نقض مقالة المطيري في المسألة الكورونية (4)

فصل

ثم خرج الدكتور حاكم عن البحث إلى ضرب من الرجم بالغيب ومخاطبة عواطف الناس ومشاعرهم، فزعم أن الطاعون أشد خطراً من وباء كورونا، فالموت منه متحقق بخلاف كورونا الذي لا تتجاوز نسبة الوفاة به اثنين بالمائة، كذا قال وهو عجيب منه فإن الأخبار الواردة من الصين وإيطاليا وإيران تؤكد أنه وباء مخوف، ولولا لطف الله بتوافر التكنلوجيا العصرية التي يفتقدها أهل الأعصار السالفة لكان يكون انتشاره وفتكه بالناس أشد من الطاعون، لكن التدابير الوقائية التي أسرعت الدول باتخاذها حالت دون ذلك، حتى رأينا العواصم العالمية خالية من الناس.!

فهذه المقارنة التي عقدها لا تروج إلا على ضعاف العقول، على أنا لو نزلنا معه فيما قال لم يكن ما أورده كافيا في تثبيت دعواه بمنع إغلاق المساجد، لأن كون الطاعون أخطر لا يلزم منه امتناع اتخاذ التدابير الوقائية التي منها إغلاق المساجد، مما هو أقل خطراً من الطاعون من الأوبئة لحسم مظنة انتشارها، ولا سيما مع إجماع أطباء العصر على شدة فتك وباء كورونا وبالغ خطورته، فهل يريد الدكتور حاكم من الناس الانتظار حتى يفتك بنسبة أزيد من اثنين بالمائة كي يباح لهم الوقاية منه.؟!

ومما يعكر على مقارنته هذا التي قصد منها تـهوين خطر كورونا لتدعيم مطلوبه، أن الكوليرا وباء وقد وقع ببغداد وباليمن ومات منه خلق ولم يحتج معه إلى حجر، وكذلك قبله وقع وباء إيبولا في زائير وهلك به آلاف وغير ذلك، والمقصود أن وباء كورونا لا نظير له في أوبئة العصر خطورة بحيث إن الحجر التام فيه ضروري وليس حاجيا، وقد علم كل متفقه أن الضرورة تبيح ما حرمت استباحته بالأصل ومنه إغلاق المساجد للوقاية من الوباء وصيانة نفوس الناس.

ومما يدلك على خطورة فتك كورونا أن المشاهير من أغنياء السياسيين والممثلين والرياضيين قد أدركهم كورونا فأصابـهم، مع أنـهم أشد الناس عناية بصحتهم لإشراف حذاق الأطباء عليهم وإنفاقهم المال المنضنض على ذلك، فكيف بعوام الناس، والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.

وتعلق الدكتور المطيري بأن الحجر بإغلاق المساجد من وسائل الوقاية التي كان المقتضي للأخذ بـها موجوداً في العهد النبوي ولم ينقل عنهم الأخذ به، هذا معنى كلامه وهو نظر فاسد، وأول ما يرد عليه أنه يلزمه تحريم الحجر الصحي وهو لا يقوله بل دعا إليه في أوراقه التي منع فيها إغلاق المساجد، لأن الحجر الصحي بحظر التجوال ونحوه وسيلة كانت متاحة في عصر السلف الأول ولم ينقل أنـهم أخذوا بـها.

فإن قال: حديث المنع من الخروج من بلاد الطاعون يدل عليه، قيل له: هذا يختص بالبلاد المطعونة وقد بينا أن لهم الصلاة مع بعضهم، فالدليل أخص من الدعوى، وإن قال: منع ورود الأصحاء على بلاد الطاعون، فكذلك يختص بالبلاد التي وقع بـها الوباء، دون البلاد التي اختلط فيها الوباء ويراد حسم مادته بالحجر لكشف من أصيب به. 

وإن قال: يؤخذ من إشارته الحجر الصحي، قيل له: ونحن أخذنا من إشارته إباحة إغلاق المساجد كما مر بيانه، وذكرنا أن الحجر الصحي من لوازمه إغلاق المساجد، لأن الفايروس لا يفرق بين مسجد وغيره.

وأيضا فما ذكره من أن الوسيلة التي المقتضي للأخذ بـها قائم على عهد السلف ولم ينقل أخذهم بـها، هو أحد القولين لأهل الأصول أنه لا يسوغ الأخذ بـها مطلقا وهو اختيار ابن تيمية وغيره، والقول الآخر حكاه العز والقرافي وهو قول الجمهور أنـها إن اشتملت على مصلحة محققة، حسُن فعلها وإلا فلا، وهو أصح، ولا نزاع في تحقق المصلحة من الحجر بإغلاق المساجد كما قرره الأطباء وإليهم المرجع في هذا.

على أننا لا نسلم أصلا وجود المقتضي للأخذ بإغلاق المساجد على عهد السلف، لما بيناه من الفرق بين وباء كورونا في انتشاره السريع المخوف، وبين الطاعون والوباء على عهد السلف، فإنه لا يعلم في التاريخ وباء عم الأرض مثل كورونا، وإنما كان ينحصر في بلد دون آخر.

وقول الدكتور المطيري إنه كان بالإمكان الاحتراز من المرض بحظر التجول إذا اقتضت الضرورة ولزوم بيوتـهم دون إغلاق المساجد، غريب منه ولعمري إذا حظر التجوال وأُلزم الناس بالقرار في بيوتـهم فما الفائدة من فتح المساجد؟! ومن يعمرها؟ على أن هذا الاحتراز لازمه إغلاق التجمعات ومنها المساجد فما فر منه المطيري وقع فيه.

وإن قال يحظر التجوال إلا للمسجد فهو عاطل، لأن قياس المساواة يشهد بضده لتساوي من يخرج للمسجد مع من يخرج لغيره في الإصابة بكورونا، فلا طائل منه، وأيضا فقد تقرر في الأصول أن العلة إن خفيت تعلق الحكم بالمظنة، ولما كانت العلة في الإصابة بفيروس كورونا لا تنضبط بحد فلا يمكن أن يقال بحظر تجمع دون آخر، لأن الجميع مظنة الإصابة بالفيروس، وحينئذ يناط الحكم وهو المنع العام ومنه إغلاق المساجد بمظنته.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الساعة لا تقوم حتى لا يُحج البيت، كما أخرجه ابن حبان والحاكم وصححاه، وهو عام يحتمل أنه لا يحج لوباء ويحتمل لعدو وغيره، وقد تقرر أن ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فيؤخذ منه جواز ترك الحج أو منعه وما هو أدنى منه كإغلاق المساجد لخوف وباء أو عدو جائز.

وقد وقع هذا إبان اعتداء القرامطة على البيت الحرام واستلبوا الحجر الأسود فبقي عندهم أزيد من عشرين عاما، حتى إن أبا القاسم الخرقي قال في باب دخول مكة من (مختصره): (ثم أتى الحجر الأسود إن كان فاستلمه) وتقييده بقوله (إن كان) أي إن كان الحجر في مكانه، كما قاله الموفق والزركشي في (شرحيهما) وإنما قال ذلك لأن تصنيفه لهذا الكتاب كان حال كون الحجر الأسود بأيدي القرامطة حين أخذوه من مكانه في سنة سبع عشرة وثلاثمائة كما ذكرنا، ولم يردوه إلا سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، قاله الحافظ ابن كثير في (تاريخه).

وقال الحافظ الدارمي في (مسنده) أخبرنا مروان بن محمد عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما كان أيام الحَرّة لم يُؤذّن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا ولم يُقم، ولم يبرح سعيد بن المسيب المسجد، وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بـهَمْهَمة يسمعها من قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن سعد: أخبرنا الوليد بن عطاء بن الأغر المكي قال: أخبرنا عبد الحميد بن سليمان عن أبي حازم قال: سمعتُ سعيد بن المسيب يقول: لقد رأيتُني ليالي الحَرّة وما في المسجد أحد من خلق الله غيري، وإن أهل الشام ليدخلون زُمَراً زُمَراً يقولون: انظروا إلى هذا الشيخ المجنون، وما يأتي وقتَ صلاة إلا سمعتُ أذانا في القبر ثم تقدّمتُ فأقمتُ فصَلّيتُ وما في المسجد أحد غيري.

وذكر الحافظ السيوطي في (تاريخه) أنه لم يحج سنة 430 أحد من أهل الإسلام، وذكر أنه لم يحج السنة التي بعدها أحد من أهل الأمصار إلا أهل مصر، وذكر العلامة الألوسي في (تاريخ نجد) أن الإخوان الوهابيين صدوا الحجاج الأتراك والشاميين والعراقيين والمغاربة عن الحج، ولم ينقل عن أحد من العلماء أنه أفتى بوجوب الحج على من وجب عليه الحج ممن توافرت فيه شروطه إذ ذاك.

وحكى أهل التواريخ أن المساجد تعطلت إبان كائنة هولاكو، وأيام الفاطميين وأيام الشاه عباس الصفوي ونحو ذلك من حوادث الزمان، حتى خربت وتعطلت من خوف الناس، ووقع ببغداد في النصف الأول من المائة الرابعة نـهب عظيم من العيارين حتى خلت الدور من أهلها وتعطلت المساجد والأسواق والمدارس. 

وذكر أبو العباس الناصري في (الاستقصاء): (وفي أواخر سنة ثلاث وسبعين وألف من السنة التي بعدها حدثت مجاعة عظيمة بالمغرب لا سيما فاس وأعمالها، أكل الناس فيها الجيف والدواب والآدمي وخلت الدور وعطلت المساجد ثم تدارك الله عباده بلطفه) وذكر نحوه ابن زيدان السجلماسي في (أخبار مكناس) وورَّخه في أواخر سنة أربعة وسبعين وألف من الهجرة.

ولم ينقل أن أحداً من العلماء عارض تعطيلها وأفتى الناس بلزوم الصلوات فيها، وعلى مقتضى رأي المطيري في إطلاقه تقديم حفظ الدين على النفس يلزم أن يفتوا بلزوم المساجد ومنع تعطليها، ولا فرق في هذا بين تعطيلها بفتوى أو لا، لأن إعمارها مقصد للشارع مقدم عند المطيري على حفظ النفس مطلقا كما مر عنه.

فإن قال: عطلت بغير قصد للخوف على النفس من القتل، قيل: وتعطيلها بقصد خوفا على النفوس من الموت بالوباء مثله، ولا يؤثر اعتبار القصود في هذا ما دام أن مصلحة تعطيلها متحققة في الأمرين. 

وقول المطيري إنه لم ينقل عن أحد فتيا بغلق المساجد في الوباء، لا محصل منه ولا متعلق له به، لأن فتياهم من تحصيل الحاصل، فإن الوباء والقتل والفتن إذا عمت تتعطل المساجد من هجران الناس لها خوفا على نفوسهم كما تقدم نقله عن الذهبي وغيره، فلا طائل عندئذ من الفتوى، بخلاف وباء زماننا فإن فايروس كورونا مما يخفى ويعسر كشفه بادئ ذي بدء إلا بفحص، فاحتيج إلى فتيا إغلاق المساجد وسيلة لحفظ النفوس التي بـها يحصل إعمار المساجد سداً لذريعة انتشاره، وهذا فرق ظاهر يكسر سؤال المطيري. 

بل الفقهاء يعلمون أن مثل هذه الأعذار وأدنى منها توجب سقوط الفرض عمن حصل شروطه، فإن أمن الطريق من شرائط وجوب الحج عند الفقهاء، بل نص أصحاب أبي حنيفة على أن قتل بعض الحاج سبب في سقوط الفرض عن غيره، لأنه مظنة عدم أمن الطريق، والوباء مثله ولا فرق فإن موت بعض الناس به بسبب الاختلاط مقتض للحجر الذي يلزم منه منع التجمعات ومنها المساجد حفظا للنفوس.

وذكر أصحاب مالك أنه إن خاف على نفسه فلا حج عليه إجماعا، وهذا عام في خوف عدو أو وباء، وقد حكى المازري أن الشيخ أبا الوليد هو الباجي أفتى بسقوط فرض الحج عن أهل الأندلس لأجل الخوف، بل منهم كالطرطوشي من أفتى بسقوط فرض الحج عن أهل المغرب لأنه قال: (لقيتُ في الطريق ما اعتقدتُ أن الحج معه ساقط عن أهل المغرب بل حرام) مع التنبيه على أن لفظ (سقوط الحج) كرهه الشيخ زروق أدبا، وصنف في كراهته أحمد بن محمد اللخمي السبتي، ولهذا قيدناه بسقوط الفرض.

وكلام الفقهاء هنا مخرج على غلبة الظن وإلا فالنفس لا تثق بالخلاص من الحوادث كما قال الإمام في (النهاية).

ولا نزاع بينهم في اشتراط أمن الطريق، وإنما تنازعوا في كونه شرط أداء أو شرط وجوب، ولا ريب أن الوباء يلتحق بخوف الطريق لأنه منه بجامع الخوف على النفس وبإلغاء الفارق، فيقال عندئذ إن الحج في الوباء مظنة تلف النفس فيمنع منه كخوف الطريق.

وأما تعلق المانع بحديث ابن أم مكتوم في صلاة الجماعة فهو غلط منه، لأن هذا الحديث واقعة عين لا عموم له فيختص بابن أم مكتوم بدليل أن عامة الفقهاء يسقطون عن الأعمى الجماعة بل الجهاد بنص الكتاب، وإنما لم يرخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابن أم مكتوم في ذلك صيانة لدينه لأن على عهدهم لم يكن يتخلف عن الجماعة إلا المنافق كما قال ابن مسعود، ومما يدلك أيضا على اختصاص هذا الحديث بشخص ابن أم مكتوم أنه كانت له كرامات وخوارق يطيق معها الجماعة، ولهذا استعمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة مرتين مع أن العمى لا تسوغ معه الولاية عند الفقهاء، بل كان ابن أم مكتوم هو حامل اللواء يوم القادسية.!

قال الدكتور حاكم: (وأما الاحتجاج بحديث الصلاة في الرحال عند البرد الشديد والريح العاصف فإنه لا يقتضي إغلاق المساجد ولا منع من أراد الأخذ بالعزيمة، والخوف يسقط وجوب الجمعة والجماعة على الخائف وحده لا إغلاق المساجد ومنع من لم يخف من إقامتها).

وإنما قال هذا لأنه خفي عليه وجه انتزاع الإغلاق واستنباطه من مدلول هذا الخبر، وهو قياس الأولى الذي هو حجة عند عامة الأصوليين حتى داود، وإنما أنكره ابن حزم وحده فشذ.

والوجه فيه أنه إن كان الخوف أو البرد والمطر والريح ونحوه من الأعذار النوئية المناخية تقتضي سقوط السعي للجمع والجماعات، فأولى أن يقتضيه الوباء لأنه أشد، وإنما تقرر بـهذا الإغلاق العام عن كافة المصلين سواء أصيب بكورونا أو لا، دون مجرد من أصيب احتياطا من إيقاع الناس في الحرج الذي رفعه الشارع عنهم، فلا يتأتى عندئذ ما أورده المطيري أن الخوف يقتضي سقوط الفرض عن الخائف وحده، لأن الخوف والبرد والمطر يتفاوت الناس في احتماله فمنهم من يطيقه ومنهم من لا يطيقه، بخلاف الوباء فإنه يعم ولا يمكن أحداً أن يطيقه، فافترقا.

وأيضا فالكلام في عذر خاص هو أن مخالطة المصلين بعضهم في داخل المسجد مظنة الإصابة بالفيروس، لا في مطلق العذر، وهنا لا يتأتى القول بقصر منع الصلاة على المصاب دون غيره كالخائف، لأن الخوف لا يعدي بخلاف كورونا فإنه يعدي فينتقل الوباء إلى عامة المصلين، وبـهذا الفرق يبطل ما موه به الدكتور حاكم وما حاوله من إبطال الاستدلال بخبر الصلاة في الرحال، فالاستدلال به صحيح لا يعكر عليه ما أورده المطيري.

وعليه ينتج أن جواز إغلاق المساجد لخوف وباء كورونا أولى من الرخصة في التخلف عن الجمع والجماعات للخائف والمتضرر بنحو برد ومطر، لأن علة كورونا أعم بسبب العدوى ولا عدوى في الخوف والبرد. 

بمعنى أن علة كورونا متعدية وعلة الخوف قاصرة، فيقتصر في القاصرة على الخائف، وتتعدى المتعدية إلى عامة المصلين، فيثبت جواز إغلاق المساجد بقياس الأولى بعلة الضرر بالوباء، فالعلة هي الضرر وليس الخوف والمشقة كما توهمه الدكتور حاكم فإنـهما حكمة الحكم لا علته، وإنما سميناه علة تنزلا أو تجوزاً لأن العلة حيث خفيت أو لم تنضبط نيط الحكم بمظنته أو حكمته، والضرر اللاحق بالخائف ونحوه كذلك والضرر بكورونا أشد لأنه أعم وأخطر في نوعه، وبالله تعالى التوفيق.

قال الدكتور حفظه الله: (وما زال المسلمون إذا عم الوباء والطاعون يهرعون إلى المساجد للدعاء..) إلخ كلامه، وهو صحيح لكنه لا يعكر على فتيا إغلاق المساجد للفارق بين الحالين كما تقدم شرحه، ولأنـهم يهرعون إلى المساجد في النوازل التي يمكن معها الاجتماع في المساجد، كالزلازل وظهور الكواكب ليلا كما حكاه أبو شامة وابن كثير، وكالطاعون إذا لم ينتشر في البلاد، كما وقع الطاعون بالعراق ففزع أهل الشام للمساجد يدعون لإخوانـهم ولأنفسهم، ووقع بمصر ففزع أهل الأمصار للمساجد، ووقع بالشام فكان كذلك، وهذا أخص من نازلة كورونا لما مر بيانه أن الوباء في زماننا ينتشر بسرعة لم يعهدها الناس من قبل، فما كاد الناس في الأمصار يتسامعون بكورونا في إيران حتى ظهر فيهم حتى قبل أن يفزعوا إلى المساجد، نسأل الله اللطف بخفي ألطافه، وأن يحفظ دينه ويحفظنا بحفظه.

وأيضا فيمكن الفزع للصلاة والذكر والدعاء في كشف كرب كورونا في البيوت، ويمكن إقامة الجماعة فيها لأهل البيت، كما نص عليه الشافعي وأصحابه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن العبد إذا مرض أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما، كما في (الصحيح) عن أبي موسى، فمن كان من أهل المساجد وحال هذا الوباء بينه وبين بيوت الله فله مثل أجر صلاته في المسجد مع الجماعة، وفي الحديث أيضا إشارة إلى جواز تعطيل الجماعات مؤقتا بإغلاق المساجد لأجل الوباء، فتأمل.

ونحن نقول هذا الوباء لا يخلو أن يكون انتشاره في بلد قطعيا أو غالبا على الظن فيباح معه إغلاق المساجد، أو يقطع أو يغلب على الظن أنه لم ينتشر بعد فيه، فلا يسوغ الإغلاق والحال هذه، أو يتساوى الأمران فلا يقطع بأحدهما ولا يغلب على الظن انتشاره من عدمه، فمنع الإغلاق فيه متجه على الأصل، والإغلاق متجه أيضا احتياطا للمصلحة، ولا مانع من تخصيص الأصل العام بالمصلحة إذا تحققت وعمت كما قرره الغزالي والطوفي وغيرهما، وكورونا من هذا النوع.

وقول الدكتور حاكم إن من أفتى بإغلاق المساجد ليس معه نص ولا قياس ولا فتوى إمام معتبر بل أهواء سياسية جعلت المساجد والصلوات أهون مفقود في حياة المسلمين إلخ كلامه، وهو منتقض بما تقدم بيانه من وجوه الدلائل التي لا يعرفها الدكتور حاكم ولم يهتد إلى معانيها، على أنه هو ليس معه في قوله بالمنع إلا العدم، ولم يأت بما ينتهض لدفع حجج خصومه وهم جمهور الأمة إلا بشقاشق أخف من الجُمّاح، وقد بينا فساد ما اشتبه عليه أنه دليل المنع فتعلق به وهو أضعف من عيدان بَرْوَق، فصار به كالـمُهدِّر في العُنة، عصمنا الله وإياه بطاعته.!

واحتجاجه بحديث (إذا رأيتم شيئا من هذه الأفزاع فافزعوا إلى الصلاة) لا دلالة فيه لأن من فزع إلى الصلاة في داره، أو كانوا في مجمع سكني علم أنه خال من كورونا، فصلوا الجمعة والجماعات في فناء أو مصلى، فقد عمل بالحديث وفزع إلى الصلاة.

قال المطيري: (وفتوى المنع بنيت على قاعدة سد الذرائع والمراد منع الوسيلة المباحة إذا أدت إلى مفسدة كمنع بيع العنب ممن يتخذه خمراً، لا منع بيع العنب مطلقا) إلخ كلامه.

فيقال له: ومن الذي أغلق المساجد مطلقا، فإن الإغلاق مؤقت بوقت وجود هذا الفايروس، ولا نسلم أن إغلاق المساجد وسيلة ممنوعة مطلقا، بل منه وسيلة ممنوعة كإغلاقها للصد عن سبيل الله، ومنه وسيلة مباحة كإغلاقها لصيانتها وترميمها كما تقدم بيانه، وهذا منه أعني إغلاقها لأجل فايروس كورونا هو من الوسائل المباحة، لأن إبقاء المساجد مفتوحة مع وجود الوباء ذريعة لمفسدة أعظم من مفسدة إغلاقها وهي العدوى المؤدية إلى تلف النفوس وهلاكها، فجاز إقلاقها سداً للذريعة وهذا ظاهر.

وأيضا نقّحَ ابنُ القيم أن الذرائع مشروعة في الأصل لمصلحة تضمنتها، لكنها قد تفضي إلى مفسدة، فينظر إن كانت المصلحة راجحة عُمل بـها ويلغى أصل سد الذرائع، وإن كانت المفسدة راجحة فالعكس، أو يتساويان فيُقدّم درء المفسدة على تحصيل المصلحة كما هو مقرر في الأصول، ومسألة كورونا من هذا النوع، فإن مفسدة الموت بالوباء راجحة فتقدم على إغلاق المساجد، وإن قدر تساويهما فقد نص ابن القيم على تقديم درء المفسدة فتقدم مفسدة الموت بالوباء على مصلحة التعبد في المساجد.

فائدة: في (المسند) وتاريخي ابن جرير وابن عساكر وغيرها أن معاذ بن جبل رضي الله عنه لما مات في طاعون عمواس، اسْتُخلف على الناس عمرو بن العاص رضي الله عنه فقام فينا خطيبا، فقال: أيها الناس، إن هذا الطاعون رجسٌ مثل السيل من ينكبه أخطأه ومثل النار من ينكبها أخطأته، ومن أقام، أحرقته وآذته فتفرقوا عنه في الجبال، فقال له شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه: كذبتَ والله لقد صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنتَ أضل من بعير أهلي، إنه رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، فاجتمعوا ولا تفرقوا عنه فقال عمرو: والله ما أردُّ عليك ما تقول، وأيم الله لا نُقيم عليه، ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا عنه، فدفعه الله عنهم، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فوالله ما كرهه.

وهذا ظاهر في جواز إغلاق المساجد وهجرها وتعطيلها مؤقتا، والفرار من الوباء إلى حيث الأمن منه كالحجر الصحي، لأن فرارهم يلزم منه إخلاء المساجد وتعطيلها، بل ما فعله عمرو وأقره عليه عمر الملهم رضي الله عنهم نوع من الحجر الصحي، وهو يقوي القياس على إغلاقها من خوف عدو ونحوه، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الناس يفرون من الدجال إلى الجبال كما رواه مسلم، ولا ريب أن فرارهم منه يقتضي خلو المساجد منهم وتعطل الجماعات بـها، وكلاهما دليل ظاهر على تأصيل الإغلاق.

لطيفة: حكى الدميري في (الحيوان) عن القزويني في (الأشكال) أن الرئيس أبا علي بن سينا ذكر أن من ذكاء طائر الكُركي أنه يتخذ له عشين يسكن في كل واحد منهما بعض السنة إذا أحس بتغير الهواء عند حدوث الوباء ترك عشه وهرب من تلك الديار.!

وهذا آخر ما يسر الله من التعليق على مقالة المطيري، والحمد لله أولا وآخراً، باطنا وظاهراً، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيراً.

الحلقة السابقة هـــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين