تعريف بكتاب : النسق القرآني ـ دراسة أسلوبية ـ

بقلم المؤلف:د/ محمد ديب الجاجي.


باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
     فإن اختيار عنوان الكتاب (النسق القرآني_ دراسة أسلوبية)، يقتضي تعريف القارئ الكريم بدلالاته وأبعاده وأهدافه.


ومن أجل ذلك نقدم الملاحظات الآتية:
أولاً: لقد كانت دراسة القيم الجمالية والتعبيرية في القرآن الكريم تجري ضمن منطقة الإعجاز ولم تنتقل إلى ساحة الدراسات الأدبية التطبيقية.


      ثم بدأت تدخل هذه الساحة على توجس وتخوف من أن يكون ذلك خروجاً بالنص القرآني عن بيئته ومجاله، وزجه في مجالات أخرى غريبة عنه.


إلى أن توجهت الجهود حديثاً إلى هذا النوع من الدراسة بهدف اكتشاف هذه القيم من منظور أدبي نقدي يقدم تفسيراً لموضوع الإعجاز نفسه، ويشكل مقاربة للنص القرآني يدخل هذه الساحة، تختبر من خلاله النظريات وتكتشف القابليات.


      وتأتي هذه الدراسة محاولة لإثبات أن سيادة البيان القرآني في الماضي وتميز نسقه المتفرد، لم يكن أثراً تاريخياً أو عملاً فنياً استنفد أغراضه، وإنما لازال في الساحة النص المتفرد المطرد في سمو التعبير وعمق الدلالة وقوة الإثارة والتأثير كما كان! غنياً بمعطياته وهو يتعامل مع أحدث النظريات الأدبية الحديثة، لا تسجنه أو تقيده نظرية ولا تعجزه منافسة أو تصل ذروته محاولة.


ثانياً: تبدو أهمية هذه الدراسة في أنها اكتشفت أن النسق القرآني يعتمد في أدائه التعبيري على سمتين بارزتين تفرد بهما دون الأنساق التعبيرية الأخرى، هما: دقة الاختيار وحسن التوظيف، وتبدو آثارهما في الصيغ التعبيرية والجمالية التي يتشكل منها النسق العام بكل مرتسماته الصوتية والتعبيرية والتصويرية والتأثيرية.


- ففي النسق الصوتي ترد ظاهرة الانسجام المطرد والملاءمة المطلقة بين الصوت والمضمون، دون أن يخضع النظم للضرورات الصوتية في الفاصلة أو غيرها كما خضع الشعر لها أحياناً كثيرة، وهو ما يثبت خلال التطبيق أن النسق الصوتي لم يعد حضوره في النسق العام حضوراً تحسينياً لفظياً أو معنوياً مثلما صنفه الدارسون القدامى في قائمة علم البديع، وإنما يتشكل الإيقاع الصوتي في نسيج النص من خلال نوعين من الإيقاعية: الإيقاعية الداخلية من نحو ظاهرة انعدام الرتابة أو التكرار أو التقابل وغيرها، والإيقاعية الخارجية المتمثلة في مهمات صوتية تؤديها الفاصلة على مستوى المفردة والآية والمقطع ونسق السورة، بحيث يشكل هذا الإيقاع نسيجاً متلاحماً يخدم المضمون ويحقق الجمالية في آن واحد.
- وفي نسق النظم: فإنه من خلال السمتين السابقتين (دقة

الاختيار وحسن التوظيف) تبدو المفردة القرآنية ذات قدرات خاصة تتمتع بها قبل دخولها ساحة التركيب _جملة وسياقاً_ فإذا دخلت المفردة الجملة وسبحت في فضاء النظم واستقرت في سياقاته منحها ذلك قيمتها اللغوية المطلوبة في النص: تعريفاً وتنكيراً، ذكراً أو حذفاً، تقديماً أو تأخيراً، تكراراً وتقابلاً، تضميناً والتفاتاً إلى غير ذلك من ظواهر التعبير القرآني المتنوعة عبر الجملة والآية والسياق والنسق وأساليب التعبير.


- وفي نسق الصورة الفنية: طرحت الدراسة قضية امتاز بها النسق القرآني وإن لم ينفرد بها، تلك هي أن الصورة الفنية في النسق القرآني لا تقتصر على الصورة البلاغية المجازية، وإنما تتعداها إلى الصورة  الحقيقية حين تحمل عنصري الخيال والإثارة على أنهما الهدف المقصود من صياغة الصورة الفنية في النسق الأدبي، لأن الصورة القرآنية _كما سيتضح_ تخاطب مراكز الوعي كلها في الإنسان المتلقي، ولا تلغي دور العقل عند صياغتها، كما تمتاز الصورة الفنية في القرآن الكريم بسعة انتشارها على مساحة واسعة من النسق القرآني تجمع في الوقت نفسه بين الهدفين: الديني والفني في آن واحد، وفي هذا تصحيح لمفهوم يرى أن لا علاقة بين الدين والفن، وهو رأي يتجاهل أن الدين والفن معاً يخاطبان النفس الإنسانية بهدف إثارة بواعث الخير والجمال فيها.


- كما أن النسق القرآني يحمل شحنةً وجدانية نحسها ماثلة في معظم آياته وسياقاته تؤكد أن النسق يخاطب العقل والقلب، وحيث أن الأثر النفسي في النص يحسب في طرف المضمون عند بعض الدارسين، فقد تجنبت الدراسة إفراده بعنوان مستقل لكنها لم تغفل عن ذكره حاضراً في معظم فقراتها، وستخصه الدراسة بفضلة بحث في النهاية إدراكاً لقيمة العامل النفسي في صياغة النسق وتحقيق أهدافه.

- وتبرز أهمية الدراسة هذه في محاولات المزج بين فعاليات الأنساق كما هي في القرآن متشابكة متكاملة بعد أن أفرد الحديث عن كل منها منفرداً وكان ذلك تقريباً للفهم وتيسيراً لمتابعة عناصر الدراسة، ليتضح من خلالها أن الجهد المبذول سابقاً في ثناياها قد أثمر نتيجة هامة منتظرة تلك هي (الوحدة الفنية في نسق السورة)، إذ سيتغير على ضوء ذلك ما كان شائعاً فهمه أن النسق القرآني بترتيبه آيات وسوراً في المصحف كما وصلنا إلى اليوم وإلى ما شاء الله لا تجمع بين كثير من آياته مناسبة ولا قضية مشتركة، بينما سيتأكد من خلال هذه الدراسة أن ترتيب آيات القرآن الكريم داخل السورة الواحدة كما هي في المصحف إنما تم لغاية من التناسب والتناسق تتجاوز ظروف نزول الآية في حينه وزمنها، لتشغل مع ما يسبقها ويتلوها من الآيات رؤية متجانسة تمتاز بها السورة القرآنية من غيرها، وهو ما عناه بعض السابقين بقوله: (إن آيات القرآن جاءت على حسب الوقائع تنزيلاً وعلى حسب الحكمة ترتيباً وترتيلاً).

- ثم إن الرؤية الشمولية لفعاليات النسق القرآني التي جاءت الدراسة لاكتشافها لا تظهر لمن يدرس النسق القرآني جزئيات لا رابط بينها، ولن تكون الفائدة من دراسة (اللام) في القرآن الكريم أو (الزمن) في القرآن الكريم ونحو ذلك متحققة كما لو كانت من خلال رصد تيار النسق بجميع طاقاته وفعالياته يجري في تناغم وانسجام، يستغرق أجواء السورة كلاً متلاحماً في موضوعه وبنيته الأسلوبية وشخصيته الفنية مما يعد هدفاً كبيراً تسعى هذه الدراسة إلى تحقيقه أو رسم طريقه، في ساحة الدراسات الأدبية القرآنية.

ثالثاً: أما حدود هذه الدراسة فتنحصر في مهمتها الرئيسة وهي تناول النص القرآني آياتٍ وسوراً لا نتعداها إلى غير القرآن الكريم إلا لتأكيد ظاهرة أو إيضاح حالة، ثم إن هذا التناول للنسق يجري ضمن حدود منهج أدبي لا يتعدى مجاله إلى قضايا شرعية أو عقدية، إذ تبقى محصورة في حيز الدرس الأدبي فلا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً ولا تمس أصلاً من أصول الدين، وإنما يجري فهم سياقه الأدبي وتدرس خصائصه على هدي من فهم اللغة وعلاقاتها دون تصادم مع قيم الشرع بهدف كشف جمالياته والبحث عن سر سمو تعبيره وتأثيره في النفس.

رابعاً: أخذت الدراسة بنهج الأسلوبية في دراسة النص القرآني من خلال منظور عملي تطبيقي تجاوزت فيه فلسفة الأسلوبية وصلتها بالفكر الغربي والعلمانية واعتبرتها أداة للتعرف على جمالية التعبير في القرآن الكريم من خلال دراسة قيم اللغة والبعد الدلالي لها، وقيم التركيب والبعد التعبيري فيها، وتلمس القيم الجمالية والبعد التأثيري لها.
    بعد أن أدى الدرس البلاغي دوره في اكتشاف هذه الجمالية على نحو ما، ثم استقر سجين قواعده وتعقيداته، وبهذا شكلت الأسلوبية مجالاً أرحب لدراسة النسق القرآني في ساحتها، وهكذا فإن هذه الدراسة تشكل إثارة وإشارة تحفز همم المختصين، وقدرات الغيورين على القرآن، ليصبح النص القرآني من زاويته الأدبية واللغوية مرة أخرى أصل الاهتمام فيدخل منطقة الدرس الأدبي مادة أصيلة في الدراسات الأدبية ومناهج البحث والتخصصات العالية.

      لقد تمت مناقشة هذه الدراسة بحضور نخبة من علماء اللغة والأدب منح حضورها توثيقاً رفيعاً لها، وكان مما عقب به عليها ما ورد على لسان الأستاذ الدكتور/ محمد عبد المطلب رئيس قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس بالقاهرة، أحد أعمدة الأسلوبية، ممتحناً خارجياً، ومما سجله شريط المناقشة ملاحظات له منها:
 
_هذه الرسالة تأتي في وقت نشهد فيه الهجوم على الإسلام، وأشكر الباحث وجامعة صنعاء أن اتجهت هذا الاتجاه في هذا الوقت.
 
_أشكر الباحث أن بذل جهداً عميقاً واسعاً نظر فيه بعين جديدة تضاف إلى علوم السابقين، وأعتقد أن هذه الرسالة قدمت إضافة إلى تلك الجهود التي بذلها السابقون.
- أهمية هذه الدراسة في رأيي أنها وظفت أدواتها نابعة من طبيعة التراث الثقافي في الوقت الذي نشاهد فيه اليوم بعض الدارسين يستحضر أدوات غريبة يتعامل بها مع النص العربي، والكارثة: أن يتعامل بها مع القرآن الكريم، والحقيقة أن الدراسة التي بين أيدينا استخدمت الأدوات العربية الخالصة التي تصلح فعلاً للتعامل مع النص القرآني، وأعتقد أن هذه الدراسة قدمت خطوات أتمنى أن تجد من ينميها.

- أذكر مثلاً واحداً: هو أن هذه الدراسة توصلت إلى أن ظاهرة
الفاصلة في الخطاب القرآني ظاهرة مرتبطة بدلالة المعنى، أي أنها تلتزم حرفاً معيناً وتظل على هذا الاستمرار، فإذا تغير المعنى تغيرت الفاصلة، وهذه الملاحظة دقيقة تستحق باحثاً يستكمل هذه الرؤية، يقدم لنا إضافة حقيقية تتبع هذه الدراسة القرآنية.
 
- إن الدراسة الحقيقية المنهجية تحتاج دائماً إلى نقاش وحوار، أما الرسالة الميتة الفقيرة فلا تحتاج إلى حوار إطلاقاً، وكلما كانت الموضوعات المطروحة لها أهميتها كثر الحوار حولها، وكثر النقاش، وإنني كنت في القاهرة في شوق لأن أحاور صاحب هذه الرسالة في كثير من القضايا التي طرحها، والحوار ضروري في الدراسات العلمية الأكاديمية تستكمل به هذه الدراسة حضورها البيِن في الواقع الأدبي والواقع العلمي.
 
- قسم الباحث الرسالة إلى أربعة أبواب في ثلاثة عشر فصلاً توزعت على سبعة وثلاثين مبحثاً تثير مائتين وستاً وأربعين قضية فاق جهد كل باحث، إذ يحتاج إلى عشرين أو ثلاثين باحثاً.
 
فهو بحث هام وضخم يحتاج إلى محاورة أكبر من هذا بكثير، وأعتقد أن هذا البحث سيدفع بعض الطلاب هنا إلى إعداد عدد من الدراسات حول هذا البحث نفسه.
- من عادتي أن أبدأ بذكر رأيي الخاص في الرسالة، وهذا هو رأيي الخاص، وأعتقد أن صاحبها سيثيبه الله خير الجزاء وأشكره على هذا الجهد.

      وكان من ملاحظات  معالي الوزير الدكتور: عبد الوهاب راوح من جامعة صنعاء ممتحناً داخلياً قوله:
- أوافق الأستاذ الدكتور/ محمد عبد المطلب في ملاحظاته وكل ما قاله وأضيف:

- إنها دراسة جادة يتسم صاحبها بنفس طويل في الكتابة والصبر على متابعة المصادر والمراجع.
- أحمد لصاحبها سلامة لغته النحوية.
- الرسالة توحي أن المعجم اللغوي لدى الباحث معجم غني، ولديه مقدرة على التوظيف والاستفادة من المخزون اللغوي الذي يمتلكه.

- إلى جانب ذلك جاء إخراج الرسالة إخراجاً قيماً يحمد عليه.
      ثم صدر قرار لجنة المناقشة والحكم بمنح صاحبها درجة الدكتوراه.. تخصص البلاغة والأدب العربي برتبة ممتاز.
وأخيراً:

      هذا جهد بذلناه أكرمنا الله به في خدمة كتابه الكريم، ويسر الله طباعته وإخراجه ونسأل الله قبوله، والنفع به، والأجر والمثوبة لكل من ساعد في إنجازه وطباعته.
وأن يغفر لنا ما قصر عنه الفكر أو عثر به القلم، ويعفو عنا، ويجعله في حسناتنا، يشمل به الأهل والذرية والأحباب، وأهل القرآن، ويجعلنا من خاصة أهله الذين يشفع لهم يوم القيامة، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة.... إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين....وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين