أهمية كتاب

أهمية كتاب "نكت الانتصار"

كتاب "نكت الانتصار لنقل القرآن" (1) كما جاء الاسم في ختام مخطوطته الوحيدة التي وصلتنا، هو اختصار لكتاب جليل من كتب الدفاع عن القرآن ضد المطاعن والشبهات، وهو كتاب "الانتصار لصحة نقل القرآن"(2)، للإمام أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت 403ه).

وقد حظِيَ هذا الاختصار بعمل اثنين من العلماء الأثبات، من الأشاعرة المالكية، من علماء القرن الخامس الهجري في المغرب الإسلامي؛ فالعمل الأصلي للاختصار قام به: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصيرفي، فهو الذي اختصره وأملاه، ثم بعد وفاته قام أبو القاسم عبد الجليل بن أبي بكر الديباجي بترتيبه، وتنسيقه، وكتابة خطبته.

يستمد "نكت الانتصار" قيمته من قيمة كتاب "الانتصار"، ومن مكانة مؤلفه الإمام الباقلاني؛ فالكتاب يعد من أفضل ما كُتِب في الدفاع عن القرآن قديمًا وحديثًا، من حيث الشمول والاستيعاب، والدقة والعمق، والحجاج والمناظرة، والجمع في الردود بين جانبي النقل والعقل، وإن كان الأخير أغلب. والباقلاني غني عن التعريف؛ فهو الأشعري الثاني، وهو مجدد القرن الرابع الهجري، بحسب طائفة من العلماء(3).

وكتاب "الانتصار" ليس كتابًا عاديًّا مقتصرًا على ناحية واحدة من نواحي المعرفة المتعلقة بالقرآن الكريم، بل هو موسوعة علمية قلَّ نظيرها فيما يماثلها من المؤلفات في هذا الشأن؛ إذ فيه: الفرق، والملل، والنحل، والفقه، والأصول، والتاريخ، والحديث، والرجال، والجغرافيا؛ حتى إنه ذكر بعض مصنوعات الأقمشة (السندس والإستبرق)، وأماكنها المشتهرة بتصنيعها في عصره وما قبله، فضلًا عن علوم القرآن، والتفسير، وروح الاحتجاج الكلامي المبثوثة في طول الكتاب.

وتزداد قيمة "نكت الانتصار" في وقتنا الحاضر؛ من حيث إن كتاب "الانتصار" لم يصل إلينا منه في نسخٍ مخطوطةٍ صالحة للنشر سوى نصفه. نعم عُرفت له من سنوات قريبة نسخة مغربية كاملة، لكن لا يعتمد عليها في إخراج نص كامل للكتاب؛ إذ إنها نسخة سيئة، عاث الفساد في أوراق كثيرة منها، وتراوح بين تآكل الحواف العليا من كل الأوراق، إلى خروم في أثناء أوراق، إلى انمحاء كلي أو جزئي في أوراق كثيرة؛ بحيث لا يمكن الاعتماد عليها –مع الأسف- لإخراج نسخة كاملة من الكتاب.

محتوى كتاب "الانتصار":

كتاب "الانتصار" دفاع باذخ عن القرآن الكريم ضد ما وجه إليه من مطاعن، وهجوم كاسح على أصحاب هذه المطاعن، وبيان زيف مناهجهم، وتهافت منطلقاتهم، وبطلان مقولاتهم. 

والمقولة -وإن شئت: المقولات- التأسيسية التي ينطلق منها الكتاب، وعليها بنيت ردوده كافة، هي: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلغ ما أنزل عليه من القرآن الكريم بلاغًا ذائعًا شائعًا، على درجة واحدة، تقوم بها الحجة، وينقطع بها العذر، وأن جمع أبي بكر ومن بعده جمع عثمان، قد توافر لكل منهما كل عوامل الحياطة والتوثيق، وأن مصحف عثمان قد أجمعت الأمة على ما فيه، وعلى أنه يمثل الصورة النهائية للوحي، كما بلغه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل وفاته، وأن القراءات السبع المتواترة لا تخرج عن مصحف عثمان، وأن أية قراءة تخالف هذه القراءات، التي تمثل فيها مصحف عثمان المجمع عليه، لا يعتد بها، ولا يؤبه لها، ولا تعد قرآنًا.

والمطاعن التي يكر عليها الكتاب تفنيدًا وإبطالًا، هي بالأساس لطائفتين من المسلمين، وهما: الرافضة، والمعتزلة.

أما مطاعن الرافضة؛ فتتركز في ثبوت مصحف عثمان، وصحة ما حواه، وهي مؤسسة على ما هو معروف من موقف عموم الشيعة من الصحابة، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وتدور هذه المطاعن حول أمرين رئيسين؛ أحدهما: النقص منه، والآخر: التغيير والتبديل فيه، وثمة طعن ثالث، حكاه الباقلاني عنهم في أوائل "الانتصار"، وهو الزيادة فيه، لكن الناظر في ثنايا الكتاب لا يجد له صدًى تفصيليًّا؛ من عرض للشبهات والرد عليها، كما يجد للأمرين المتقدمين، اللهم إلا ما يمكن أن يتلمس عند حديثه عن التكرار في القرآن الكريم. 

أما مطاعن المعتزلة فتتركز في أمر واحد، وهو القول بالصرفة، أي أن إعجاز القرآن هو في صرف الله العرب أن يأتوا بمثله، أو بشيء من مثله، وهما في هذا القول فريقان؛ أولهما: الذين يقولون إن القرآن معجز، لكن إعجازه ليس في ذاته، وإنما الإعجاز في الصرفة، وهؤلاء جل المعتزلة. والفريق الآخر: الذين يقولون إن القرآن ليس بمعجز أصلًا، ولم يتحد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان العرب قادرين على الإتيان بمثله، وأفصح منه، ثم يلتقون بعد ذلك مع باقي إخوانهم في القول بالصرفة، ويمثل هذا الفريق اثنان، وهما: هشام الفوطي الكوفي، وعباد الصَّيْمَري البصري، وهما من معتزلة القرن الثالث الهجري، حيث كانت وفاتهما.

وفي ثنايا الرد على الرافضة والمعتزلة يذكر الكتاب طوائف الملحدة والزنادقة، الذين يطعنون في القرآن ذاته، ومطاعنهم تدور حول النص القرآني، في محاولة لإثبات الخطأ فيه؛ بغية نفي مصدره الإلهي، منوهًا بتأثر الرافضة والمعتزلة في بعض شبهاتهم حول القرآن بمقولات هؤلاء.

وهو في مسيرة ردوده على هذه الطوائف الثلاث يستطرد أحيانًا إلى موضوعات مكملة مهمة لما هو بصدده، فيجلي موقف أهل السنة من بعض القضايا، أو يبين وجه الحق في بعض السياقات التاريخية المرتبطة بما يرد عليه، أو يسوق تعريفات لمصطلحات، ويختار منها ما يراه صوابًا، إلى غير ذلك، مما يجعل الكتاب متسمًا مع دقة البحث والتناول، بشمول العرض، وعمق التحليل. 

كما نجد الكتاب يعرج أيضًا في بعض المواضع على الرد على أشياء لا تندرج تحت المطاعن والشبهات، بل يمكن وصفها باجتهادات، زلت بها أقدام أصحابها، لكنها تؤول في النهاية، أو تؤدي لوازمها، إلى طعن أو شبهة، من حيث لا يشعر أصحابها أو يريدون، وهؤلاء موزعون بين الفقهاء، والمتكلمين، وضعفة القراء، والمنتسبين إلى الحديث.

وكأن الباقلاني في "الانتصار" لا يريد أن يفوته شيء مما وجه إلى القرآن؛ من مطعن، أو شبهة، أو اجتهاد خاطئ.

وفيما يلي خلاصة مجملة للغاية لتناول الباقلاني مطاعن الرافضة والمعتزلة، وردوده عليها.

أما عن الرافضة فيعرض الباقلاني شبهاتهم حول نقص المصحف العثماني، وما يزعمونه من ضياع آيات كثيرة منه، ويعرض الكتاب هذه الشبهات، ويكر عليها إبطالًا، ومن ذلك: بعض المرويات التي تحمل قراءات غير ثابتة في المصحف، أو روايات منسوبة إلى بعض الصحابة أن سورة كذا كانت أطول مما هي في المصحف، أو أن معركة كذا خلفت شهداء من القراء، ذهب بموتهم قرآن كثير، ونحو ذلك من المرويات التي يزعمون أنها تدل على ذلك.

ويفند الكتاب هذه الشبهات والمطاعن كلها؛ حيث يثبت أن هذه الروايات إما أنها لا تثبت، أو أنها لا تدل على ما يزعمه الرافضة منها، أو أن ما فيها منسوخة تلاوته؛ ومن ثم لا تدل أي من هذه الروايات على ما تزعمه الرافضة من وجود نقص في القرآن، أو بحسب زعمهم: في مصحف عثمان، أو أنها روايات آحاد، تحمل قراءات شاذة لا يثبت بها قرآن، وبناءً عليه لا يصلح الاستدلال بها على ما تزعمه الرافضة، أو أن ما تحمله تلك الروايات إنما هي قراءات منسوخة، لا تعد قرآنًا؛ وبالتالي لا يعتد بها دليلًا على ما تخرص به الرافضة من وجود نقص في مصحف عثمان.

كما يعرض الكتاب مزاعمهم حول تغيير مواضع من المصحف من قبل الصحابة، وتحريفهم فيه، وتبديلهم لمواضع منه، حيث يستدلون على ذلك تارة بشبهات من داخل النص القرآني، يتلقفون طائفة منها من الملحدة والزنادقة، وتارة ببعض الروايات المنسوبة إلى بعض الصحابة أن في القرآن لحنًا.

فيرد على مزاعمهم أن الكناية الموجودة في القرآن من تغيير الصحابة فيه، حيث حذفوا أسماء أشخاص، وكنوا عنها؛ لأنه الكناية مِن كلامِ من يحتاج إلى التوريةِ والمداجاة، واللهُ يَتعالَى عن ذلك، ويرد على ذلك بأن العرب تستعمل الكناية على غير وجه التورية والمداجاة؛ مقيمًا الأدلة والبراهين من كلامهم.

ويرد على ما يزعمونه من تحريف القرآن وتغييره؛ مستدلين ببعض الروايات المنسوبة إلى بعض الصحابة أن في القرآن لحنًا، فينتهي إلى أن هذه الروايات إما أنها لا تثبت، وإما أنها لا تدل على ما يزعمونه، بل لها تأويلات سائغة، من جانب اللغة نفسها.

ويرد على ما وجهه هؤلاء الرافضة إلى النص القرآني من مطاعن تندرج تحت دائرة اللغة؛ من ركاكة، أو حذف والذكر أولى، أو العكس، إلى غير ذلك، زاعمين أنها تدل على تحريف الصحابة للقرآن وتغييرهم إياه؛ لأنه هذه الأخطاء اللغوية لا يمكن أن تكون من الله، فيفند الكتاب، وهو يتناول آية آية، هذه الترهات كلها، ويثبت أنه لا موضع مما ذكروه يشهد لما زعموه.

ويرد على أن التكرار يخالف الفصاحة، فما يوجد من التكرار في القرآن دليل على تغيير الصحابة وتحريفهم، فيثبت الكتاب أن التكرار سنة لغوية متبعة عند العرب، وله سياقاته وفوائده، وأنه لا يجافي الفصاحة وعلو البيان.

ومن الأبواب المهمة المكملة للرد على الرافضة ما عقده منها في خواتيم الكتاب، حيث تحدث بالتفصيل عن جمع أبي بكر، وجمع عثمان، والاحتجاج لصواب كل منهما، ووثاقته، ودفع الشبه عنهما، وأولى عناية خاصة بالحديث عن مصحف عثمان؛ للسبب الذي تقدم ذكره، وكذلك الأبواب التي خصصها للحديث عن القراءات السبع المتواترة التي لا تخرج عن مصحف عثمان، وأن اختلافها لا يخرجها عنه؛ ومن ثم لا تجوز القراءة بغيرها، واختلاف مصاحف الأمصار، وهي أيضًا لا تخرج عن نسخ المصاحف العثمانية التي أرسلت إلى الأمصار وقتها.

أما المعتزلة وشبهاتهم حول معجزة القرآن، فإن الكتاب يبدأ معهم في بابين تأسيسيين؛ أحدهما: فيه بيان معنى المعجزة، وأن آيات الأنبياء جميعًا خارجة عن نطاق القدرة البشرية، فمن غير الممكن أن يأتي قوم أحد من الأنبياء بمثل ما أتى به على الإطلاق، وهذا ينطبق على القرآن الكريم، فلم يكن في قدرة العرب أن يأتوا بمثله، أو بمثل عشر سور منه، أو بمثل سورة؛ كما حكى القرآن الكريم. 

والآخر: يقرر بالبراهين القوية، والأدلة الساطعة، أن القرآن الكريم خارج عن نظوم كلام العرب، فلا ينتظم تحت أي شيء مما عرفه العرب من فنون مخاطباتهم الأدبية على تنوعها.

ثم يخصص الكتاب: بابًا للكلام على القائلين منهم بأن العربَ صُرِفُوا عن معارضتِه مع قدرتِهم على الإتيان بمثله؛ للرد على هذه الفرية بشقيها: أن الصرفة هي المعجزة، وأن العرب كانوا قادرين على الإتيان بمثله، بل قال بعض المعتزلة: بأفصح منه.

ويستطرد الكتاب إلى ستة أبواب، تعد من الأبواب المكملة المهمة في الحديث عن معجزة القرآن، وهي:

"باب البلاغة" و"باب الكلام عن البيان": يبين فيهما أن القرآن في أعلى ذروة من البلاغة، ومن فنون البيان؛ بحيث لا يلحق به.

و"باب الكلام في الردِّ على من زَعَمَ أنَّ القرآنَ العزيزَ شِعْرٌ": يرد فيه على شبهة أن في القرآن آيات موزونة مقفاة كما الشعر.

و"باب فيما رُوِيَ أنه سُمِعَ من النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم من قولِهِ: تلك الغَرَانِيقُ العُلَى": يفند فيه هذه الرواية من حيث دلالتها على إمكان اختلاط القرآن بكلام النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ ما يعني إمكانية الإتيان بشيء من مثله، وينتهي بدلائل عقلية وفروض احتمالية على بطلان دلاتها على ذلك.

و"باب الكلام في إبطالِ القراءةِ على المعنى دونَ اللفظِ"، وهو من الأبواب المهمة للغاية؛ حيث يتناول فيها الكتاب الروايات التي توهم جواز قراءة القرآن على المعنى دون اللفظ، ويبطل الاستدلال بها، سواء من حيث تضعيفها، أو تأويلها بما يخرجها عن الدلالة على ذلك.

و"باب القول في إبطالِ جَوازِ القراءةِ بالفارِسيةِ": يرد فيها على ما يروى من إجازة بعض الفقهاء لذلك لمن لا يحسن العربية من الفرس.

وصلة البابين الأخيرين بكون القرآن معجزًا بلفظه، وأنه لا يمكن استبدال كلمة منه بكلمة أخرى، فضلًا عن قراءة آية أو أكثر بالمعنى، أو قراءته مترجمًا إلى لغة أخرى= واضحة.

وختامًا فإن الناظر إلى عدد أبواب كتاب "الانتصار" ومحتوياتها، لابد أن يلفت نظره بشدة أن الكتاب يكاد يكون خالصًا للرد على الشيعة الرافضة، موضوعًا لإزهاق مطاعنهم، وإبطال شبهاتهم؛ فقد استحوذ عرض شبهاتهم والرد عليها على المساحة الأكبر منه، سواء من حيث عدد الأبواب، أم من حيث عدد الأوراق.

فعدد أبواب الكتاب: 37 بابًا، وهي موزعة كالتالي: 

- ثلاثة أبواب في أوله: باب يعد بمثابة مقدمة لبيان معنى القرآن والسورة والآية، وباب تأسيسي لمقولات أهل السنة فيما يتعلق بالقرآن، وباب للرد على المطاعن التي توجه إلى بعض هذه المقولات.

- وخمسة وعشرون بابًا للرد على الشيعة الرافضة.

- وتسعة أبواب للرد على المعتزلة.

(يتبع)

* * *

1 يعمل كاتب هذه المقالة منذ مدة على تحقيق الكتاب، وقد انتهى –ولله الحمد- من دراسته، والتعليق عليه، يسر الله إخراجه على الوجه المرضي؛ إنه أكرم مسؤول.

2 اسمه الكامل فيما انتهى إلينا من خلال كلام الباقلاني نفسه في كتبه الأخرى، هو: "الانتصار لصحة نقل القرآن، والرد على من نحله الفساد بزيادة أو نقصان"، بحسب ما ذكره الأستاذ السيد أحمد صقر، في مقدمة تحقيقه "إعجاز القرآن" ص 39، وهو العنوان الكامل لكتاب "الانتصار"، وما نقله د. بسام عبد الحميد عن الباقلاني في كتابه "هداية المسترشدين" (المخطوط)، في بحثه: "محاولة ببليوغرافية في آثار أبي بكر الباقلاني"، المنشور في مجلة "المشرق" العدد الأول للسنة الثامنة والستين ص 156. ثم قد ذكره الباقلاني وغيره مختصرًا بتنويعات مختلفة من الاختصار.

3 الذي نراه أن التجديد الوارد في الحديث لا يقوم به فرد واحد على رأس كل مائة سنة، وإنما أفراد من جميع أطياف الأمة، ينهض بهم أمر الدين، ويستيقظ بهم أهله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين