التنطُّعُ في السؤال مَذمَّة

عن أبي ثعلبة الخُشَني رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنَّ الله فرض فرائضَ فلا تُضيِّعوها، وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها) حديث حسن رواه الدار قطنيُّ وغيره.

المعنى: 

قسم هذا الحديث أحكام الله تعالى أربعة أقسام: 

فرائض، ومحارم، وحدود، ومسكوت عنه، وذلك يجمع أحكام الدين كلها.

قال أبو بكر السمعاني: هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين وفروعه، ثم قال: من عمل بهذا الحديث فقد حاز الثواب وأمن من العقاب، لأنَّ من أدَّى الفرائض واجتنب المحارم ووقف عند الحدود وترك البحث عما غاب عنه، فقد استوفى أقسام الفضل، وأوفى حقوق الدين؛ لأنَّ الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث.

فأما الفرائض فهي ما فرضه الله تعالى عباده وألزمهم القيام به، كالصلاة والزكاة والصيام والحج.

وأما المحارم: فهي التي حماها الله تعالى ومنع من قربانها وارتكابها وانتهاكها.

والمحرمات المقطوع بها مذكورة في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151]. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} إلى قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].

وأما السنة ففيها ذكر كثير من المحرمات، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل مسكر حرام)، وقوله: (إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)

فما ورد التصريح بتحريمه في الكتاب والسنة فهو محرَّم.

وقد يُستفاد التحريم من النهي مع الوعيد والتشديد كما في قوله عزَّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ(91)}. [المائدة].

وأما حدود الله تعالى التي نهى عن اعتدائها: فالمراد بها جملة ما أَذِن في فعله سواء كان على طريق الوجوب أو الندب أو الإباحة.

واعتداؤها هو تجاوز ذلك إلى ارتكاب ما نهى عنه كما قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229]. 

وروى النَّوَّاسُ بْنُ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيّ - رضي الله عنه - فيما أخرجه الإمام أحمد والنسائي عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا، وَلَا تَتَعَرَّجُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي مِنِ فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ".

فضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مَثَل الإسلام في هذا الحديث بصراط مستقيم وهو الطريق السهل الواسع الموصل سالكه إلى مطلوبه، وهو مع هذا مستقيم لا عوج فيه، فيقتضي ذلك قربه وسهولته، وعلى جنبيَ الصراط يَمنة ويسرة سوران وهما حدود الله، وكما أنَّ السور يمنع من كان داخله من تعديه ومجاوزته، فكذلك الإسلام يمنع من دخل فيه من الخروج عن حدوده ومجاوزتها، وليس وراء ما حدَّ الله تعالى من المأذون فيه إلا ما نهى عنه.

ولهذا مدح سبحانه الحافظين لحدوده، وذمَّ من لا يعرف حدَّ الحلال من الحرام، كما قال تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97].

وقد تُطلق الحدود ويُراد بها نفس المحارم، وحينئذ يُقال: لا تقربوا حدود الله كما قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187]. والمراد: النهي عن ارتكاب ما نهي عنه في الآية من محظورات الصيام والاعتكاف في المساجد، ومن هذا المعنى وهو تسمية المحارم حدوداً قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها كمثل قوم اقتسموا سفينة...) الحديث المشهور، وأراد بالقائم على حدود الله تعالى المنكِر للمحرمات والناهي عنها.

وقد تسمَّى العقوبات المقدَّرة الرادعة عن المحارم المغلظة حدوداً، كما يقال: حدُّ الزنا وحدُّ السرقة، وحد شرب الخمر.

ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأسامة رضي الله عنه: (أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟) يعني: في القطع في السرقة، وهذا هو المعروف من أسماء الحدود في اصطلاح الفقهاء.

وأما المسكوت عنه: فهو ما لم يُذكر حكمه بتحليل ولا إيجاب ولا تحريم، فيكون معفواً عنه لا حرج على فاعله، وعلى هذا دلَّت الأحاديث كحديث أبي ثعلبة وغيره.

فإذا نصَّ الشارع صلى الله عليه وآله وسلم على حكم في شيء لمعنى من المعاني، وكان ذلك المعنى موجوداً في غيره، فإنه يتعدَّى الحكم إلى كلِّ ما وجد في ذلك المعنى عند جمهور العلماء، وهو من باب العدل والميزان الذي أنزله الله وأمر بالاعتبار به، فهذا كله مما يعرف به دلالة النصوص على التحليل والتحريم.

فأما ما انتفى فيه ذلك كله فهنا يستدل بعدم ذكره بإيجاب أو تحريم على أنَّه معفو عنه.

وههنا مسلكان: أحدهما أن يقال لا إيجاب ولا تحريم إلا بالشرع، وما لم يوجب الشرع شيئاً ولم يحرمه فيكون غير واجب أو غير محرَّم، كما يقال مثل هذا في الاستدلال على نفي وجوب الوتر والأضحية، ولا يصحُّ هذا الاستدلال إلا لمن عرف أنواع أدلة الشرع وسيرها.

والمسلك الثاني: أن يذكر من أدلة الشرع العامَّة ما يدلُّ على ما لم يوجبه الشرع ولم يحرمه، فإنَّه معفو عنه، كحديث أبي ثعلبة هذا، وما في معناه من الأحاديث، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن الحج أفي كل عام؟ فقال: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).

وقد دلَّ القرآن الكريم على مثل هذا أيضاً في مواضع كقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا...} [الأنعام:145] فهذا يدل على أنَّ ما لم يوجد تحريمه فليس بمحرَّم، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [الأنعام:119]. فعنَّفهم على ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه مُعلَّلاً بأنَّه قد بيَّن لهم الحرام وهذا ليس منه، فدلَّ على أنَّ الأشياء على الإباحة وإلا لما لحق اللوم بمن امتنع من الأكل مما لم ينصَّ له على حكمه بمجرد كونه لم ينصَّ على تحريمه.

فإذا ما اشتبه الأمر لم يجب السؤال والبحث عنه، كما قال ابن عمر رضي الله عنه لما سئل عن الجبن الذي تصنعه المجوس، فقال: ما وجدته في سوق المسلمين اشتريتُه ولم أسألْ عنه.

وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (أنَّ قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّ قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوا، قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر).

وسئل الإمام أحمد عن لبس ما يصنعه الكفار أهل الكتاب من غير غسل فقال: لمَ تسأل عما لم تعلم؟ لم يزل الناس منذ أدركناهم لا ينكرون ذلك.

وروي من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهدي إليه خُفَّانِ فلبسهما، ولا يدري أذُكِّيا أم لا.

وقوله في الحديث: (فلا تبحثوا عنها) يحتمل اختصاص هذا النهي بزمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّ كثرة البحث والسؤال عمَّا لم يُذكر قد يكون سبباً لنزول التشديد فيه بإيجاب أو تحريم.

وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يدلُّ على هذا، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه مسلم في صحيحه: (إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرماً من سأل عن شيء لم يحرَّم فحُرِّم من أجلِ مسألته).

ويحتمل أن يكون النهي عاماً والمروي عن سلمان فيما أخرجه الترمذي يدل على ذلك وهو قوله: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّمْنِ، وَالْجُبْنِ، وَالْفِرَاءِ قَالَ: «الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ، فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ».

والفراء بالفتح هنا حمار الوحش، فإنَّ كثرة البحث والسؤال عن حكم ما لم يذكر في الواجبات ولا في المحرمات قد يوجب اعتقاد تحريمه أو إيجابه لمشابهته لبعض الواجبات أو المحرمات، فقبول العافية فيه وترك البحث عنه والسؤال خير، وقد يدخل في ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (هلك المتنطِّعون)، قالها ثلاثاً. فيما رواه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه (والمتنطِّع هو المتعمِّق البحَّاث عما لا يَعنيه).

وقوله في الحديث: (سكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان) يعني أنَّه إنما سكت عن ذكرِها رحمةً بعبادة ورفقاً، حيث لم يحرِّمها عليهم حتى يُعاقبهم على فعلها، ولم يوجبها عليهم حتى يعاقبهم على تركها، بل جعلها عفواً، فإن فعلوها فلا حرج عليهم، وإن تركوها فكذلك.

فقه الحديث:

1 – إنَّ الله سبحانه وتعالى قد أكمل دينَه وأتمَّ نعمته على المؤمنين بما أنزله من القرآن على خاتم رسله، وبما قام به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أكمل القيام من بيان مراد الله تعالى من تنزيله، فهذه مسألة قطعية ثابتة بالنقل والعقل، فقد قال تعالى:{اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3].

2 – إنَّ هذا الدين يسر، قد رفع الله تعالى فيه الحرج كما نطق به في قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ }[المائدة:6]. وقال تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8]. أي: الشريعة التي تفضُل غيرها باليسر، ولذلك سمَّاها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالحنيفية السمحة، ووصفها بقوله ليلها كنهارها، وجعل الدين عين اليسر مُبالغة في يسره فقال: (إنَّ هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه) رواه البخاري، وروى الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وآله وسلم (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا).

3 – إنَّ القرآن الحكيم هو أصل الدين وأساسه، وقد قال تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } [النحل:89].

وأما الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو المبلِّغ له، والمبين لمراد الله تعالى مما جاء فيه مجملاً، قال تعالى مخاطباً له: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا البَلَاغُ} [الشُّورى:48]. وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].

4- إنَّ الرسول صلوات الله عليه معصوم من الخطأ فيما يبلِّغه عن الله عزَّ وجل، وفيما يبيِّنُه للناس من أمر دينهم.

5 – إنَّ الله تعالى قد فوَّض إلى المسلمين أمور دنياهم الفرديَّة والمشتركة، الخاصَّة والعامة، بشرط أن لا تجني دنياهم على دينهم وهدى شريعتهم، فجعل الأصل في الأشياء الإباحة، بمثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]. وقوله:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13].

وجعل أمور سياسة الأمَّة وحكومتها شورى، إذ قال في وصف المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } [الشُّورى:38].

وأمرهم بطاعة أولي الأمر – وهم أهل الحل والعقد ورجال الشورى – بالتبع لطاعة الله ورسوله، وأرشد إلى ردِّ الأمن والخوف المتعلقة بالسياسة والحرب والإدارة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أولي الأمر.

وآتى هذه الأمَّة الميزان مع القرآن كما آتاه الأنبياء من قبل، والميزان ما يقوم به العدل والمساواة في الأحكام من الدلائل والبينات التي يستخرجها أهل العلم والبصيرة باجتهادهم في تطبيق الأقضية على النصِّ والعدل والمصلحة.

6 – إنَّ الله تعالى جعل الإسلام صراطه المستقيم لتكميل البشر في أمورهم الروحية والجسدية، ليكون وسيلة للسعادة الدنيوية والأخروية، ولما كانت الأمور الروحية التي تنالُ بها سعادة الآخرة من العقائد والعبادات لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، أتمها الله تعالى وأكملها أصولاً وفروعاً، وقد أحاطت بها النصوص، فليس لبشر بعد الرسول أن يزيد فيها، ولا أن ينقص منها شيئاً.

وأما الأمور الدنيويَّة من قضائيَّة وسياسية فلما كانت تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة بَيَّن الإسلام أهم أصولها وما مَسَّت إليه الحاجة في عصر التنزيل من فروعها، وكان من إعجاز هذا الدين وكماله أنَّ ما جاءت به النصوص من ذلك يتفق مع مصالح البشر في كل زمان ومكان، ويهدي أولي الأمر إلى أقوم الطرق لإقامة الميزان.

مَنْ تَدَبَّر ما تقدَّم ظهر له حكمة ما كان من كراهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكثرة سؤال المؤمنين له عن المسائل التي تقتضي أجوبتها كثرة الأحكام والتشديد في الدين، أو بيان أحكام دنيوية ربما توافق ذلك العصر ولا توافق مصالح البشر بعده.

وأشد من ذلك إنكاراً كثرة السؤال والبحث عن أمور غيبية ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحسِّ، كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الروح، وعن مدَّة هذه الأمَّة، إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف، والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان به من غير بحث.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟).

فمن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله محافظاً على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه وعن معاني السنة وما دلَّت عليه كذلك، مُقتصراً على ما يصلح للحجة منها فإنَّه الذي يحمد وينتفع به.

فإنَّ الاختلاف يجرُّ إلى عدم الانقياد، وفي هذا هلاك للأمَّة وتفريق لوحدتها وتمزيق لجماعتها.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد الرابع، السنة السابعة، 1372،1953 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين