الموت السريري.. اقتصاد النظام السوري 

إنّ من أهمّ الأمور التي تجعل الحياة هانئة ورغيدة في بلد ما الاقتصاد وقيمة العملة في ذلك البلد، والحالة الأمنيّة العامّة لأيّ بلد من سِلم وحرب كفيلة بالإمساك برقبة العملة المحليّة ورفعها أو خفضها حسب مقتضيات تلك المرحلة. وسورية اليوم تراوح في نهاية عامها التاسع في ثورتها المباركة، ومازالت الحرب فيها سِجال، فما أن تضع أوزارها في مكان لتشتعل في مكان آخر، وهذا العامل كاف بتدهور أوضاع الاقتصاد في البلاد. وإنّ لتدهور الليرة السوريّة في هذا الوقت أسباب عدّة سياسية واقتصادية لعبتْ دوراً كبيراً في انهيارها منها:

تأثر الليرة السورية بثورات الجيران:

إنّ من صفات الاقتصاد أنّه لا يمكن أن ينفرد بحالة معينة دون أن يتأثر بما حوله من المتغيرات، فعندما كانت بعض الدول المجاورة تقاطع سورية بسبب فساد نظامها، بقيتْ بعض المنافذ مفتوحة يتنفّس منها النظام، فقد بقي لبنان غرباً والعراق شرقاً داعمَين للنظام السوري (وذلك تبعاً للتوغل الإيراني في البلدين ودعمه للنظام السوري) واليوم عندما اضطربت أوضاع لبنان واندلعت ثورته الرائعة، وتبعه العراق بثورة عظيمة أيضاً، تأزّمتْ الأوضاع الأمنية، وتخلخلتْ الركائز الاقتصادية في كلا البلدين، وأصبح اقتصادهما على حافة الانهيار، وأدّى ذلك إلى تأثر الليرة السورية بضعف الاقتصاد في العراق ولبنان الناتج عن قيام الثورتين فيهما. إضافة إلى محاولات قيام الثورة الإيرانية التي يكتمُ صوتها الإعلام الإيراني، وقد ضعضعتْ هذه الثورة النظام الاقتصادي في طهران أيضاً. 

عملية نبع السلام: 

لا شك إنّ لعملية "نبع السلام" أثر كبير في انهيار الليرة السورية، فالنجاح النسبي لهذه العمليّة وسيطرة الجيش الوطني السوري والجيش التركي على الشمال السوري وعلى بعض الآبار النفطيّة هناك ساهم في إغلاق الجسر البترولي الذي كانت تقوم به ميليشيات الوحدات الكردية pkk لدعم النظام السوري، فأدّى ذلك إلى شحٍّ في البترول والغاز الطبيعي تعاني منه دمشق، ممّا جعل النظام يعجز عن تعويض تلك الحاجة الضرورية، والتي تُعدّ العصب الرئيس للحياة والحركة في البلاد، لاسيما الحاجة الماسة للمحروقات اللازمة في فصل الشتاء.

الوحدات الكردية pkk:

أمّا المناطق الباقية التي تسيطر عليها الآن الوحدات الكرديّة والتي تنعم بالآبار النفطية فلدى الوحدات والنظام اتفاقية في التعاون بمدّ دمشق بالنفط والغاز، ومؤخراً قامت الوحدات بلعبة القبض والبسط فمرّة تدعمه ومرّة تتدلل وهذه العمليّة ساعدتْ في تفاقم المشكلة الاقتصادية في البلاد، وأزمة كبيرة في المحروقات في دمشق وحلب.

تململ روسيا من النظام:

على ما يبدو أنّ هناك قرارات سياسية جديدة ستظهر للعلن قريباً، تشير عزم موسكو التخلي عن رأس النظام السوري، وخاصة بعد الانفجار الثوري على النظام الإيراني في طهران وبغداد وبيروت، فموقف موسكو اليوم هو إيجاد بديل عن إيران والنظام بعد أن أثبتا فشلهما في القضاء على الثورة السورية وتشكيل حليف قوي لروسيا، وأظنّ أنّ الموقف الروسي هو اللاعب السياسي القوي في انهيار الليرة السورية. 

البنك المركزي السوري:

إنّ ما يُشاع اليوم إنّ المصرف المركزي السوري أعلن إفلاسه خبر بائت ومتأخر كثيراً، فالمصرف السوري أكل مخزونه من الذهب والعملة الأجنبية من سنوات، فكانتْ روسيا وإيران تضخان الحياة في المصارف والأسواق السوريّة، على الرغم من موتها السريري المؤكد سعياً في إحيائها، وعلى ما يبدو أنّهما وصلا إلى نهاية الطريق، فقد ظنّا أنّ المشكلة ستُحلّ في مدة قصيرة، ولكن عقداً من الزمن تقريباً أرهق كاهل المحتل، والظاهر أنّه سحب يديه من الاقتصاد السوري وأظهره على حقيقته.

التخلي عن العملة السورية:

إنّ الاحتضار الذي تعيشه الليرة السورية مؤخراً حيث وصل الدولار إلى (830) ليرة سورية دعا الكثير من الخبراء والاقتصاديين والمسؤولين والتجار في المناطق المحررة إلى دراسة بديل عن هذه العملة المتهالكة، والراجح أنّه سيكون هناك ترويج للعملة الأجنبية (كالدولار الأمريكي والليرة التركية) وبدعم من الحكومة السورية المؤقتة، وأظنّه خياراً صحيحاً لتفادي المزيد من الانهيارات الاقتصادية، ومساهمة لضرب نظام الأسد الاقتصادي، ولأنّ العملة التركية هي العملة السائدة (نسبياً) في المناطق المحررة، حيث تقوم تركيا بدفع المعاشات لكثير من القطاعات والبلديات بالعملة التركية، ولأن دعم الليرة السورية يُعدّ دعماً مباشراً لنظام بشار أسد، فهل المطلوب دعم الليرة التي يُقتل بها شعبنا؟! 

تجار دمشق وبيروت:

لقد قام تجّار دمشق عندما ضاقتْ عليهم الأحوال في سورية ومن بداية الثورة بنقل بعض أموالهم واستثماراتهم إلى لبنان، ومع قيام ثورة لبنان وتدهور الليرة اللبنانية قاموا بسحب الدولارات في سوريّة لدعم تجارتهم في بيروت، ممّا أدى إلى زيادة الطلب على العملة الصعبة في دمشق، فأدّى ذلك على ضرب الاقتصاد السوري. وبالمقابل أيضاً مع قيام الاضطرابات في لبنان قام تجّار لبنان بسحب الدولار من الأسواق السوريّة لدعم اقتصاد لبنان المتدهور فأدّى إلى نفس النتيجة. واليوم نسمع أن تجّار الحريقة في قلب دمشق يُعلنون إضراباً عاماً، فيغلقون متاجرهم نتيجة لارتفاع الأسعار والهبوط الحاد لليرة السورية، وعدم تفاعل حكومة النظام مع هذه الأزمة ومعالجتها.

ما يزال هناك العديد من العوامل التي ساعدت في موت سريري للعملة السورية، كفساد المسؤولين في دمشق، وعدم إيجاد الحلول الاقتصادية المناسبة، وقيام النظام بتعويم أوراق نقدية فئة 2000 ليرة التي ليس لها رصيد، إضافة إلى انعدام الثقة بين تجار النظام الداعمين له وبين شركائهم رؤساء الفروع الأمنية والمسؤولين، ما سيجعل هؤلاء التجار باللجوء إلى الخطة "ب" في الهروب بأموالهم خارج البلاد. 

إنّ حاجة دمشق اليوم إلى الأمن الحقيقي الذي يُريح التجارة والمستثمرين، إضافة إلى نزاهة المسؤولين، وإنهاء الحرب وعودة المهجّرين ورؤوس الأموال، وفتح الحدود للتجارة، كفيلة بإنعاش الاقتصاد في سورية، دون الحاجة إلى سياسة الاحتلال الماكرة، ولن يتم ذلك إلّا بولادة الحريّة في البلاد، التي لن تُكتب لها الحياة المرجوّة إلا بزوال رأس الإجرام والفساد بشار ونظامه، الذي جرّ البلاد إلى أحوال مأساوية للغاية، تحتاج لعقود لتقف ثانية على قدميها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين