نظرة جديدة في معنى الآخرة

قالوا: ما الآخرة؟

قلت: قد ضل الناس في إدراكها ضلالا كبيرا، وأكبر الضلال عند الهندوس وسائر الكفار والمشركين، ثم اليهود والنصارى، وما خطأ طوائف المسلمين في التوصل إلى حقيقتها خفيفا.

قالوا: أمط اللثام عن خطأ تلك الطوائف في كلمات واضحات.

قلت: إنها تطلق الآخرة على مكان تجريدي، وزمان تجريدي مبتوتين عن الدنيا وسائر ما يتصل بها، ومنقطعين عنها انقطاعا، فمثلاً طوّر الصوفية فكرة ترك الدنيا متخذيها وسيلة لصد الناس عن عمارة الأرض عائبيها وثالبيها، وتستغل السلطات الدينية والسياسية هذه النظرة الحالكة المنحرفة لتتحكم من خلالها في عقول عامة البشر وتقصيهم عن حمل أعباء الخلافة وأداء الأمانة، وترضيهم بما جنت من فرض أوضاع الحياة الدنيوية الظالمة الغاشمة عليهم، فلا يشكوا منها ولا ينتهضوا لمواجهتها أو محاربتها، متشائمين ومضيعين لملكاتهم وقدراتهم التي أودعهم ربهم إياها إيداعا.

قالوا: ما الذي استنكرت من مذهب ترك الدنيا، وهو قول صحيح، فيه تفضيل للباقية على الفانية، وقد قال تعالى "وللآخرة خير لك من الأولى"؟

قلت: أسأتم فهم معنى الآية إساءة كبيرة، لا تنص الآية على تناقض بين الأولى والآخرة، ولكنها تهدي إلى حقيقة كبرى، وهي منع الناس من الانشغال بالوسيلة عن الهدف، فالآخرة هي الغاية المقصودة والهدف الأسمى، والدنيا هي السبب إلى تحقيق تلك الغاية والتوصل إلى ذلك الهدف، ولن يكسب الناس الفوز في الآخرة إلا من خلال العمل في الدنيا وحمل أعباء خلافة الأرض وأداء الأمانة الإلهية فيها، فالنسبة بين الدنيا والآخرة هي النسبة بين الوسيلة والغاية، لا نسبة التباين والتنافي.

قالوا: فما ترى في الأعلام الكبار الذين توحي كتاباتهم بالتنافي بين الدنيا والآخرة ويستحثون الأنام على الزهد في الدنيا؟

قلت: إن الزهد مطلوب ومأمور به، ومعناه أن لا تكون الدنيا أكبر همنا، وأما فكرة التنافي بين الدنيا والآخرة فهي غير مطابقة للطبيعة الإسلامية التي دلت عليها نصوص القرآن والسنة؟ انظروا على سبيل المثال إلى الحديث المشهور الذي أخرجه أحمد وغيره بإسناد صحيح عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلةٌ، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها.

قالوا: ما معنى الحديث؟

قلت: إن معنى الحديث منسجم مع تعاليم القرآن والسنة انسجاما تاما، وهو أن الدنيا محل زرع الحسنات، فإذا وجد الإنسان فسحة من عمره ليباشر حسنة فليعملها فإنه يثاب على نيته وما استطاع من عمل، ولا ينبغي أن يدع الحسنة مخافة أن لا يتمها، ومما ينبغي أن ينتبه إليه أن الحديث يأمر بإتمام حسنة يظنها كثير من الناس شأنا دنيويا محضا، ولا يأمر بأن يتخلى الإنسان عنها ويقبل على الركوع أو السجود أو التوبة والدعاء مع أن الدنيا على وشك الانتهاء.

وقلت: لو كان معنى الزهد ترك الدنيا بأسرها لما كان إذًا معنى للتفريق بين الحلال والحرام، فإذا درستم تفاصيل الحلال والحرام في هذا الدين دراسة واعية وجدتم أن الدعوة إلى الترك تتعارض مع تعاليم الإسلام تعارضا واضحًا.

قالوا: فما خلاصة التعليم الإسلامي عن الآخرة؟

قلت: إن الآخرة هي دارنا الخالدة التي نصير إليها، نثاب فيها على حسناتنا وسيئاتنا التي عملناها في الدنيا، ونُجزى الجزاء الأوفى: إما رضى الله أو سخطه، وإما الجنة أو النار، وإن الإيمان بالآخرة يملأ القلوب إجلالا لربها وإطاعة له فيما أمر وفيما نهى، ففكرة التنافي بين الدنيا والآخرة ليست من هذا الدين في شيء، بل الذي يتطابق مع طبيعة الإسلام هو أن نجعل الآخرة وجهة أعمالنا في الدنيا، فلا نسعى لإنجاز واجب من واجباتنا في هذه الحياة إلا بالنظر إلى نتائجه وثماره المرجوة في الآخرة، الأمر الذي ينمي ملكات الإنسان، ويجعله أقدر على العمل وأكثر احتمالا للمسؤولية وأصلح لمواجهة الشدائد ومعالجة الصعاب والإتيان بعظائم الأمور التي تنفع الناس في الدنيا والآخرة.

قالوا: فما عاقبة الكفر بالآخرة؟

قلت: أسوأها أننا نتجاهل أم الحقائق ونتغافل عنها فلن نستعد لها، وإذن سنواجه – لا قدر الله – خسرانا مبينا في شكل غضب الله والعذاب الأليم الذي لا مرد له، وليس لمخلوق في هذا الإنكار على الله حجة، وليس له من حجة الله عليه مخرج، فويل لمن تكثر بدار البلى، وتنافس في جمع المال الحطام، وويل لمن عشق دار الفناء وأغمض عينيه عن دار البقاء، ما أشقى من كفر بمصيره جنة أو نارا، وما أتعس من لم تحنَّ نفسه إلى ربه جارا.

قالوا: وهل لهذا الكفر بالآخرة مغبة في الدنيا؟

قلت: نعم، إن الكفر بالآخرة إفساد للدنيا، وتدنيس لبواعث العمل والتحرك، فلن يكون قيامنا بمسؤولياتنا إلا على أساس غرض تافه زائل من نفع مادي اقتصادي أو فائدة اجتماعية سياسية، وبما أن النظرات البشرية ضيقة ومقصورة على مصالح قصيرة المدى فإنها تؤدي إلى شقاء النفس وخبثها وخراب هذه الدار ودمارها، ومن الشواهد على ذلك الأزمات الظاهرة في المناخ وتلوث البيئة والفساد في الأرض بشتى أنواعه.

قلت: وإذا تمكن حب المتاع الزائل والنفع العاجل من الإنسان كان عبدا للدينار والدرهم غير فاتح عينيه لمباهج الحياة، وغير آبه للحدائق الغناء، والأزهار الجميلة، والأنهار والبحار، والطيور المغردة، وصار منقبض النفس ضيقا حرجا، وغلبه طمع وحرص وشر وأنانية تجعله عابسا، وكان بذلك نشازا في الطبيعة المنسجمة، وانقلبت حياته رغم توفر الوسائل الظاهرة جحيما، وأصبحت الدنيا كلها سوداء في عينه وبالتالي جعلها سوداء على من حوله، يقول أحد هؤلاء المتشائمين:

ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة=وحق لسكان البسيطة أن يبكوا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين