البوطي؛ السّاكنُ في جلبابِ أبِيه

• لماذا البوطي؟!

إنّ الحديث عن أستاذنا الدّكتور محمّد سعيد رمضان البوطي ليسَ أمرًا هيّنًا على الإطلاق، بل هو كالسّير في حقل الألغام؛ فأنت تتوقّع أن ينفجر من تحتك لغم كلّما رفعت قدمًا ووضعتَ أخرى.

ولكنّ شقَّ الطّريقِ في حقل الألغام هذا بل مسحه هو مما لا بدّ منه حتّى يُجابَ عن كثيرٍ من الأسئلةٍ العالقةٍ التي ما تزالُ تؤرّق كثيرًا من الشباب والكبار على حدًّ سواء متعلّقة بالجسم العلمائيّ على مستوى المؤسسات والأفراد لا سيما بعد الثّورات.

أسئلةٍ عن المواقف الصّادمة إذ تصدرُ عمّن بلغَ في العلم رتبةً عزّ نظيرُها في أعين النّاس، وعن التّصريحات المعاكسةِ تمامًا لما كانوا يترقّبونَه وينتظرونَه، وأسئلةٍ عن البنية الفكريّة التي تنتجُ هذه القناعات والمواقف الصّادمة.

فكيفَ يساندُ عالمٌ كبيرٌ مثل البوطي بشّارَ الأسد في إجرامِه، وكيفَ يصفُ شبابَ الثّورات وكثيرٌ منهم من روّاد مسجده وطلّابه بأوصاف لا تليقُ ولم يخطر لهم ببالٍ أن يوصموا بها من علّامة الشّام البوطي.

ثمّ إنّ البوطي ليسَ شيخًا عابرًا أو داعيةً أظهره الإعلام على حين غرّة من الزّمان؛ بل هو شخصيّة محوريّة في بناء وتشكيل الوعي الشّرعي والشخصيّة الدعويّة والفكر المشيخي في عموم سوريا، فدراسة الشّخصيّة وأفكارِها وتأثيراتها ضروريّ للغاية لفهم حالة الوعي الشرعيّ والبناء الفكريّ عند شريحة كبيرة من دعاة سوريا بل أبناء بلاد الشّام في العقود الخمسة الأخيرة، ولسنا نبالغ إن قلنا: إنّ أجيالًا من الخريجين الشّرعيين المنخرطين في حقل الدّعوة هم من ثمرات فكر ومنهجيّة البوطي في تناول القضايا المختلفة والتّعامل معها؛ هذه المنهجيّة التي تمّ ترسيخُها وتكريسُها عبر عقودٍ وبوسائل مختلفة.

كما أنّ البوطي يمثّل نموذجًا لعالم الشّريعة الذي ينتمي للمدرسة التقليديّة؛ فدراسة منهجه يفكّ الكثير من الرّموز في منهجيّة تفكير علماء ودعاة هذه المدرسة، ويجيب عن كثير من الأسئلة حول تصرفات ومواقف هذه الشريحة بشكل عام من القضايا الشرعيّة والفكريّة وليس البوطي وحده.

وقد شهدتُ دروس أستاذنا البوطي في كليّة الشريعة بجامعة دمشق على مدار أربع سنواتٍ، ولازمت دروسه في جامع الإيمان وقرأت معه في المسجد العديد من كتبه التي كان يشرحها في درس الإثنين، كما قرأت عموم ما كتبه في وقتٍ مبكّر من التحصيل العلميّ وكانت كتبه أوّل ما أحوزه فور صدورها، واستمعت إلى العشرات من تسجيلاته الصّوتيّة استماع الطّالب المهتمّ لا المستمع العابر، حتّى كان عام 2006م إذ أقيم في كليّة الشريعة احتفالٌ كبيرٌ كان من إعداد أستاذنا الدكتور عماد الدّين الرّشيد الذي كان نائبًا لعميد الكليّة آنذاك، وقد دعاني لإلقاء قصيدة في الحفل فألقيت قصيدةً عن العراق واحتلاله ومقاومته التي كانت متصاعدةً حينها، وفور نزولي عن المنصّة فاجأني أستاذنا الدكتور البوطي بوقوفه فوقف لوقوفه جميع من في القاعة وأقبلَ عليّ معانقًا بحرارةٍ بالغةٍ، ومن حينها أخذت علاقتي به منحىً جديدًا وشكلًا مختلفًا، حيث صرت أتردّد عليه بشكلٍ مستمرّ وتعمّقت العلاقة معه ومع ابنه الدّكتور توفيق، حتّى غدا يعبّر لي عن حبّه وهو قلّما يفعل ذلك مع أحد من طلّابه وكنت حينها في عمر أحفاده، وكذلك كان الدكتور محمّد توفيق يحبّني حبًّا جمًّا حتّى إنّه كان يقول لي: لا أسجد سجدةً من فرضٍ أو نافلةٍ إلّا دعوت لك فيها بالاسم. وكنت أزورهم في بيتهم وأجلس أوقاتًا جيّدةً في حواراتٍ خاصّة مع كلّ من أستاذنا البوطي الأب والابن.

إنّ الحديث عن أستاذنا البوطيّ يثيرُ استقطاباتٍ حادّة وتشنّجات كبيرة من الغالين في حبّه والغالين في بغضه على السواء، غير أنّ الإنصاف يبقى عزيزًا، وبالإنصاف وحده تتضح الصّورة وينجلي الغبار عن كثيرٍ من المواقف والحقائق، ولعلّنا في هذه المقالات نتحرّى الإنصاف مستعينين بتوفيق الله تعالى في ذلك.

• شيخ ملّا

"شيخ ملّا" هكذا كان يحلو لأهل دمشق مناداة والد البوطي، رغم أنّ كلمة ملّا معناها "شيخ" في عددٍ من اللّغات الأعجميّة كالكرديّة والفارسيّة، واسمه هو "رمضان"، وكان يقال له ملّا رمضان، غير أنّ أهل الشّام عرفوه بالشّيخ ملّا.

حين قدم الشّيخ الكرديّ الشّاب الملّا رمضان من جزيرة بوطان في تركيا هاربًا من بطش أتاتورك في ثلاثينات القرن الماضي، وسكن حيّ الأكراد في منطقة ركن الدّين في دمشق كان عنده ابنتان وولد، هذا الولد هو "محمّد فُضَيل" كما كان يناديه والده في صغره فهو كان يريد تسميته بهذا الاسم تيمّنًا برمز الزّهد "الفضيل بن عياض" لولا إحراج شيخه الكردي الشّيخ سعيد الذي حمل إليه ملّا رمضان مولوده ليحنّكه تبرّكًا به فأصرّ عليه أن يكون هذا الولد سميّه فسمّاه محرجًا منه محمّد سعيد وأثبت هذا الاسم في السّجلّات الرسميّة.

أمّا البنتان فهما رقيّة التي عاجلها الأجل بعد شهرين من وصول دمشق وزينب التي توفاها الله تعالى بعد خمس سنوات من المقام الجديد.

في دمشق تعامل الملّا رمضان مع قضيّة تعليم أبنائه كما يتعامل عامّة المتدينين في تلكم الفترة، فأرسل ابنه الذكر محمّد سعيد إلى مدرسةٍ أهليّة خاصّة، بينما كان نصيب أختيه اللّتَين زرقهما أبيه من زوجته التركيّة بعد وفاة أمّ سعيد وهما زينب وخديجة؛ أن يتمّ تعليمهما في المنزل وحرمانهما من التعليم في المدارس الحكوميّة أو الخاصّة، وهكذا كان عموم المشايخ فضلًا عن المتدينين في تلكم الحقبة يكتفون بتعليم الذّكور في المدارس الحكوميّة والخاصّة لا يرسلون بناتهم إلى هذه المدارس خوفًا عليهنّ من الانحراف الفكري والسّلوكي فكانت بنات العلمانيين وغير المتدينين ذوات حظٍّ أوفر ونصيبٍ أكبر في التحصيل العلمي والحياة العامة.

• علاقةٌ تتجاوز البرّ

من الطّبيعيّ أن يأخذ العالم الصّالح ملّا رمضان بيد طفله الصّغير محمّد سعيد إلى جامع منجك في حيّ الميدان فيسلّمة للشّيخ حسن حبنّكة ليقوم على رعايته وتربيته وبنائه إيمانيًّا وعلميًّا وسلوكيًّا

لكن من غير الطبيعيّ أن يبلغ الدكتور سعيد من العمر مبلغه ويبقى رهين أبيه في كثيرٍ من مواقفه وتصوراته وقراراته، لا على وجه الاستشارة بل على وجه الإلزام والتكليف بالأمر حينًا والإيعاز حينًا، والإحراج حينًا آخر.

إنّ معرفة مواقف وقناعات الملّا رمضان وكيفيّة تعامله مع ابنه سعيد حتّى سنوات عمره الأخير ينبيكَ عن حالة هيمنةٍ أبويّة مشيخيّةٍ تتجاوز حدود البرّ.

فعندما يبلغ سعيد من العمر ثمانية عشر عامًا يزوّجه أبوه من فتاةٍ تركيّة هي أخت زوجته الثّانية التي تزوّجها عقب وفاة أمّ سعيد وهو في الثّالثة عشرة من عمره، وكانت هذه الفتاة التركيّة تكبر سعيد بسنوات عديدة وقد حاول التنصّل من هذا الزواج غير أنّه وافق عليه أخيرًا لأنّه رأى أن استمراره في الرفض أمام إصرار والده سيدخله في العقوق كما يذكر في كتاب "هذا والدي" ثمّ يقول: 

"وخطبَ لي شقيقة زوجته التي كانت تكبرني بعدّة سنوات، وقبلت بذلك إذعانًا لرغبته وتلبيةً لأمره"

وكذلك نجد الابن محمّد سعيد لا يخرج عن رأي والده في موقفه من التصوّف فالملّا رمضان صوفيّ حتّى النخاع غير أنّه لا يحبّ الانتماء للطرق الصّوفيّة، وله منها موقفٌ هو ذاته الموقف الذي تبنّاه الابن بأدقّ تفاصيله.

وفي الانتماء للتيارات والحركات الإسلاميّة نجد الابن يمتثل أمر أبيه في أن يبتعد ابتعادًا تامًا عن الانتماء لأيّة جماعة أو حركةٍ إسلاميّة بل يلاحق أبناءه وأحفاده حتّى لا يتورّط أحدٌ منهم في مخالفة قرار والده الشّيخ ملّا، ويفتّش في أدراجهم وأوراقهم الخاصّة ممتثلًا أوامر والده ملّا رمضان.

حيث يقول في كتاب "هذا والدي":

"فكان يخشى أشدّ الخشية أن يتسرّب هذا الأمر إلى بيته، وأن يقتَنص ابنه أو أحفاده من دائرةِ حكمه ونهج تربيته بمثل هذا السّبيل، ثمّ يقول: حتى إذا وثق بالتزامي بوصاياه واقتناعي بنصحه، أمرني بعد ذلك أن أكون رقيبًا على أولادي الثلاثة، فأتعقبهم وأفتّش في أوراقهم وأنظر ما في أدراجهم خوفًا من أن يتسرّبوا أو يتسرّب واحدٌ منهم واحدٌ منهم خفيةً، تحت سلطان هذا الأسلوب الذي يتبعه رواد تلك الجماعات بل الأحزاب فينتمي إليهم ويتعاون معهم ويتمرّد أخيرًا على أهله وأبويه.

لقد كنت أفعل هذا الذي يوصيني بل يأمرني به أبي، ولعلّ ذلك كان سببًا من أهمّ أسباب حماية الله لي ولهم من اتّباع تلك السبل المنعرجة."

وكذلك في العمل الوظيفيّ كان الابن محمّد سعيد رافضًا رفضًا مطلقًا مبدأ الوظيفة الحكوميّة امتثالًا لأوامر أبيه ثمّ قبلَها امتثالًا للأمر الجديد دون أن يعلم أو يسال عن سبب تغيّر الموقف فهو يمتثل للأمر الآتي من أبيه دون جدال؛ فيقول معلّقًا على رفضه محاولات أصدقائه إقناعه بالالتحاق بوظيفة التّدريس:

"ولكنني رفضتُ بإصرارٍ عجيب، ولم أشأ حتى أن أطلع أبي على هذا الضّغط الذي يلاحقني، وكان عذري الذي واجهتهم به أنّ أبي أخذ عليّ ميثاقًا ألّا ألتزم بأيّ وظيفة، وقد عاهدته، وأبرمت أمامه ذلك العهد، فلن اأخالف اليوم عهدي معه قط.

والغريبُ الذي لا أتبيّن له تأويلًا قطّ إلى اليوم أنّ أبي رحمه الله عاد في العام التّالي فغيّر رأيه، وأذن لي، بل طلب منّي أن أشترك في المسابقة التي أعلنت في ذلك العام!"

وكذلك الأمر فيما يتعلّق بالعلاقة بالحكم والسلطات السياسيّة فقد كان والده يوجّهه ويرسم له الخطوط العامّة وربما بعض التفصيلات؛ فالدكتور سعيد يذكر بعد أن قدم بيانًا مرئيًّا عن مجزرة مدرسة المدفعيّة في حلب يقول:

"ولمّا وقعت مجزرة مدرسة المدفعيّة بحلب، واتّصل بي مسؤولون من وزارة الإعلام يرغبون إلّ أن أعلن عن حكم الشّريعة الإسلاميّة في ذلك؛ استشرتُ أبي فيما طُلب إليّ؛ فأمرني بالاستجابة"

ثم يقول بعد ذلك: "والحقيقة أنّ كلّ الذي قلته حينئذٍ كان بتوجيهٍ وإيعازٍ من والدي رحمه الله"

ومن نافلة القول أنّ المراد ليس تحميل الملا رمضان مسؤوليّة مواقف وأفكار ابنه الدّكتور سعيد أيا كانت سلبًا أو إيجابًا، ولكن من المهم معرفة خلفيّات وجذور العديد من القناعات التي تعود إلى حالة من الهيمنة الأبويّة المشيخيّة التي تتجاوز حدود المشورة إلى حدود الامر والنهي رغم ما بلغه الابن من مكانة علميّة وفكريّة عاليةٍ وسنٍّ متقدّمة، مع ما رافق ذلك من اقتناع عميق من الابن سعيد بأنّ والده بلغ مرتبة متقدّمة في الولاية والكرامات، وهذا عزّز من وصول هذه الأوامر الأبويّة حدّ القناعات الرّاسخة كما لو أنّها كانت وحيًا أو شبيهةً بالوحي.

• آثار الهيمنة الأبويّة والسّلطة المشيخيّة

الأبوية مصطلح يشير إلى التصرف لصالح شخص آخر ضدّ إرادته أو بدون موافقته أو رغبته، ويفترض هذا التعريف أن الشخص المتحكَم في تصرفات الآخرين يرى نفسه في مكانة أفضل تمكَنه من معرفة ما هو جيد لهم أكثر من أنفسهم.

ويرى الفيلسوف جون ستيوارت ميل أنّ الأبويّة بهذا المفهوم تتناقض وأصل الحريّة، إذ يعتقد أن الحريّة أثمن من حماية الناس من أنفسهم، فهو يرى أن الأفراد يعرفون مصالحهم أفضل من أولئك الذين يحاولون فرض الأبوية السلطويّة عليهم.

وكون الشّيخ ملّا كان يمارس سلطةً وهيمنةً أبويّة ومشيخيّةً صارمةً على ولده سعيد استمرّت إلى أواخر حياته؛ فهذا لا يتنافى مع صلاحه وورعه وتقواه، فقد كان مضرب المثل في دمشق بالصّلاح في أحواله وورعه في تصرّفاته، ولكنّه يعبّر عن طبيعة ذهنيّة ساعدت في تكريسها البيئة المجتمعيّة والمشيخيّة آنذاك، ويمكن تفسيرها أيضًا بشدّة خوف الأب على ابنه الوحيد من المجتمع الجديد الذي انتقل إليه لتغدو هذه السلطويّة طبعًا في عامّة الحياة.

هذه الهيمنة الأبويّة والسّلطة المشيخيّة انطبعت في سلوك الدّكتور محمّد سعيد مع من يتعامل معهم في اتّجاهين اثنين:

الاتجاه الأول الخضوع للأبويّة: وذلك مع أصحاب السلطات إذ كان يخضع للسلطات الأقوى لا سيما السياسيّة التي تمارس الأبويّة السياسيّة والأمنيّة، فالحكّام يعرفون مصالحنا أكثر منّا والحكومة أبعدُ نظرًا وأعمق بصيرة.

والاتجاه الثّاني هو الإخضاع للأبويّة: وذلك مع من يرى له وصايةً عليهم سواء في ذلك أسرته او طلّابه أو روّاد مسجده، بل كان يمارس هذه الأبويّة على قرّائه فتكاد تجد هذا النّفَس في الكثير من المواضع في كتبه ومؤلّفاته

إنّ معرفة كون الدّكتور البوطي كان غائبًا في جلباب أبيه وذائبًا في شخصيّته إلى أن فارق الشّيخ ملّا الحياة عن مئة وأربع سنين مهمٌّ في فهم أحد جوانب تركيبة شخصيّة البوطي وجذور هذه التركيبة التي كان لها دور حقيقيّ في كثيرٍ من المواقف والتّصرّفات في الحياة العامة والفكريّة والدّعويّة.

ولكنّ هذا لا يعني على الإطلاق أنّه التفسير الوحيد لمواقف البوطي الفكريّة والسياسيّة فهذه المواقف تحتاجُ إلى تفصيلٍ واسعٍ في حقيقتها ودوافعها وظروفها في مقالات مستقلّة قادمةٍ بإذن الله تعالى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين