المشروع الإيراني الصفوي في المنطقة العربية (1)

مثَّلت الثورة الخمينية انقلابًا تامًّا في واقع الشعب الفارسي وتاريخه المعاصر، ولم تقتصر نتائج هذه الثورة على تغيير الحكم وشكل النظام الإيراني من ملكي إلى جمهوري فقط، بل طالت كينونة النظام من العلماني إلى الديني المذهبي -الجعفري الاثني عشري- وَفق تفسير سياسي يتجاوز قضية الإمام الغائب إلى نظرية سياسية معدلة هي نظرية الولي الفقيه، جاء ذلك في كتاب الخميني "الجمهورية الإسلامية" إذ نصت المادة الثانية من الدستور الإيراني على أن "الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، والمذهب هو المذهب الجعفري الاثنا عشري، وهذه المادة إلى الأبد غير قابلة للتغيير"(1).

إن المتتبع لمسيرة الثورة الخمينية يلحظ بشكل واضح اعتماد هذه الثورة على القوة الناعمة والخشنة معًا، وفي مقدمتها القوة الدينية والمذهبية والتاريخية والسلوك الطائفي في مخاطبة الشعوب العربية والإسلامية، وكشفت أدبيات هذه الثورة عن رغبة إيرانية واضحة في تمثيل المسلمين وحكم العالم الإسلامي وفق نظرية الولي الفقيه؛ فالعرب والترك سبق لهم أن قادوا العالم الإسلامي وحان دور الفرس في هذه المرحلة لتسنم مركز القيادة، وبذلك أعادت إيران أمل التطلع إلى السلطة للفئات الشيعية السياسية في المنطقة العربية ولحركات إسلامية كانت في مرحلة صراع مع حكومات عربية قومية ويسارية حول صلاحية المرجعية الإسلامية لأنظمة الحكم، وخدعت كثيرًا من قيادات الحركات الإسلامية بخطاب الخميني الذي أظهر رغبة في الوحدة الإسلامية ونبذ الخلاف المذهبي بين المسلمين.

ورغم ذلك فقد أثار شعار تصدير الثورة خوفَ عدة دول عربية من تبعاتها على أنظمتها السياسية وتأثيرها السلبي على النسيج الاجتماعي العربي، وعزز هذا الخوف سعي إيران لاستقطاب الرموز الفكرية والدينية والنخب والطلاب، وتكوين مؤسسات متخصصة بهذا الشأن يشرف عليها المرشد الإيراني وتخضع لسلطته مباشرة وتعمل في المجالين المدني والعسكري، مهمتها نشر أفكار الثورة الإيرانية وشعاراتها مثل: مقاومة قوى الاستكبار والشيطان الأكبر، ومناصرة المظلومين، وتحرير فلسطين من اليهود.

ومن الملاحظ أنه بقدر ما شكل المشروع الإيراني عاملَ جذبٍ للحركات الشيعية العربية التي تدين للولي الفقيه من كحزب الله اللبناني وحركة أنصار الله اليمنية، ولبعض الحركات السنية مثل حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وبعض فروع وشخصيات الإخوان المسلمين؛ كانت نتائجه عكسية سلبية على علاقات إيران بالمجتمعات العربية وأنظمتها بعد انكشاف الوجه الطائفي لهذا المشروع الخطير(2).

لم تعد الاستراتيجية الإيرانية خفيَّةً رغم محاولاتِ إيران انتهاجَ سياسة مزدوجة ذات أبعاد متعددة؛ فطابعها الحداثي يقرُّ شكل الدولة القطرية، وفي الوقت ذاته تعمل على استعادة الإمبراطورية الفارسية ومكانتها في المنطقة من خلال صناعة ميليشيات عسكرية شيعية داخل الدول، مهمَّتُها العمل للسيطرة على الحكومات مع الإبقاء على شكل الدولة الصُّوْريِّ، وإدارةُ الدولة بواسطة أذرع طائفية تدين بالولاء للولي الفقيه الإيراني، الأمر الذي سيؤهل إيران للاضطلاع بدور إقليمي ودولي، وقد طبقت هذه الاستراتيجية في لبنان والعراق واليمن، والعمل جارٍ عليها في سورية.

يقوم مشروع إيران الإيديولوجي على كون إيران دولة متفردة قادرة على طرح بديل جديد عن أنظمة الحكم المختلفة، لا يتبع للغرب الديمقراطي ولا للشرق الشيوعي، وفكرة هذا التفرد لم يستمدها الخميني من الفقه الشيعي بل هي دائمة الحضور في الثقافة الفارسية المستبطنة للتاريخ، المعتقدة بتفرد الحضارة الإيرانية الفارسية، وهنا تأتي فكرة التشيع الصفوي بصفتها معزِّزةً للعصبية الفارسية وفقًا للنظرية الخلدونية التي تعد العمران والحضارة نتيجة التزاوج بين العصبية والفكرة، والعصبية هنا هي العرق الفارسي الآري بتاريخه الحضاري القديم، والفكرة هي التشيع الصفوي بنموذجه المعدل المسمى "نظرية الولي الفقيه".

المبحث الأول: توصيف المشروع الإيراني

أولًا: النظريات المحدِّدة للمشروع الإيراني

نظرية الولي الفقيه:

(لو قام الشخص الحائز لهاتين الخصلتين "العلم بالقانون والعدالة" بتأسيس الحكومة، تثبت له الولاية ذاتها التي كانت ثابتة للرسول الأكرم (ص)، ويجب على جميع الناس إطاعته؛ فتوَهُّمُ أنَّ صلاحيات النبي (ص) في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين (ع) وصلاحيات أمير المؤمنين (ع) أكثر من صلاحيات الفقيه هو توهُّمٌ خاطئ وباطل).

هذه الفقرة من كتاب "الحكومة الإسلامية" للخميني تدخل بنا مباشرة إلى ولاية الفقيه كما نظر إليها النراقي مستدلًا بأدلته مثل مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها، معتمدًا على قواعده الفكرية واجتهاداته التي أرساها بعد أن نفاه إلى العراق الشاه محمد رضا بهلوي سنة 1963م. 

إذًا الأدلةُ التي تدل على وجوب الإمامة هي الأدلة ذاتها التي تدل على وجوب ولاية الفقيه عنده, فهي أمور اعتبارية عقلانية توجد بالجعل والتبني والوضع الإنساني أيضًا, وذلك كجعل القيِّم للصغار, فالقيِّم على الأمة لا يختلف عن القيم على الصغار من ناحية الوظيفة(3)، والفقهاء هم ورثة الأنبياء وأمناء الرسل, وهم لم يرثوا العلم والحديث فقط كما هو ظاهر الروايات, فالولاية قابلة للانتقال والتوريث أيضًا(4).

وتعتقد الشيعة الاثنا عشرية المعاصرة أنَّ الولاية المطلقة للفقيه تجعل الفقيه ينتقل من الحكم الأَوَّلي إلى الحكم الثانوي في فترة معينة لإحاطته بالفقه والمصالح الإسلامية، ويعتقدون أيضًا أنَّ الحكم الثانوي قد يكون من الأحكام الإلهية نتيجةً للتنصيب الإلهي العام للولي الفقيه (5)؛ فجعل الخميني لنفسه الولاية على الأمة بوصفه ممثلًا للنيابة عن الإمام المطلق في فترة غيبته الكبرى، ومن حقِّه بل واجبه التدخل في كل شؤون الدول الإسلامية لما يمثله من الولاية العامة على المسلمين.

وعارضَ نظريةَ الولي الفقيه بعضُ الشيعة في لبنان أو من يطلق عليهم "مدرسة جبل عامل" لا سيما محمد حسين النائيني القائل بولاية الأمة على نفسها، وسار على نهجه محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله ثم محمد حسين الأمين وهاني فحص وغيرهما(6).

نظرية أمِّ القرى:

نظرية أم القرى لصاحبها محمد جواد لارجاني هي استعارة من الاسم الذي يطلق على مكة المكرمة، قال تعالى: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92]، وقد قيل: (إن مكة سميت "أمّ القُرى" لتقدُّمها أمامَ جميعِها، وجَمْعِها ما سواها)(7) ، فهل أراد لارجاني من ذلك قدسيةً ما لإيران، أم المركزية وتبعية من حولها لها، أم أراد الاثنين معًا؟

إن نظرية أم القرى -حسب هذا التصور- ترشح الجمهورية الإيرانية الشيعية بوصفها دولةً جمعت الشروط اللازمة لكي تصبح أم قرى العالم الإسلامي، وهي تعد نفسها بمنزلة «القلب المذهبي والدولة المركزية للعالم الشيعي والإسلام الصحيح"، ومن يمتلك القلب المذهبي الشيعي وفق الإمكانيات والموارد المتوفرة المتاحة لإيران اليوم ينبغي عليه السعي لتحقيق هدفه المذهبي النهائي، وهو التوسع لبناء الإمبراطورية الشيعية الموعودة لتكون نواة دولة المهدي الشيعي المنتظر الذي سينقذ العالم.

لا شك بأن إيران الدولة والثورة الخمينية تسعى للانتقال من فكرة أم القرى بإطارها النظري إلى بعدها الإجرائي، فمشروع «أم القرى» لن يتحقق إلا إذا تمت السيطرة على المجال الحيوي المطلوب، وبدونه لن تقوم دولة إيرانية مذهبية عظمى إقليميًّا، وقادة أم القرى في إيران يريدون توظيف الظروف والمتغيرات الإقليمية القائمة لتصبح من خلالها إيران قائدة للإقليم كله بما فيه من مصادر القوة الكامنة، وقد مهدت إيران لجمع (عقد أم القرى) بهدف إيجادِ مجالات داعمة لهذه القوة ولنظمِ عقدِ حباتها مذهبًا وجغرافيًّا؛ فالعالم الشيعي -بحكم هذه التطورات- يتجه لأن يصبح وحدة مذهبية شيعية وسياسية بعد أن يتحقق هدفه النهائي بتكوين الإمبراطورية الشيعية الموعودة(8).

العدد السادس من مجلة ( مقاربات) التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري

1 عبد الحليم خدام، التحالف السوري الإيراني والمنطقة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 2010، ص (55).

2 إبراهيم عبد الكريم وآخرون، مشاريع التغيير في المنطقة العربية ومستقبلها، مركز دراسات الشرق الأوسط، الأردن، الطبعة الأولى، 2012م، ص (44).

3 - الحكومة الإسلامية, الخميني، صادر عن مركز بقية الله, الطبعة الثالثة، ص (109).

4 - البيع، الخميني ص 92, الحكومة الإسلامية له، ص (150 – 151).

5- موقع سماحة آية الله مصباح اليزدي، نسخة محفوظة 05 مارس 2016 على موقع واي باك مشين.

6 - القوة الناعمة في المنطقة العربية (السعودية، تركيا، إيران)، مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات، الطبعة الأولى 2018، صفحة (205).

7 - تفسير الطبري، (1/108).

8 مقولات في الاستراتيجية الوطنية شرح نظرية أم القرى الشيعية، محمد جواد لارجاني، ترجمة نبيل عتوم، مركز العصر للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، لندن ص (9- 10) طبعة 2013م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين