: لأن العرب تسمي العمة والخالة أمًّا، أو لأنها قامت بتربيته وقامت مقام أمه.

وذهب الرازي يستدل على حرمة الجمع بين البنت وعمتها أو خالتها بهذه الآية، فعند تفسيره لقول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23]، قال: "فثبت بما ذكرنا أن لفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة، فكان قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} متناولا للعمة والخالة من بعض الوجوه" [تفسير الرازي 10/ 37].

وهذا القول يمكن رده بوجوه:

1. أن الأصل أن اللفظ لا يصرف عن ظاهره إلا بدليل، فبقي لفظ الأبوين دالًّا على يعقوب وأم يوسف حتى يقوم الدليل على خلافه.

2. الأصل أن التغليب لا يقع على كلمتين إحداهما على الحقيقة والأخرى على المجاز، فلا يصح أن نطلق على الخالة أمًّا مجازا ثم نغلب لفظ الأبوين على الأب والخالة.

3. أن تحريم الجمع بين البنت وعمتها أو خالتها عرف بدليل آخر وليس بهذه الآية، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لا يُجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها".

***

وقال بعض المفسرين: إن أمه كانت قد ماتت، إلا أن الله تعالى أحياها وأنشرها من قبرها حتى سجدت له تحقيقا للرؤيا [تفسير الرازي 18/ 509].

ولا شك أن قائل هذا القول أراد الجمع بين ظاهر الآية وما جاء في التوراة، ولا شك كذلك أن هذا القول فيه تعسف، ولا دليل على صحته من كتاب الله تعالى ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو من الغيب الذي لا يمكن قبول الرأي فيه بلا دليل.

***

وذهب ابن إسحاق إلى أن المقصود أبوه وأمه، وأنها كانت حية، وهذا القول نصره الطبري فقال: "وأولى القولين في ذلك بالصواب ما قاله ابن إسحاق؛ لأن ذلك هو الأغلب في استعمال الناس والمتعارف بينهم في "أبوين"، إلا أن يصح ما يقال من أنّ أم يوسف كانت قد ماتت قبل ذلك بحُجة يجب التسليم لها، فيسلّم حينئذ لها" [تفسير الطبري 16/ 267].

ونقل ابن كثير عنه أنه قال: "ولم يقم دليل على موت أمه، وظاهر القرآن يدل على حياتها". وأيد ذلك ابن كثير وقال: "وهذا الذي نصره [يقصد ابن جرير الطبري] هو المنصور الذي يدل عليه السياق" [تفسير ابن كثير 4/ 411، 412].

لكن ما الذي يجعلنا مطمئنين إلى رفض رواية التوراة بشأن وفاة أم يوسف عليه السلام؟

يرجع ذلك إلى عدة أسباب:

1. السبب الذي تذكره التوراة لتفضيل يعقوب ليوسف ومحبته على سائر أبنائه لا ينطبق على يوسف بقدر ما ينطبق على بنيامين: (وأما إسرائيل فأحب يوسف أكثر من سائر بنيه؛ لأنه ابن شيخوخته) [تك 37: 3]، وبحسب التوراة فقد قال يهوذا ليوسف بعد قصة سرقة صواع الملك وأخذ يوسف لبنيامين أخيه: (لنا أب شيخ وابن شيخوخة صغير، مات أخوه، وبقي هو وحده لأمه، وأبوه يحبه) [تك 44: 20].

2. ما يؤكد كذلك أن راحيل أم يوسف لم تمت قبل دخولهم مصر، قول يهوذا ليوسف بعد قصة سرقة صواع الملك: (لنا أب شيخ وابن شيخوخة صغير، مات أخوه، وبقي هو وحده لأمه، وأبوه يحبه) [تك 44: 20]. فقوله: (وبقي هو وحده لأمه) يؤكد أن أمه كانت ما تزال حية، ولا يمكن أن يقصد هنا خالته؛ لأنه يقول: (وبقي هو وحده) وخالته كان لها بنون هم إخوة ليوسف، وهذا يدفعنا إلى الافتراض الآخر، وهو أن ليئة هي التي ماتت قبل دخول مصر لا راحيل، وهو ما أبينه في النقاط التالية.

3. تذكر التوراة أن ليئة قد ماتت ودفنت في أرض كنعان، فحين حضرت يعقوب الوفاة أوصاهم أن يدفنوه حيث دُفن إبراهيم وسارة، وإسحاق ورفقة، وحيث دَفَنَ هو ليئة، يقول النص: (أنا أنضم إلى قومي، ادفنوني عند قومي في المغارة التي في حقل عفرون الحثي، في المغارة التي في حقل المكفيلة التي أمام مَمْرَا في أرض كنعان، التي اشتراها إبراهيم مع الحقل من عفرون الحثي مُلْك قَبْر، هناك دفنوا إبراهيم وسارة امرأته، هناك دفنوا إسحاق ورفقة امرأته، وهناك دَفَنْتُ ليئة) [تك 49: 29 - 31].

4. من المستبعد أن نفترض أن ليئة خالة يوسف قد دخلت مصر وعندما توفيت دفنت في أرض كنعان، فالتوراة لم تذكر أسماء النساء الداخلات مصر فلا نجد اسمها، وأما التقليد الشفهي اليهودي فيذكر أنها ماتت قبل دخول مصر، بعد وفاة إسحاق أبي يعقوب بقليل، وقد كان أخوه عيسو يشن عليه حربًا، (ورغم أن عيسو لم يعترض على شيء أمام أخيه، إلا أنه قد عاد إلى الأرض ليشن الحرب على أخيه، وكانت ليئة قد ماتت لتوها، فحزن عليها يعقوب وأبناؤها) [أساطير اليهود 1/ 373].

5. ما يؤكد كذلك أن ليئة لم تمت في مصر، أنه عندما أراد يوسف عليه السلام أن يدفن أباه في حقل المكفيلة كما أوصاه، صعد معه جيش كبير من المصريين في عرباتهم الحربية، وجمع من الشيوخ والأعيان، بالإضافة إلى إخوته وأهل بيته، فلما وصلوا إلى مكان يدعى "بيدر أطاد"، رأى السكان في عبر الأردن جنازة عظيمة للمصريين، فدعوا المكان "آبَل مصرايم" [تك 50: 7 - 11]. ولو كانت ليئة ماتت في مصر، ونقلت لتدفن في حقل المكفيلة في أرض كنعان - كما نقلنا سابقا - لكانت هذه الجنازة المهيبة قد سبق مثلها عند دفن ليئة، ولكان المكان دعي "آبل مصرايم" عندئذ، لا عند وفاة يعقوب.

6. أخيرا، رؤيا يوسف لم تتحقق بحسب رواية التوراة، فلم يسجد له إخوته وأبوه وأمه، وإن كانت التوراة تذكر أن إخوته حين دخلوا عليه سجدوا له، وأن يعقوب قبيل موته سجد على رأس السرير، ولم تذكر أنه سجد ليوسف، إلا أنه بين دخول يعقوب مصر وهذا السجود سبع عشرة سنة، وكان ينبغي أن يسجدوا ليوسف مجتمعين عند دخولهم مصر، كما أن التوراة لم تذكر أن أمه أو خالته أو أيا من النساء قد سجدن له، وبهذا لم تتحقق الرؤيا.

وما زال في هذا الموضوع كلام ولعلنا نستكمله فيما يأتي إن شاء الله.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين