خطوات عمليَّة لاستعادة مكانة النحوِ العليَّة

   لا يخفى على كلِّ باحثٍ منصف أن النحوَ العربيَّ من علوم المسلمين المتينة المحْكَمة البناء، وهو أوَّلُ علم دُوِّن في الإسلام، وأنَّ السهام التي وُجِّهت للقضاء عليه والنيل منه، على تنوع مقاصدها، عادتْ بعد أن تكسَّرت نصالها على أسواره (1)، غير أننا يجب أن نقِرَّ أنَّ فئات من المسلمين تأثرتْ تلكَ المقولاتِ وراحت تردِّدها من غير وعي، وأنَّنا نعاني من اضطراب وعشوائية في فهم مقاصد هذا العلم وتفهيمه في مدارسنا وجامعاتنا وجوامعنا، أدّت إلى نفور الطلبةِ منه ويقينهم من استحالة تعلُّمِه والإفادة منه. ولا شكَّ أنّ بحثَ جوانب الضعف والإشكال عندنا في تعلم هذا العلم وتعليمه كفيلٌ بأن يزيد أسواره تحصينًا ويدفع عنه كلَّ كيدٍ ومكر. وهذا ما سأعرضه في هذه السطور سائلًا الله العظيم أن يلهمني السداد والتوفيق:

   الخطوة الأولى: أن نفهم غايةَ علمِ النحو وثمرتَه على الوجه الصحيح. فكثيرون يظنون أن هذا العلمَ يُوْرِثُ متعلِّمهَ ملَكَة الفصاحة والاقتدارِ على الكلام بالعربية بطلاقة، ونحن نرى في المدارس والجامعات أنّ الطالب المسكين يعاني دراسةَ النحو عشر سنوات على الأقل بلهجاتِ المدرسين العامِّية، ويظنُّ هو ومعلِّموه أنه يخطو بذلك خطواتٍ واثقةً نحوَ الكلام بالفصحى، وحين لا يخرجون بالغاية التي ظنوا النحو جاء من أجلها ينهالون على العلمِ نفسِه بالسب ويطالبون بتغييره إلى علمٍ معاصر يُكسبُنا ملَكة الكلام بالعربية دون عناء. والحقُّ أنَّ العيب ليس في العلم بل في المنزلة التي أنزلوه إياها وليست له. فالفصاحة لا تُكتَسب بقواعد النحو بل باستماعِ الكلام الفصيح ومعاناة حفظِ الكلام العالي وفهمِه ثم التزامِ الكلامِ بالعربية في مجالس التعلُّمِ والتعليم. بهذا نكتسب تلك الملَكة التي لا بدَّ منها. أما علم النحو فغاياتُه الرئيسةُ هي الفهمُ والإفهام والتفريقُ بين المعاني ثم تصويبُ الأوهامِ التي تقع للمتكلم الفصيح. ولذا نستطيعُ أن نقول مطمئنين: إنَّ النحو لا يُوجِد معدومًا بل يُقَوِّمُ موجودًا، أعني أنه لا يُوجِد تلك الملَكةَ السامِيَة مِنَ العدمِ، بل بعد أن نُعنَى بحفظ كلام العرب وفهمِه ونشرعَ في الكلام به فلا بدَّ أن نقع في بعض الأوهام -إذ إننا لسنا عربًا بالفطرة- والنحوُ هو الذي يصوِّبها ويصححها. وهذه أول خطوة -أحسَبُ- في طريق استعادة مكانة هذا العلم المنيف.

   ورحم الله علماءنا الأجلَّاءَ الذين كانوا قبل الشروع في تدريس أيِّ علمٍ يقدِّمون له بمقدمات سمَّوها مقدِّمات العلوم، منها التعريف بغاية العلم وثمرتِه، حتى يصونوا الطالب عن العبث والوهَم فيه(2).

   الخطوة الثانية: واجبُ معلمي النحو العينيُّ أن يعلِّموا مسائل هذا العلم باللغة العربية الصحيحة لا بالعامّيات المنتشرة في بلادنا. وإنَّ مما يقضي منه العاقل عجَبًا أن يكون العلمُ الذي نشأ خدمة للغة الفصحى وتمكينًا لها يُدَرَّسُ بالعامّيّة! فأيُّ عبَثٍ بعد هذا؟ نَشدْتُكم الله.

   الخطوة الثالثة: ضرورة إبعاد مسائل النحو كلِّها عن المراحل الابتدائية في الرِّياض والمدارس. إنها مرحلة تكوين اللغة عند الطفل، وقد قررنا في الخطوة الأولى أن تكوينها إنما يكون بالحفظ والممارسة. وما أَبْأسَ أولئك الطلبةَ المساكين الذين ابتُلوا بتلك المباحث التي هي أشدُّ تجريدًا من الرياضيات، كأقسام الكلمة والمعرب والمبني وأحوال البناء... وهم لمَّا يجاوِزوا الصف السادس! ألم يكن الأَولى أن نعرِض عليهم النصوصَ الجميلة التي تناسب أحوالَهم من شعر ونثر: نُحَفِّظُهم إياها ونشاركهم فهمها وشرحَها وعَيشها ملتزمين الكلام الفصيح؟ إذًا لرأينا نتائجَ عظيمة غيرَ هذا اليأس والإحباط الذي يشعره طلبتُنا اليومَ من لغتهم ونحْوِهم.

   الخطوة الرابعة: إذا اتفقنا على الوقت المناسب للشروع في هذا العلم فلا بدَّ أنْ نشير إلى ضرورة تقديم هذا العلم لطلابِه بطريقةِ دوائرَ بعضُها أكبرُ من بعض: ففي المرحلة الأولى يجب أن نعرِضَ عليهم خريطة العلم كاملةً غيرَ مجتزأةٍ، شبيهة بمتن الآجرومية، نعرِضُ فيها أقسام الكلمة الثلاثةَ ثم نفرِّع عنها المباحث تفريعًا دقيقًا، حتى يغدوَ الطالبُ بهذه الخريطة على بيِّنة من أمره، وفي المرحلة التي تليها يأخذ الخريطة نفسَها مع توسع في الجزئيات بما يناسب مرحلته. أمَّا تجزئة المباحث على السنوات وتطويلُها، كما هي الحال في معظم مناهجنا المدرسية، فلم تُورِث الطلبةَ إلا تشتُّتًا ورهبةً. وهو أمرٌ مشاهَد لا يستطيع أن ينكرَه موافقٌ أو مخالف.

   الخطوة الخامسة: لا شكَّ أنَّ شدَّة تجريدِ هذه القواعد أورثَها قدْرًا لا بأس به من الإملال والصعوبة، لكنَّ الذي يخفِّف صعوبتها، بل يزيلها بل يورث متعلِّم النحوِ ضدَّها مِن الشعور بالجمال والمتعة، هو العناية بثمرة هذا العلم الكبرى تطبيقًا، وهي: التفريق بين المعاني، فلو بيَّن لهم المعلِّم الفرق بين: ما أحسنَ زيدًا! وما أحسنَ زيدٌ، وما أحسنُ زيدٍ؟ لرسَّخ قواعدَها في نفوسهم وأشعرهم بقيمة ما يحاولون فهمه من هذه الضوابط. وهي معانٍ نحويةٌ محضةٌ لا بلاغيَّةٌ كما يتوهمُ بعض الناس، وهي روح النحو التي يغدو بدونها جثَّة هامدةً. وهذه الفروق منتشرة في كل مباحثه، غيرَ أنَّ معظم المعلِّمين يُغْفِلونها مع شدَّة الحاجة إليها. وقد تكلمت على جملة من الفروق النحوية في مقال لي في مجلَّة الوعي الإسلامي (3).

   الخطوة السادسة: الإكثار من التدريب العملي في الإعراب، وهو المقدمة لإدراك الفروق بين التراكيب وتسمياتِ مفرداته من فاعل ومفعول به أو مفعول لأجله أو حال أو تمييز... وأنتَ تعجبُ إذ ترى معظم الدروس المنتشرةِ في المدارس والجامعات والجوامع يُعنى أصحابها بالتنظير والتطويل فيه ثم يطوون هذه المجالس بعد آخِرِ مبحث دون أن يعطوها حقَّها من التمرُّن بالنصوص ومحاولة فهم تركيبها النحوي. ولذا ترى من أتقنَ كتابًا في النحو النظري لا يستطيع أن يعرب سطرًا من النثر أو بيتًا من الشعر. فلا بدَّ إذًا من إكثار التدريب العملي، ولا بُدَّ قبلُ أن تعرِض المناهجُ الخطواتِ السليمةَ له قبل أن يشرع فيه ويخبِطَ خبْطَ عشواء، مع ضرورة التزام المصطلَحِ الموحَّد الصحيح في الإعراب، لِـمَا له من أثر في تسريع تحصيل هذا المكسب المهم(4).

   الخطوة السابعة: التفريق بين النحو العلمي والنحو التعليمي. فكثير من مسائل النحو العلمي، بما تحويه من أوجه في الاحتمالات والخلاف، لا يجوز عرضه على الطلبة وتشويشُ أذهانهم به وتشتيتُها. ولربما سلمت المناهج في مجملها من هذا الخلط، فيأتي بعض المعلمين يستعرضون مهاراتِهم المزعومةَ فيزيدون البلاء على الطلبة بالأوجه المحتملة في الإعراب وتفريعاتِ المسائل الافتراضية ويهتكون حرمتها، إذ يجعلونها في مكان لا يجوز أن تكون فيه.

   هذا أهمُّ ما عنَّ لي من خطواتٍ عمليةٍ تعودُ بها لهذا العلم الشريف مكانتُه بين العلوم، كتبتها بعد تأمل طويل لمشكلاته أثناء ممارستي خدمته بالتعليم في المدارس والمعاهد، راجيًا أن يكون ما كتبتُ سبيلًا لانتشالهم من القاع المظلمة التي هم فيها. والحمد لله رب العالمين.

 (1) من أشهر الكتب التي نقدت النحو العربي في مجمل بنائه كتاب المرحوم إبراهيم مصطفى "إحياء النحو"، وقد ردَّ عليه الأستاذ المرحوم محمد عرفة ردًّا متينًا مُحْكَمًا في كتابه "النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة". فانظرهما وتأمل.

(2) انظر كتاب "المطالب السَّنِيَّة في المبادئ العشَرة للعلوم الشرعية" لمحمدِ حسنٍ نور الدين إسماعيل، طبعة شبكة الألوكة.

(3) انظر مجلة الوعي الإسلامي العدد (553) رمضان 1432هـ أغسطس 2011م ص52.

(4) من أحسن كتب التحليل النحوي وأضبطها كتابا أستاذنا العلّامة فخر الدين قباوة: المورد النحوي، والمورد النحوي الكبير. وانظر كذلك كتاب "فتح الأبواب للمبتدئين بعلم الإعراب" ص 33- 35  

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين