مختارات من تفسير

 

{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]

السؤال الأول:

ما دلالة تكرار صفة: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [البقرة:18] بنفس الترتيب في القرآن؟ ولماذا اختلاف الخاتمة بين الآيتين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] و: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171] فى سورة البقرة ؟ 

الجواب:

1ـ صفة: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} تكررت مرتين بهذه الصيغة في القرآن في سورة البقرة في الآيتين( 18) و ( 171) وهي في المنافقين .

واعلم أنه لمّا كان المعلوم من حالهم أنهم يسمعون وينطقون ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة, فلم يبق إلا تشبيه حالهم لشدة تمسكهم بالعناد وإعراضهم عما يطرق سمعهم من القرآن وما يظهره الرسول صلى الله عليه وسلم من الأدلة والآيات بمن هو أصمُّ فلا يسمع, وإذا لم يسمع لم يتمكن من الجواب فلذلك جعله بمنزلة الأبكم , وإذا لم ينتفع بالأدلة ولم يبصر طريق الرشد فهو بمنزلة الأعمى.

2ـ في آية البقرة رقم (18) قال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ(17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ(18) }[البقرة:17-18] وهذه الآيات نزلت في المنافقين، والمنافقون الذين رأوا الإيمان وسمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كلام الله عز وجل وكان يُفترض أنهم تذوقوا شيئاً من الإيمان، عُرِض عليهم الإيمان ثم انتكسوا بعد ذلك، يعني أنهم تحولوا من الإيمان إلى الضلال، فإذن مَثَلُهم كمثل الذي استوقد ناراً، كأنه أُضيءَ أمامهم هذا الدين لكنهم لم ينتفعوا بذلك: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] أي: لا مجال لهم للرجوع إلى الهدى بعد أنْ باعوه، وعن الضلالة بعد أن اشتروها، ولا إلى النور الذي فقدوه؛ لأنهم نافقوا وطُبِع على قلوبهم والعياذ بالله فلا مجال للرجوع ؛ و لذلك استعمل كلمة: {لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] .

3ـ وفي الآية الثانية قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ(170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ(171)} [البقرة: 170 - 171] .

آ ـ هنا تكلّم عن آبائهم قال: {أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا}{البقرة:170} أي: أنّ آباءهم لا يعقلون، فالمناسب أنْ تختم الآية الثانية: {لَايَعْقِلُونَ} [البقرة:171] فكما أن آباءهم لا يعقلون هم لا يعقلون. 

ب ـ أنّ المثال الذي ضُرِب : {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171] يمثل صورتهم صورة هؤلاء وهم يُلقى عليهم كلام الله سبحانه وتعالى كمَثَلِ الذي ينعِقُ بما لا يسمع إلا دعاء، أي مثل مجموعة أغنام ينعق فيها الراعي؛ أي: يصيح فيها، وهذه الأغنام تسمع أصواتاً لكنها لا تستطيع أنْ تعقلها؛ لأنها لا تفهم , فكأنّ هؤلاء وهم يستمعون إلى كلام الله سبحانه وتعالى كالأغنام فناسب: {لَايَعْقِلُونَ} [البقرة:171].

ج ـ وفي آية آخرى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} [الأعراف:179] مثّلهم بهذا؛ لأنهم لا يعقلون كلام الله سبحانه وتعالى ولا يستعملون عقولهم في إدراكه؛ فجعلهم مثل الأغنام والبهائم؛ ولذلك هذه الصورة هي التي يناسبها كلمة: {لَايَعْقِلُونَ} [البقرة:171]. 

السؤال الثاني:

ما دلالة الواو في الآية: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:39] وفي البقرة لم يستخدم الواو {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] ؟ 

الجواب:

الأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا يتكلم.

1ـ في البقرة لمّا قال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18]هم في جماعة واحدة، وعندما تقول: هؤلاء شعراء فقهاء كتاب , فالصفات الثلاث موجودة في فئة واحدة , و عندما تقول : هؤلاء شعراء وفقهاء وكتاب , فيحتمل أنّ المجموعة فيها ثلاث فئات؛ ولذلك عندما قال : {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18] فالكلام في فئة واحدة.

2ـ وعندما قال: {صُمٌّ وَبُكْمٌ} [الأنعام:39] فهناك احتمالان :

آ ـ احتمال أنْ تكون جماعة واحدة وكلهم جميعاً صُمٌّ وبُكمٌ .

ب ـ واحتمال أنْ يكون جماعات متعددة , أي: قسم صُمُّ وقسم بٌكمٌ.

3ـ وذكر في القرآن من يتكلم ولا يبصر: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} [طه:125] فهو أعمى وليس أبكم.

السؤال الثالث:

لماذا هذه المغايرة بين آيتي البقرة (18) والأنعام (39) ؟

الجواب:

1ـ أنّ آية البقرة أشدّ؛ لأنها في جماعة واحدة فذكر العمى والصَّمَمَ والبكم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18] وقال أيضاً في الظلمات: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17] , بينما آية الأنعام أقلّ فلم يذكر العمى، وإنما قال: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:39] .

2ـ في البقرة الكلام عن المنافقين طويل في تسع آيات من الآية [8] إلى الآية [20] ووصفهم بصفات متعددة، فذكر الإفساد ومخادعة الله والذين آمنوا، والاستهزاء وشراء الضلالة بالهدى إضافة إلى صفة التكذيب, أمّا في الأنعام ففي آية واحدة فقط، وذكر فيها صفة التكذيب بالآيات، وهي صفة واحدة: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] .

فأيهما الأولى بالذمّ وكثرة الصفات السيئة؟ الذين في سورة البقرة الذين هم ليسوا جماعتين وإنما جماعة واحدة , وهؤلاء (صمٌّ بكمٌ عميٌ ) وهم (في الظلمات )، فلا يمكن من الناحية البيانية وضع إحداهما مكان الأخرى ولا يصح؛ فهذا قانون بياني بلاغي.

السؤال الرابع: 

ما دلالة الاختلاف في الترتيب بين آيتي البقرة [18] و [171] {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18] وآية الإسراء 97 : {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97] ؟

الجواب:

1ـ في آيتي البقرة كان الترتيب: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18] وفي الإسراء كان الترتيب {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97] مع وجود واو العطف بين الصفات في سورة الإسراء بخلاف سورة البقرة، فلا يوجد واو .

2ـ آيتا البقرة 18- 171 نزلتا في المنافقين الذين رأوا الإيمان ورأوا الرسول صلى الله عليه وسلم وعُرض عليهم الإيمان ثم انتكسوا وتحولوا إلى الضلال؛ لذلك مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً لكنهم لم ينتفعوا بذلك، وشرْعُ الله قُدّم إليهم منطوقاً لكنهم لم يستفيدوا مما سمعوه وكأنهم لم يشهدوه، علماً أنهم في الواقع شهدوه لكنهم لم ينظروا في آيات الله التي دُعوا للنظر فيها، فهم قد ابتعدوا عن الدين كثيراً لذلك استعمل معهم في ختام الآية: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] أي: لا يرجعون إلى النور الذي فقدوه.

وأما الآية 17، فهي تتحدث عن الظلمة، والمنافق كان في ظلمات فناسب: {لَا يُبْصِرٌونَ} [البقرة:17] .

3ـ آية الإسراء تتحدث عن أُناس في المحشر وليس في الدنيا: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [الإسراء:97] . 

وقد سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : «إنّ الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أنْ يمشيهم على وجوههم» .

وإذا كان وضع التائه أنّ وجهه في التراب فمعنى ذلك أنه لا يبصر, وعندما يفقد البصر يبدأ بالصراخ لعل أحداً يسمعه فيرشده , فإذا فقد الكلام أو كان أبكم عند ذلك يعتمد على أُذنيه لعله يسمع صوتاً فيتجه نحوه، وهذا هو الترتيب الطبيعي فجاءت الآية: {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97] .

4ـ السحب والوجه على التراب يفقد البصر أولاً، ثم يدخل التراب في فمه فيفقد الكلام، ثم يدخل التراب في أُذنيه فيفقد السمع.

5ـ الواو في آية الإسراء تفيد تكرار العامل، أي: نحشرهم عمياً، ونحشرهم صماً، ونحشرهم بكماً، فيكون فيها نوع من التميز لتركيز المعنى.

6ـ في آية البقرة 171 ، تكلم القرآن في الآية التي سبقتها عن آبائهم فقال تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] فناسب أن تختم الآية 171 {لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171] فكما أنّ آباءهم لا يعقلون فهم لا يعقلون أيضاً.

7ـ الآية 171 تمثل صورة هؤلاء الكفار وهم يُلقى عليهم كلام الله كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء، أي: كمجوعة أغنام والراعي يصيح فيها والأغنام تسمعه لكنها لا تفهم معانيه مهما صرخ فيها، وهذه الصورة لا يناسبها إلا (فهم لا يعقلون)؛ لأنه شبههم بالغنم التي تسمع أصواتاً ولا تدرك معناها، وهم يسمعون القرآن ولكنهم لا يفكرون فيه ولا يستخدمون عقولهم لفهمه مثل آبائهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] .

8 ـ قوله تعالى : {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18]؛ لأنهم صاروا بمنزلة الصُمِّ في أنّ الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه، وبمنزلة البُكمِ في أنهم لا يستجيبون لما دعوا إليه، وبمنزلة العُميِ من حيث أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها.

***

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين