الباطنيون الجدد

(المقال بإضافات علمية اقتضتها طبيعة التفاعل مع المقال الأول)

نصيحتي هذه المرة لبعض الإخوة المشايخ الذين يعيدون نشر بعض المنشورات دون قراءتها والتدقيق في مضمونها وصحّة نسبتها..

لقد صدمت أمس وأنا أقرأ على صفحة معروفة لداعية معروف منشورا باطلا بمضمونه وبنسبته! ورغم مرور أيام كافية للمراجعة إلا أن المنشور بقي كما هو، مع وجود طامات لا يحتملها الرأي والرأي الآخر، خاصة أنها متعلقة بمنهجية تدبّر القرآن الكريم، والغريب أن المنشور منسوب للشيخ الغزالي رحمه الله، ولحدّ اللحظة لم يستطع الناشر أن يثبت صحة هذه النسبة، ولا أن يحدد المصدر الذي أخذ منه.

فحوى المضمون تأويل باطني فاسد لقوله تعالى (قرآنا عربيا) قال: "إن كلمة عربي تعني الكمال والتمام..وليس لها علاقة بالعرب كقومية"، ولا شك أن القرآن الكريم هو في أعلى درجات الكمال والإتقان (كتاب أحكمت آياته) لكن لماذا الإصرار على أن لغة القرآن هي ليست اللغة العربية؟؟؟!!! مع أن المعلوم بالضرورة والبداهة أن العرب قد فهموا القرآن ولم يحتاجوا إلى ترجمان، وكانت بلاغة القرآن سببا مباشرا في إيمانهم، ولم يصدر عن أي عربي في ذلك الوقت أنه اعتذر عن فهم القرآن لأنه جاء بلغة غير لغته!!

كل ما هناك أن صاحب المنشور حاول أن يقنع من لا معرفة له بأصول اللغة ولا أصول العلم، أن يأخذ المعنى الجذري لمادة ( ع ر ب)، ليلغي بذلك كل الحقائق اللغوية والعلمية والشرعية، ويفتح المجال لإشاعة الفوضى المعرفية التي لا حدود لها.

لقد حذرت سابقا من خطورة إلغاء الحقائق اللغوية بالرجوع إلى الجذر المجرد، لأن الجذر ليس هو لغة الخطاب، وخذوا هذه الأمثلة:

الربا، مفردة لها حقيقة شرعية معروفة، ولكن لو رجعنا إلى الجذر (ر ب و) فمعناه الزيادة، وعليه ممكن يأتي مفسّر جديد ليقول إن الله حرم الزيادة في وزن الجسم مثلا .

الإنسان، له حقيقة لغوية معروفة، ولكن الجذر هو (أ ن س) وعليه يمكن أن يأتينا مفسر جديد ليقول إن الإنسان هو كل من تأنس به ولو كان كلبا أو قطة.

وفعلا لقد قرأت لأحدهم أن (الرجال قوامون على النساء) معناه : المشاة قوامون على القاعدين، لأن الجذر ( ر ج ل ) معناه: مشى، وجذر (ن س أ) معناه تخلف أو تأخر..

وصاحب المنشور هنا معروف بباطنيته، وليس هو للشيخ الغزالي، فالعربي معروف أنه المنتسب إلى أمة العرب، هذه اللغة المعهودة في الخطاب، فالعودة إلى الجذر (ع ر ب) الذي هو البيان، شبيه بما ذكرناه من الأمثلة، ولا ندري ربما يأتينا شخص يقول: إن التركي، من ( ت ر ك) ولا علاقة له بالقوم المعروفين..

ثم يا إخوة هل جاء القرآن بلغة غير اللغة المعروفة عند العرب؟ وهل كان العرب يتكلمون بلغة أخرى؟ وأنهم احتاجوا إلى ترجمان ليفهموا لغة القرآن؟؟ وهل كان النبيّ عليه الصلاة والسلام يفهم القرآن بحكم لغته العربية الأصلية التي هي لغة آبائه وأجداده أو أنه احتاج إلى أن يتعلم لغة جديدة؟؟!!

هذا والله عبث بحقائق الدين والعلم واللغة والتاريخ

لقد صرّح القرآن بعربيّة القرآن فقال: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربيّ مبين) فالآية هنا ليست بصدد رد شبهة النقص بإثبات الكمال، وإنما ترد نسبة القرآن إلى رجل أعجمي، بينما هو لسان عربيّ، والآيات والأحاديث وأقوال السلف وإجماع الأمة أكثر من أن تحصى، إضافة إلى الواقع الملموس كرابعة النهار، فمفردات القرآن الكريم هي نفسها مفردات المعاجم العربية، ونفسها الموجودة في لغة العرب من الشعر الجاهلي إلى اليوم.

أما اللعب على وتر العنصرية القومية فهذا اصطياد في الماء العكر، فالقرآن ليس كتابا عنصريا، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) لكن العالمين ليس لهم لغة موحّدة فكانت الحكمة تقتضي أن ينزل بلسان الرسول -عليه الصلاة والسلام- الذي هو لسان العرب (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم)، وبكل تأكيد أن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- ما كان يتكلم إلا بهذه اللغة، اللغة العربية المعروفة.

وبناء على هذه المنهجية المغلوطة والشاذة راح الكاتب يفسّر (الأعراب) تفسيرا مضحكا، وقال: "فالأعراب مجموعة تتصف بصفة النقص في الدين والعقيدة" ولم يقل لنا ما ذا نفعل بمثل قوله تعالى الذي يمدح الأعراب : ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم)

أكرر وأؤكد هنا خطورة الموضوع لأنه لا يتعلق بتفسير كلمة (عربيا) أو (الأعراب) بل هي منهجية باطنية خبيثة اتخذت من التفسير الجذري مستندا لإلغاء الحقائق العلمية واللغوية والشرعية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين