المعركة الخاتم وقعة الفراض

" ثم قصد خالد بعد الرضاب وبغتَتْة تغلب إلى الفراض، (والفراض: تخوم الشام والعراق والجزيرة شرق الفرات) فأفطر بها رمضان في تلك السفرة التي اتَّصلت له فيها الغزوات والأيام، ونظمن نظماً.

قال الطبري:" فلما اجتمع المسلمون بالفراض، حميت الروم واغتاظت،واستعانوا بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حموا واغتاظوا، واستمدّوا تغلباً وإياد والنمر فأمدُّوهم. ثم ناهدوا خالداً حتى إذا صار الفرات بينهم قالوا: إما أن تعبروا إلينا أو أن نعبر إليكم، قال خالد: بل اعبروا إلينا. قالوا: فتنحوا حتى نعبر. قال خالد: لا نفعل، ولكن اعبروا أسفل منا. وذلك للنصف من ذي القعدة سنة اثنتي عشرة، فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض: " احتسبوا ملككم، هذا رجل يقاتل عن دين، وله عقل وعلم، والله لينصرن ولتخُّذلن " فعبروا أسفل من خالد، فلما تَتَاموا قالت الروم: تَمَايزوا حتى نعرف اليوم ما كان من حسن أو قبيح من أينا يجيء. ففعلوا.

فاقتتلوا قتالاً شديداً طويلاً، ثم إنَّ الله هزمهم، وقال خالد للمسلمين:ألُّحوا عليهم ولا ترفهوا عنهم، فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه، حتى إذا جمعوهم قتلوهم، فقتل يوم الفراض في المعركة وفي الطلب مائة ألف.

وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشراً، ثم أذن في القفْل إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم، وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم ـ أي : كان شجرة أمير الساقة، وهي: مؤخرة الجيش ـ وأظهر خالد أنه في الساقة".

وقال القعقاع في ذلك:

لقينا بالفراض جمعَ روم           وفرس عمَّها طول السلام

أبَدْنَا جَمْعَهم لما التقينا           وبيَّتــنا بجـمع بني رزام

فما فَتئت جنود السلم حتى     رأينا القوم كالغنم السوام.

 ـ معجم البلدان لياقوت4/244.

لقد كانت خلاصة التغيير في هذه الأمة التي انطلقت من العقيدة، كما حددها قول : الروم والفرس والعرب:" احتسبوا ملككم. هذا رجل يقاتل على دين. وله عقل وعلم. والله لينصرَّنَّ ولتخذلن". إذن قد اجتمعت عند هذه الأمة مقوِّمات النصر كاملة.

فألقتال على دين: " لقد أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله".

ولقد توافرت القيادة التاريخية:" وله عقل وعلم".

فالخبرة، وهي العلم قد توفَّرت لديه، وقد خاض غمار الحرب مع العرب والروم والفرس، والعبقرية النادرة قد توفَّرت لدى هذا القائد العظيم.

وعندئذ كانت هذه النتائج الباهرة في هذه المدة القصيرة من الزمن، وكان هذا الإنجاز العظيم. ولا ننسى عظمة الخليفة الراشد، والجيل الرائد معه الذي يخطط لهذا الدين فقد كان الصدِّيق مصراً على عدم غزو المدائن، فهو يريد تحرير الأرض العربية ابتداءً، وكان خالد يرى غير هذا الرأي، ويرى أن الفرصة سانحة لغزوا المدائن عاصمة الفرس في ظل انهيار قياداتهم، وصراعاتهم الداخلية، وكان يرى إمكانية النصر في ذلك، فلم يتفقوا على قائد أو كسرى إلا قتل.

وهنا تبدو عظمة هذا الدين كذلك، فلو كانت القضية أمجاداً حربيَّة فقط، ولم تكن فكرة السمع والطاعة هي من أسس هذا الدين الجديد لتحرَّك القائد وزحف نحو المدائن، ثم نحو المدينة، وأصبح الخليفة الحقيقي.

لكن الصدِّيق الذي هو خيرة خلق الله بعد النبيين والمرسلين، كان يمنعه من ذلك، فيستجيب لأوامر الخليفة لا عن ضعف، بل وهو في أعلى ذروة قوَّته، وسمَّى هذا العام رغم كل الانتصارات التي حققها بعد فتح الحيرة سنة نساء، وقام بتطهير كل الجيوب في جزيرة العرب وفي العراق، وأصبح مُهيأً لخطوة جديدة وعالم جديد، لا يعرف أين يكون ومتى يكون.

وبدلاً من أن يأخذه العُجْب، ويسوح في جنون العظمة، كان يملأ قلبه وكيانه فكرة الشكر لله تعالى على ما والاه من نصر، وما كتب على يديه من عزّ. ورأى أنَّ من تمام شكره لنعمة الله عليه أن يتَّجه إلى البيت الحرام مُحرماً بالحج من موقعه الذي هو فيه، فقد استبدَّ به الحنين لبيت الله، ولم ير أي عذر في تأخير هذه الطاعة شكراً لله على ما أعطاه وهو على أبواب شهر ذي الحجة.

حجة خالد:

قال أبو جعفر:" وخرج خالد حاجاً من الفراض لخمس بقين من ذي القعدة، مكتتماً بحجه، ومعه عدّة من أصحابه يعتسف ـ يأخذ الطريق غير المسلوك ـ البلاد حتى أتى مكة بالسمت ـ وهو السير على الطريق بالظن من خلال النجم والشمس ـ فتأتّى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا رئبال ـ الرئبال: البطل الشجاع ، وهو اسم للأسد ـ ، فسار طريقاً من طرق أهل الجزيرة لم ير طريق أعجب منه، ولا أشد على صعوبته منه، فكانت غيبته عن الجند يسيرة، فما توافى إلى الحيرة آخرهم حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذي وضعه، فقدما معاً، وخالد وأصحابه مملقون. لم يعلم بحجه إلا من أفضى إليه بذلك من الساقة، ولم يعلم أبو بكر رحمه الله بذلك إلا بعد. فعتب عليه وكانت عقوبته أن صرفه إلى الشام.

 وكان مسير خالد من الفراض أن استعرض البلاد متعسفاً متسمتاً، فقطع طريق الفراض ماء العنبري، ثم مثقباً، ثم انتهى إلى ذات عرق، فشرَّق منها، فأسلمه إلى عرفات من الفراض، وسمي بذلك الطريق الصد..."ـ تاريخ الطبري2/328 ـ.

ختام سنة اثنتي عشرة:

ـ وفيها تزوَّج عمر رحمه الله عاتكة بنت زيد ـ وهي ابنة عم عمر رضي الله عنه، وكانت زوجاً لعبد الله بن أبي بكر الصديق، ثم تزوجها الزبير بعد استشهاد عمر رضي الله عنه ـ.

ـ وفيها مات أبو مرثد الغنوي ـ شهد أبو مرثد هو وابنه مرثد بدراً وشهد الفتح وحنين، وكان عين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوطاس ـ.

ـ وفيها مات أبو العاص بن الربيع في ذي الحجة ـ وأبو العاص هو ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته زينب الكبرى ـ وأوصى إلى الزبير، وتزوج علي عليه السلام ابنته ـ أمامة ـ.

ـ وفيها اشترى عمر أسلم مولاه.

ـ واختلف فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال بعضهم: حج بهم فيها أبو بكر رحمه الله، وقال بعضهم : حجَّ بالناس سنة اثنتي عشرة عمر بن الخطاب...أو عبد الرحمن بن عوف.

لقد كانت الحصيلة الكبرى للعام الثاني عشر للهجرة أي: بعد سنتين من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي إنهاء الردة في الجزيرة العربية، وتحرير الجزيرة الفراتية من سيطرة الفرس، وتحرير العراق العربية ودخول هذه القبائل من الأمة في هذا الدين الجديد.

لكن لأهمية الفرد المسلم نجد أنَّ الإنسان يبقى هو الهدف، ففي آخر كل عام تستعرض أسماء الشخصيات التي استشهدت أو توفيت، لأنها هي جزء من الذين صنعوا هذا التاريخ العظيم مع العظماء الأحياء، فمكان الإنسان في الإسلام لا يمكن أبداً أن تتحول إلى أصفار في سجل الطغاة الكبار.

*       *       *

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين