الدينُ الإسلاميُّ أسلوبُ حياةٍ (1/2)

ما من دينٍ استطاع أن يوحيَ إلى المتديِّنين به شعوراً بالعزَّة أو الكرامةِ الشعور الذي يخامرُ المسلمَ من غير تكلُّف ولا اصطناع، ذلك لأنَّ الإسلام ليس ديناً تعبُّدياً فقط، ولكنه أسلوب حياة تصطبغ به معيشةُ المسلمِ ظاهراً وباطناً، فهو يسمو على أن يكونَ مجرَّدَ فكرةٍ يناقشها أو نظريَّةٍ يتأملها.

وما من دين استطاع أن يقدِّم للمؤمنين به سكينة النفس وطمأنينة القلب، ويحجب عنه الانحراف والاضطراب والتمزُّق والضياع وتلك أبلغ مَطالب الإنسان وأقوى تطلُّعاته، بل إنَّ رفاهية الإنسان الحقَّة هي في إيمانه وسكينته وطمأنينة قلبه، وكرامته المثلى في أن يكون زاكياً فوق مَطالب الأبدان ودوافع الغرائز، وإذا كان هذا هدف الحضارة الحقَّة وأمل البشرية الأكبر فإنَّه لن يتحقق إلا بالدين والإيمان واليقين، وكل سبب من أسباب الطمأنينة والأمن والرضى مُنتزع من الإنسان بانتزاعِ نفسه من الدين.

ولقد آن للبشريَّةِ أن تعلمَ أنَّ هذه المناهج المبثوثة لن تحقِّقَ لها شيئاً مما ترجو من سكينةِ النفسِ أو سعادةِ الحياة، ولا سبيل لها إلى هذا الهدف وهو أغلى الأهداف إلا بأن تلتمس المنهج الربانيَّ الذي رَسَمَه لها الله تعالى، خالق الإنسان والحياة فهو وحدَه السبيل الذي سيحقق لها طمأنينة القلب وهناءة الحياة ولتجرب كما جربت.

دور الإيمان في حياة الإنسان:

ليس غير الإيمان بالله سبحانه بلسمٌ للروح، أو شفاءٌ للصدر، أو ترياق لأمراض القلق والحيرة والشك والارتياب، وكيف يمكن أن يكون الإنسان قادراً على مُواجهةِ شدائدِ الحياة بشجاعةٍ وصبرٍ دونَ الإيمان بالله تعالى؟!.

عندما يتمثَّل الإنسان منهج ربِّه الخالق المدبِّر المحيط بالأمر كله تمتلئ نفسه بالاطمئنان لكل ما يقع في حياته فلا يستسلم لليأس، ومن ثَمَّ يتجدَّد أمله كلما أخفق لجولة أخرى فيها النصر والفوز، فإذا عرف أنَّ اللهَ تعالى لا يُضيعُ أجرَ من أحسنَ عملاً، قوي أمله المتجدِّد وزاد في كفاحِه وسَعِد.

والمسلم دائماً في موقف الرضا والأمل في حالة العسر واليسر، ولا تذهب نفسه مذهبَ التشاؤم، لأنَّه يؤمنُ برحمة الله تعالى أولاً وعدله ثانياً، وأنه لا تزر وازرة وزرَ أخرى، أما في الغرب فإنَّ التشاؤم ظاهرةٌ أساسية للنفس مصدرها عقيدة الخطيئة الأصليَّة، وعدم إقناع العقل، وقَبول الفطرة لوراثة البشرِ خطيئةً لم يرتكبوها! 

ولقد ساد الغرب طابع الوجدان المتشائم نتيجة هذه القضية وظهرت آثارها القويَّة على الآداب والفنون والفلسفة والأخلاق، وهي التي وصلت بهم إلى فكرة اللامعقول والعبث، وتُعدُّ الوجوديَّة أعلى مراتب التشاؤم.

القيم التي فرضها الإسلام:

إنَّ الإسلام فوق كونه دیناً كسائر الأديان فهو حركةٌ اجتماعيَّة واسعة تشمل الاعتقاد والمجتمع والأخلاق والدولة، إنَّ ميزة الإسلام أنَّ نظرته كليَّة شاملة فهو لم يجزِّئ الحياة، بل نظرَ إليها نظرةً كاملة على أنَّها مُتصلة الأواحد، مُترابطة الأطراف، والقرآن الكريم كتاب الله سبحانه ومصدر النظرة الإسلاميَّة.

ولقد جعل الإسلام للقيم سلماً وأوليات وحصصاً، وجعل ترتيب هذه القيم حسب أهميتها، هذه الأوليات والنسب تظلُّ ثابتة، فإذا تغيَّرت فسدت المجتمعات وأصابها الاضطراب، فلقد جعل التوحيد والعمل والجهاد والزكاة والعبادة في مقدمة سلم القيم، وجعل للجسم والمال والزينة والمتاع حصصاً أيضا، فلم يغفلها ولكنه وضع لها مقاديرها وضوابطها. 

فإذا ذهبنا نقدِّم الرغبات والأهواء ضعفت نسبةُ الأعمال الكبرى وقلَّ قدرُها، وهنا تحدُث الأزمات؛ أزمات النفس والمجتمع، فإذا عاد المسلمون إلى سُلَّمِ القِيَمِ مرَّةً أخرى عادت إليهم القوَّة والكفاءة.

وإنَّ من أبرز حقائق الإسلام أنَّه لا يفرِّق بين النَّاس على أساس العنصر أو العِرْق، ويُقرُّ التفاضلَ على أساسِ العمل والسلوك، ولا يعرف الإسلام الرهبانيَّة أو الترف ولا يرفع الإنسانَ عن مستواه البشري، ويُفرِّق بين الألوهيَّة والنبوَّة وهو يربطُ بين الدينِ والدولةِ، والدين والعلم، والدين والأخلاق.

إنَّ أخطرَ ما يواجه الفكر الإسلامي هو محاولة تجزئته أو فرض مفهوم الانشطاريَّة الغربي عليه، ولقد جاء الإسلام حاكماً على المدنيَّات والأمم ولم يجئْ محكوماً، وهو ليس مطيَّةً للدعوات والمذاهب بل له مُقوِّماته الأصيلة وأحكامه المستقلَّة وذاتيَّتُه الخاصَّة.

موقف الإسلام من القوَّتين (الماديَّةِ، والروحيَّة):

غَالت بعضُ الأديان في تفسير القوَّة المادية، وغالت بعض الأديان في تقدير القوة الروحيَّة، أمَّا الإسلام فقد وازن بين الناحيتين على أساس أنَّ كلاً منهما عنصر أساسي في الطبيعة البشريَّة لا غنى عنه لتقدُّم الإنسان ولقد تقرَّر أنَّ القوَّة الماديَّة أو القوَّة الروحيَّة ليست خيراً أو شراً في حدِّ ذاتها بل في طريقة استعمال الإنسان لها. 

وتأثيرها النهائي إنما يتحدَّد بالهدفِ الذي تُستخدم له؛ فإذا ما استُخدمت لإسعاد الناس وتقدمهم مادياً وروحياً كان رحمة، وإذا استخدمت لاستعباد الناس وإذلالهم كانت نقمة، وهنا تأتي أهميَّة الدور الذي يؤديه الدين حيث تكون مهمَّتُه توجيه الطاقات كلها إلى الخير وإلى الإخاء الإنساني.

كيف عالج الإسلام الإنسان:

وقف الإسلام أمام الإنسان موقفاً مُتميزاً، مخالفاً لموقف الفلسفات والعقائد، وقد أقام الإسلامُ هذا الموقف على أساسِ تكريم الإنسانِ بوصفه موضعَ الاستخلافِ في الأرضِ والنظر إليه من خلال طبيعته الأصليَّة الجامعة بين الروح والجسم، والعقل والقلب، وبوصفه كياناً مُتكاملاً، وبذلك أقرَّ برغباته الماديَّة كلها، وأباحها له دون أن يُقيِّدَها إلا بضوابط قَصَد بها حمايةَ الإنسان نفسه من الانهيار والتدمير، وحتى يكون قادراً على أداءِ رسالتِه ومواجهة تحديات عصره، دون أن يتعسَّف أو يتحطَّم.

وجعل سعيَه في الحياةِ الدنيا مُرتبطاً بالجزاءِ في الآخرةِ، وأعطاه المسؤوليَّة الفرديَّة، والالتزام الخُلقي لكي يواجهَ العالم من منطلق الكرامة، وجعل مَسيرتَه كلَّها خالصةً لله تعالى. 

فالإنسان في مفهوم الإسلام، روح وعقلٌ وجسد ونفس، وكلُّ التفسيرات التي تتناوله من جانبٍ واحد هو جانب الجسد كالماديَّة الغربيَّة، أو جانب الروح كالمذاهب الشرقيَّة كلاهما خاطئٌ، كذلك تفسير حياته وتاريخه من مصدرٍ واحد هو الطعام أو الجنس أو البيئة هو تفسير انشطاريٌّ فاسد لا يصلُ إلى الحقيقة، وليس هناك منهج مُتكامل لفهم الإنسان في العبادة كلها سوى منهج الإسلام والإنسان في مفهوم الإنسان ثابت الجوهر مُتغيِّر الصورة. 

ولا يَرفع الإسلامُ الإنسانَ عن مستواه كمُستخلف في الأرض ولا يخْفِضُه عن مكانته، فالكائن الإنساني کلٌّ مُتَّسق في حياته بأبعادها الثلاثة: الجسديَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة في كل أزمة يُصاب بها لابدَّ أن تكون النظرةُ شاملة لهذه الجوانب، بدون فَصْلٍ بينها.

الفكر الذي يُبغضه الإسلام:

الأسلوبُ الذي قدَّمه القرآن للمعرفة هو الأسلوب العميق الفطري، المتَّصل بالقلوب والعقول والأرواح والعواطف، هو الطريق الذي أقنعَ راعيَ الإبل والصيَّادَ، واجتذبَ الطفلَ والمرأة، والمثقَّفَ والجاهلَ بعيداً عن التعقيدات المنطقيَّة والعقليَّة. 

وهو طريق الأنبياء وهو أصحُّ طريق للأجيال المتجدِّدة وهو أصحُّ وأسلم وأعمق أثراً من أساليب الفلاسفة والمعتزلة والصوفيَّة على السواء؛ لأنَّه منهجُ القرآن.

يقول الإمام الغزالي: (إنَّ أدلة القرآن مثل الغذاء يَنتفع به كل إنسان، وأدلة المتكلمين مثل الدواء يَنتفع به آحاد الناس ويستضر به الأكثرون، بل أدلَّة القرآن كالماء الذي يَنتفع به الصبي الرضيع والرجل القوي، وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مَرَّة ويمرضون بها مرةً أخرى، ولا ينتفع بها الصبيان أصلاً).

ولقد جاء الإسلام بفكرة رئيسية في المعرفة: هي فكرة الحقِّ، في كل شيء فيما يتعلق بالكلام عن الله تعالى وعن أساس الحكم على الأشياء، وجاء يُحارب التقليد والجمود، ويُحارب الرأي القائم على الظنِّ والحكمَ القائمَ على الهوى، ويُطالب بالدليل والبرهان.

[للمقالة تتمة في الجزء التالي]

المصدر: (كتاب أحاديث إلى الشباب عن العقيدة والنفس والحياة في ضوء الإسلام) ص27.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين