حدث في الثامن عشر من ربيع الأول اقامة صلاة الجمعة بالجامع الأزهر بعد انقطاع

في الثامن عشر من ربيع الأول من سنة 665، أقيمت صلاة الجمعة بالجامع الأزهر بالقاهرة بعد أن انقطعت منذ أيام صلاح الدين الأيوبي لما يقارب مئة سنة، وكانت إعادة الجمعة بمساعي الأمير عز الدين أيدمر الحلي نائب السلطنة رحمه الله تعالى.

والجامع الأزهر هو أول مسجد جامع بني في القاهرة لما بناها القائد جوهر الصقلي سنة 359 في أيام المعز لدين الله الفاطمي، وكُتِبَ بدائر القبة في الرواق الأول، وهي على يمنة المحراب والمنبر، ما نصه بعد البسملة: مما أمر ببنائه عبد الله ووليه أبو تميم معد الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الأكرمين، على يد عبده جوهر الكاتب الصقلي، وذلك في سنة ستين وثلاثمائة.

وأول جمعة صليت في الأزهر كانت في السابع من رمضان سنة 361، وبعدها بسنة في رمضان 362 دخل المعز لدين الله القاهرة قادماً من إفريقية، وأصبحت القاهرة مقر ملكه وملك الفاطميين إلى آخر أيامهم، وتوفي المعز لدين الله، مَعْد بن إسماعيل، في سنة 365، وتولى بعد ابنه نزار الملقب بالعزيز بالله، فجدد به أشياء وعمر به عدة أماكن.

وبدأ التدريس المنهجي في الجامع الأزهر في سنة 378، فقد سأل الوزير أبو الفرج يعقوب بن كلس الخليفة أن يأذن له في أن يقيم بالمسجد جماعة من الفقهاء، فأذن له، فجعل لكل منهم راتباً، واشترى لهم دارا إلى جانب الجامع، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع وقرؤوا فيه دروس الفقه على المذهب الفاطمي، وكانوا نيفا وثلاثين فقيها، وكانت هناك حلقات تدريس مشابهة موجودة في جامع عمرو بن العاص بمصر القديمة.

وكان هذا قبل أن يعتني المسلمون بإنشاء المدارس مستقلة، حيث لم تكن تُعرف في زمن الصحابة ولا التابعين، ويقال إن أول مدرسة في الإسلام هي المدرسة البيهقية التي بناها أهل نيسابور بعد سنة 400، ولما أقام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب دولته في مصر، أقام بها مذهب الإمام الشافعي، ومذهب الإمام مالك، واقتدى بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، فإنه بنى بدمشق وحلب وأعمالهما عدة مدارس للشافعية والحنفية، وبنى لكل من الطائفتين مدرسة بمدينة مصر.

وتوقفت الخطبة بالجامع الأزهر تماماً في زمن صلاح الدين الأيوبي في سنة 567، وذلك بأمر من قاضي القضاة في مصر، الإمام أبو القاسم صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني الكردي الشافعي، المولود بالموصل سنة 516 والمتوفى بالقاهرة سنة 605، وكان صلاح الدين قد استدعاه فأتى إلى مصر سنة 565 فولاه قضاء الغربية ثم عينه قاضي القضاة في سنة 566، فعزل قضاة الفاطميين واستناب عنه قضاةً شافعيين، ومن حينئذ اشتُهِرَ مذهب الشافعي ومذهب مالك بديار مصر وتظاهر الناس بهما، واختفى مذهب الإسماعيلية، وبطل من حينئذ مجلس الدعوة بالجامع الأزهر وغيره، وكان ابن درباس من جلة العلماء وفضلائهم، وفي أقاربه وذريته جماعة فضلاء ورواة.

وأصدر صدر الدين ابن درباس أمره بإيقاف صلاة الجمعة في الجامع الأزهر وأقرها بالجامع الحاكمي لكونه أوسع، وذلك لأن المذهب الشافعي لا يرى إقامة خطبتين في بلد واحد لا يعسر الاجتماع فيه، وقد يكون ذلك ضمن خطة صلاح الدين للقضاء على المذهب الفاطمي في مصر، والتي كان إنشاء المدارس أحد عناصرها، وإن كان التدريس في الجامع الأزهر بقي مستمراً رغم انقطاع الجمعة، ولكن أهميته تراجعت، إلى أن عادت الجمعة إليه في هذا اليوم الذي نحن بصدده.

وعادت الجمعة إلى الجامع الأزهر على يد الأمير عز الدين أيدمر الحلي الصالحي النجمي، والحِلِّيّ نسبة إلى تاجر كبير هو نجم الدين ابن الحلي، أحمد بن علي المتوفى سنة 680، وكان أيدمر من أكبر أمراء الظاهر بيبرس وأعظمهم محلاً، وكان ينوب عنه في السلطنة بمصر إذا غاب السلطان، لوثوقه به، واعتماده عليه، وتوفي عن قرابة ستين سنة في دمشق سنة 667 وكان مع الظاهر بيبرس، وخلف من الأموال والخيل والبغال والجمال والعدة فيقصر الوصف عنه، ودفن في بتربته بجوار مسجد الأمير جمال الدين موسى بن يغمور.

وكان الأمير أيدمر قد سكن في جوار الجامع لسنين عديدة، فأكرمه الله بأن يكون على يديه إحياء هذا الصرح الإسلامي العظيم، فخاطب الظاهر بيبرس في أن يأذن له بترميم الجامع الأزهر وإحيائه، وأبدى استعداده للقيام بما يتطلبه ذلك من مال وإشراف، فأذن له الظاهر بيبرس وأطلق له جملة من المال لذلك، فشرع الأمير عز الدين في ترميمه وإحيائه، وتبرع بمقدار كبير من ماله لعمارته، وانتزع أجزاءً من أوقافه كان بعض الناس قد اغتصبها، ثم عمر الواهي من أركانه وجدرانه وبيضه، وأصلح سقوفه، وبلطه وفرشه وكساه، واستجد به مقصورة حسنة.

وشارك في هذا المشروع الأمير بدر الدين بيليك الخازندار الظاهري فعمل في الأزهر مقصورة كبيرة ورتب فيها مدرسا وجماعة من الفقهاء الشافعية، ورتب فيها محدثا يُسمِع الحديثَ النبوي والرقائق، وسبعة قراء لقراءة القرآن.

ولم يكتف الأمير عز الدين بالإنفاق على ترميم الجامع وإنعاشه، بل وقف هو والأمير بدر الدين على ذلك أوقافا ليستمر الأزهر في أداء رسالته.

وتولى الخطابة في الجامع الأزهر الفقيه زين الدين أدريس بن صالح بن وهيب المصري القليوبي، واستمر به مدة 16 عاماً إلى أن توفي سنة 681 عن 63 عاماً، وكان إمام مدرسة سيف الاسلام طغتكين بن أيوب أخي صلاح الدين، وكان زين الدين إمام المدرسة منذ سنة 537، واتصل بخدمة الأمير عز الدين فسعى في تعيينه خطيباً للأزهر، وكان شديد السواد ذا تصون وحشمة، رحمه الله تعالى.

ولم تتم إقامة الجمعة في الأزهر دون اختلاف في وجهات النظر، فقد تنازع الناس في هل تصح إقامة الجمعة فيه أم لا، فقد رفض ذلك جماعة على رأسهم قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن خلف المعروف بابن بنت الأعز المولود سنة 614 والمتوفى في ذات السنة: سنة 665، وكانت له حرمة وافرة عند الملك الظاهر بيبرس، لما يتمتع به من ذهن ثاقب، وحدس صائب، وسعد وعزم مع النزاهة المفرطة، والصلابة في الدين، وحسن الطريقة، والتثبت في الأحكام، وتولية الأكفاء، وكان لا يراعي أحداً ولا يداهنه، ولا يقبل شهادة مريب.

وأجاز ذلك جماعة من الفقهاء، وأعدَّ الأمير عز الدين كتاب فتوى أخذ فيه خطوط العلماء بجواز الجمعة في هذا الجامع وإقامتها، ومنهم القاضي الحنبلي شمس الدين محمد بن الشيخ عماد الدين إبراهيم المقدسي الحنبلي، وشكا الأمير عز الدين ذلك الموقف إلى الظاهر بيبرس، فراجع فيه قاضي القضاة فصمم على المنع، فاستند الأمير إلى فتوى من أجاز ذلك وأقام الجمعة في الأزهر، وسأل السلطان أن يحضر فامتنع من الحضور ما لم يحضر قاضي القضاة، فكان أن أقيمت الجمعة في غياب الظاهر بيبرس ولكن حضرها كبار رجال الدولة فحضر أتابك السلطنة الأمير فارس الدين آقطاي المستعرب، والوزير بهاء الدين ابن حنا وعدد من الأمراء والفقهاء وعامة الناس، ولما فرغ من الجمعة جلس الأمير عز الدين الحلي والأتابك والوزير وقُرئ القرأن ودعي للسلطان، ثم قام الأمير عز الدين ودعا الفقهاء والأمراء إلى مأدبة في داره، وكان يوم جمعة مشهوداً، واستمرت صلاة الجمعة في الأزهر ووجد الناس به رفقاً وراحة لقربه من الحارات البعيدة من الجامع الحاكمي.

وهكذا عادت للأزهر مكانته في ظل دولة تتبنى المذهب السني، واهتم به ملوك مصر اهتماماً بالغاً فأصبح محجاً علمياً يقصده طلبة العلم من مشارق البلاد ومغاربها، وزاد في أهميته أن الاجتياح المغولي لبلاد الإسلام في الشرق دمر معاهد التعليم وقضى على العلماء وشردهم، وكذلك تعرض الإسلام في الأندلس والمغرب لضربات قاصمة واضطرابات داخلية ذهبت معها ريح علومه وكسفت شمس معارفه، فلم يبق إلا الأزهر يجمع العلماء ويأرز إليه طلبة العلم، ولم تتأثر مكانته العلمية باستيلاء العثمانيين على مصر، ولم ينقلوا علماءه إلى الآستانة، مثلما فعلوا بأرباب الحرف والصناعة، فقد كان اهتمام سلاطين بني عثمان منصباً في الدرجة الأولى على النواحي السلطانية والعسكرية، وكان لهم في طبقة فقهائهم ما يغنيهم عن ذلك.

وينبغي أن نذكر أنه في زمن الفاطميين كانت صلاة الجمعة وخطبتها تتم وفقاً لمراسم وترتيبات واحتياطات أمنية بالغة الدقة والتفاصيل، وكانت لا تقام في القاهرة إلا في الأزهر، وكان الخليفة هو الذي يخطب الجمعة، وكان يخطب في جامع عمرو بن العاص جمعة، وفي جامع ابن طولون جمعة، وفي الجامع الأزهر جمعة، ويستريح جمعة، وكانوا يسمونها جمعة الراحة، حتى بدأ العزيز بالله الفاطمي في بناء جامع خارج باب الفتوح أحد أبواب القاهرة في سنة 379، وخطب فيه في رمضان سنة 381، ثم أكمله ابنه الحاكم بأمر الله في سنة 393 مع توسعة لسور القاهرة فصار داخلها، وأُطلِقَ عليه الجامع الحاكمي، وصار الخليفة يخطب فيه دون المساجد الأخرى، وكأن الفاطميين قد تساهلوا فسمحوا بإقامة الجمع في الجامع الأزهر بالتوازي مع الجامع الحاكمي، وبقي هذا إلى أن جاء صلاح الدين فأبطله.

ولم يكن التجديد الذي قام به الأمير عز الدين أيدمر أول تجديد للجامع الأزهر منذ أن بناه القائد جوهر الصقلي في سنة 361، فقد جدده الحاكم بأمر الله الفاطمي في فترة حكمه التي امتدت من سنة 386 إلى سنة 411، وجعل فيه تنورين فضة وسبعة وعشرين قنديلا فضة، وكان في محرابه حزام من فضة، كما كان في محراب جامع عمرو بن العاص، فقلعت في زمن صلاح الدين الأيوبي لكونها تتضمن ذكر الخلفاء الفاطميين، فجاء وزنها خمسة آلاف درهم، وتعادل 12 كيلوغراماً.

ووقف الحاكم بأمر الله على الجامع الأزهر وجامع عمرو والجامع الحاكمي ودار العلم بالقاهرة عقارات بمصر، وأثبت ذلك في كتاب لدى قاضي القضاة مالك بن سعيد بن مالك الفارقي، ونورد بعضاً مما جاء فيه بعد تعداد العقارات ووصفها:

... بحدود ذلك كله، وأرضه وبنائه وسفله وعلوه وغرفه ومرتفقاته وحوانيته وساحاته وطرقه وممراته ومجاري مياهه، وكل حق هو له داخل فيه وخارج عنه، وجعل ذلك كله صدقة موقوفة محرمة محبسة بتةً بتة، لا يجوز بيعها ولا هبتها ولا تمليكها، باقية على شروطها، جارية على سبلها المعروفة في هذا الكتاب، لا يوهنها تقادم السنين، ولا تغير بحدوث حدث، ولا يستثنى فيها ولا يتأول، ولا يستفتي بتجدد تحبيسها مدى الأوقات ، وتستمر شروطها على اختلاف الحالات حتى يرث الله الأرض والسموات، على أن يؤجِّرَ ذلك في كل عصر من ينتهي إليه ولايتها ويرجع إليه أمرها، بعد مراقبة الله واجتلاب ما يوفر منفعتها من إشهارها عند ذوي الرغبة في إجارة أمثالها، فيبتدأ من ذلك بعمارة ذلك على حسب المصلحة وبقاء العين ومرمَّته من غير إجحاف بما حبس ذلك عليه.

ثم عدَّد الكتاب تفصيلاً أبواب الإنفاق وأورد بعضها فيما يلي: من ذلك للخطيب بهذا الجامع أربعة وثمانون ديناراً، ومن ذلك لثمن ألف ذراع حُصُر عبدانية تكون عدة له بحيث لا ينقطع من حصره عند الحاجة إلى ذلك، ومن ذلك لثمن ثلاثة عشر ألف ذراع حصر مظفورة لكسوة هذا الجامع في كل سنة عند الحاجة إليها مئة دينار واحدة وثمانية دنانير، ومن ذلك لثمن ثلاثة قناطير زجاج وفراخها اثنا عشر ديناراً ونصف وربع دينار، ومن ذلك لثمن عود هندي للبخور في شهر رمضان وأيام الجُمع، مع ثمن الكافور والمسك،وأجرة الصانع خمسة عشر ديناراً ... ومن ذلك قنطارين خرقاً لمسح القناديل نصف دينار، ومن ذلك لثمن عشر قفاف للخدمة وعشرة أرطال قنب لتعليق القناديل ولثمن مائتين مكنسة لكنس هذا الجامع دينار واحد وربع دينار ... ومن ذلك لثمن زيت وقود هذا الجامع راتب السنة ألف رطل ومائتا رطل مع أجرة الحمل سبعة وثلاثون ديناراً ونصف ... ومن ذلك لثمن مائة وثمانين حمل تبن ونصف حمل جارية لعلف رأسيّ بقر لنزح الماء الذي لهذا الجامع ثمانية دنانير ونصف وثلث دينار، ومن ذلك للتبن لمخزن يوضع فيه بالقاهرة أربعة دنانير، ومن ذلك لثمن فدانين قرط لتربيع رأسي البقر المذكورين في السنة سبعة دنانير، ومن ذلك لأجرة متولي العلف وأجرة السَّقاء والحبَّال والقواديس وما يجري مجرى ذلك خمسة عشر ديناراً ونصف ... ثم ذكر أن في الجامع الأزهر تنورين من الفضة وسبعة وعشرين قنديلاً، وشرط أن تعلق في شهر رمضان وتعاد إلى مكان جرت عادتها أن تحفظ به، وشرط شروطاً كثيرة أخرى.

وجدد في الأزهر كذلك المستنصر بالله الفاطمي في فترة حكمه التي امتدت من سنة 427 إلى سنة 487، وجدده الحافظ لدين الله الفاطمي في فترة حكمه التي امتدت من سنة 524 إلى سنة 544، وأنشأ فيه مقصورة لطيفة بجوار الباب الغربي الذي في مقدم الجامع بداخل الرواقات، عرفت بمقصورة فاطمة، من أجل أن فاطمة الزهراء رضي الله عنها رؤيت بها في المنام!

وتورد كتب التاريخ أن بالجامع الأزهر طلسماً، فلا يسكنه عصفور، ولا يفرخ به، وكذا سائر الطيور من الحمام واليمام وغيره، وهو صورة ثلاثة طيور منقوشة، كل صورة على رأس عمود، فمنها صورتان في مقدم الجامع بالرواق الخامس، منهما صورة في الجهة الغربية في العمود، وصورة في أحد العمودين اللذين على يسار من استقبل سدة المؤذنين، والصورة الأخرى في الصحن في الأعمدة القبلية مما يلي الشرقية. والعجيب أن من أورد هذه الرواية من المؤرخين لم يمحصها أو ينقدها، ومنهم من هو من أهل مصر، ويرى خلاف ذلك في الأزهر صباح مساء.

حفظ الله الأزهر وعلماءه ونفع بهم البلاد والعباد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين