حدث في الثاني والعشرين من ذي الحجة معركة نيكوبوليس

في الثاني والعشرين من ذي الحجة من عام 798=25/9/1396، وقعت معركة قلعة نيكوبوليس على نهر الدانوب، واسمها اليوم نيقوبول في بلغاريا، بين السلطان العثماني بايزيد وبين حملة صليبية قادها الملك سيجيسموند ملك هنغاريا وضمت نبلاء وقوات من فرنسا وألمانيا وبريطانيا وهولندا وجمهورية البندقية، وانجلت المعركة عن انتصار العثمانيين وانتهاء الآمال الأوربية في هزيمة الأتراك أو استرجاع الأراضي التي احتلها الصليبيون سابقاً في المشرق العربي، ويعد المؤرخون هذه المعركة آخر الحملات الصليبية في القرون الوسطى.

وكان التوسع العثماني في البلقان قد توطد على يد والد السلطان بايزيد؛ السلطان مراد الأول الذي استشهد سنة 791، عن 65 سنة، بعد ظفره في معركة كوسوفو على الصرب، فقد مهد طوال حكمه الذي دام 30 سنة لقيام الإمبراطورية العثمانية، فاستولى على كثير من مقاطعات الأناضول التي كان يحكمها أمراء متفرقون، ثم اتجه للاستيلاء على بلغاريا ومقاطعة الروم، وبعضها اليوم تركيا الأوروبية، ثم حاصر القسطنطينية واستولى على صربيا التي كانت هزيمتها في معركة كوسوفو قاصمة لم تقم لها بعدها قائمة.

وجاء بعد مراد ابنه بايزيد، المولود سنة 761، فتابع خطة والده في البلقان، وعين حاكما على صربيا الأمير اسطفان ابن ملكها لازار الذي قتل في المعركة، وتزوج أخته أوليفيرا، ولم يضم صربيا إلى الدولة ويجعلها ولاية كباقي الولايات، لئلا يثير ضغائن الصرب فيشغلوه عن مهامه الأخرى، ثم استولى دون قتال يذكر على ما تبقى من مقاطعات في تركيا الآسيوية واحدة تلو الأخرى، ثم يمم السلطان بايزيد وجهه إلى التوسع في أوروبا والاستيلاء على القسطنطينية التي كانت في يد الإمبراطور البيزنطي مانويل باليولوج، المولود سنة 752=1350.

ويعتبر المؤرخون السلطان بايزيد، الملقب بالصاعقة، المؤسس الأول للدولة العثمانية على أساس من الشريعة الإسلامية والتراث العثماني، وأنه هو الذي أعطاها لأول مرة صبغة الدولة المنظمة ذات المؤسسات المتخصصة بعد أن كانت أشبه بإمارة بسيطة قائمة على الغارات والفتوح.

وحقق السلطان بايزيد في أوائل سنة 798 انتصارات في سالونيك والمورة الواقعة اليوم في اليونان، وانتزع أغلبها من يد جمهورية البندقية التي كانت تحكم بعضها وتتحكم ببعضها الآخر، وووقفت قواته على حدود هنغاريا، مع إبقائه الحصار على على القسطنطينية التي لم يخفِ رغبته في أن يجعلها عاصمة مملكته.

وتأثرت بهذه الانتصارات مصالح دول أوروبية لها نفوذها وأهميتها، فسيطرة الأتراك على شبه جزيرة البلقان والموانئ التابعة للبندقية فيها سوف يطيح بنفوذها في بحري إيجة والأدرياتكي، وأما جمهورية جنوة فكانت في يدها قلعة غلطا الواقعة على خليج القرن الذهبي في القسطنطينية، وكانت تتحكم بالتجارة في البحر الأسود ونهر الدانوب، وستؤدي سيطرة الأتراك على الدانوب والمضائق إلى الإطاحة بتجارتها واحتكاراتها في المنطقة.

وكذلك كانت الظروف الأوروبية السياسية مواتية لحملة صليبية، فقد تعرضت المؤسسة البابوية في سنة 1378 لانشقاق نجم عنه وجود حبرين كل منهم يدعي أنه البابا الشرعي، وكان البابا بونيفاس التاسع قد صبَّ جهوده كلها للقضاء على هذا الانشقاق، وكان تبنيه لحملة صليبية جديدة وسيلة قوية لدعم شرعيته، ورغم أن حرب المائة عام كانت مستمرة بين فرنسا وبين إنجلترا، إلا أن بدايات عام 1395 شهدت ملك فرنسا شارل السادس يوقع هدنة طويلة الأمد مع ريتشارد الثاني ملك بريطانيا ويزوَّجه ابنته، وتحمس كثيراً للحملة فيليب الثاني دوق بورجندي وأقوى رجل في فرنسا بعد الملك شارل السادس، إذ من شأن وجوده على رأس حملة صليبية أن يزيد في نفوذه ليصبح أقوى حتى من الملك.

ولذا استجاب كل هؤلاء للبعثة التي أرسلها الملك سيجيسموند ملك هنغاريا إلى أوروبا تناشد البابا وملوكها ونبلاءها أن يطردوا 40.000 تركي عاثوا فساداً في الأراضي المسيحية، فأعلن البابا بونيفاس عن حملة صليبية جديدة، وأرسل الملك الفرنسي شارل السادس رسالة لسيجيسموند قال فيها إنه بصفته رئيس ملوك المسيحية فإنه مسؤول عن حماية النصارى ومعاقبة بايزيد، واستجاب نبلاء فرنسا بحماسة بالغة لفكرة شن حرب صليبية جديدة وانضم لها كبار قادتهم ومشاهير شجعانهم.

وجرى تسويق التحالف على أساس ديني ليكون الحملة الصليببية الأخيرة التي ستهزم العثمانيين وتوقف توسعهم في أوروبا، وتفك الحصار عن القسطنطينية، بل وستجوس بعدها خلال الأناضول حتى تصل إلى بيت المقدس وتنتزعه من المسلمين، وتزعم الحملة الملك سيجيسموند وانضم إليه فرسان النبلاء من فرنسا وبورجندي وإنكلترا وألمانيا وهولندا، وأرسلت البندقية أسطولاً يقوده توماسّو موسينيجو، الذي سيصبح دوق البندقية بعد 18 عاماً، ونقل هذا الأسطول فرسان المعبد من جزيرة رودس عبر المضائق إلى البحر الأسود ثم إلى نهر الدانوب، دون أن يتعرض لأي هجوم من الجانب التركي الذي لم تكن لديه آنذاك القدرة البحرية للتصدي للبنادقة.

ولم يكن مانويل الثاني الإمبراطور البيزنطي في القسطنطينية غريباً عن السلطان بايزيد، فقد ساعد السلطان مراد والدَه الإمبراطور يوحنا الخامس ومانويل نفسه في استرداد العرش من منافسيهما اندرونيقوس الرابع وابنه يوحنا السادس، ولذا كان البيزنطيون يؤدون الجزية للعثمانيين ويقدمون لهم المساعدة العسكرية عند الطلب، وكان مانويل قد عاش سنوات في البلاط العثماني ضمانة لتنفيذ الاتفاق، فلما بلغته وفاة والده سنة 793=1391، هرب من بورصة إلى القسطنطينة وجلس على العرش البيزنطي، وقام السلطان بايزيد على إثر ذلك بمحاصرة القسطنطينية، دون أن يستطيع اقتحام أسوارها المنيعة أو منع المدد والمؤن عنها من جهة البحر.

أما الملك سيجسموند، المولود سنة 769=1368 فكان من آل لوكسمبرغ المنتمين للأسرة الملكية الألمانية التي حكم أفرادها دول كثيرة في غرب أوروبا كانت واقعة تحت نفوذ أو ضمن ممتلكات الإمبراطورية الرومانية المقدسة، كما كانت تسمى هذه الإمبراطورية الألمانية، والتي كان والده شارل الرابع إمبراطورها، وتمت خطبته وهو طفل على ماريا ابنة الملك لويس الأول ملك هنغاريا وبولندا، ولما توفي والده وهو في العاشرة انتقل ليعيش معها، وتوفي والد زوجته في سنة 1382 فأصبحت زوجته ملكة هنغاريا وتوج هو شريكاً لها في سنة 788= 1387، ثم أصبح ملك هنغاريا عند وفاة زوجته سنة 1395، وسيصبح ملكاً لألمانيا في سنة 1411 ثم إمبراطوراً في سنة 1433 قبل أن توافيه منيته في سنة 1437.

وتزعم القوات الفرنسية دوق بورجندي، الملقب جون الجسور، والذي زوجه والده، وهو في الثالثة عشرة، من أميرة بافارية، وكانت سنه وقت المعركة 24 عاماً، وأرسل والده معه مجموعة من المستشارين والعسكريين منهم الجنرال جَيّ لا ترمويل الجدُّ الأكبر لأسرة فرنسية عريقة من العسكريين.

وتتباين الأقوال في أعداد قوات الجانبين تبايناً ذريعاً، وهو تباين مألوف في مثل هذه المواطن، فأحياناً يبالغ المهزوم في عدد قوات المنتصر ويقلل عدد قواته تبريراً لهزيمته ، ويفعل عكس ذلك المنتصر تمجيداً لانتصاره، وأحياناً يبالغ المنتصر في عدد قواته لإظهار العظمة واالفخر، ويقلل أعداد خصمه احتقاراً له واستخفافاً بأمره، وتتراوح أقوال المؤرخين في عدد القوات الصليبية من 12.000 إلى 35.000 إلى 200.000 جندي، وتتباين كذلك أقوالهم في عدد جيش بايزيد من 12.000 إلى 200.000 مقاتل، ويرجح الباحثون المعاصرون على ضوء بحوثهم المستقصية أن القوات الصليبية عدت قرابة 50.000 جندي، وأن القوات العثمانية كانت بين 20.000 وبين 25.000 جندي.

وتكون أغلب القوات الصليبية من القوات الفرنسية، يليها في الأهمية فرسان المعبد من جزيرة رودس، ويليها الجيش الهنغاري وأمراء وأفراد من أنحاء أوروبا، وتجمعت هذه القوات قرب بودابست قبل شهرين من المعركة، ولما اجتمع القادة لمناقشة خطط القتال القادم اختلفوا اختلافاً شديداً، إذ كان بايزيد قد توعد في السنة الماضية أنه سيهاجم هنغاريا في شهر أيار/مايو، وها هم بعد الموعد الذي ضربه بشهرين ولا أثر له، وأثار هذا حماسة الفرنسيين الذين اعتبروه جباناً يفر من المواجهة، وأن عليهم إنجاز ما جاءوا من أجله وتعقبه إلى عقر داره وهزيمته الهزيمة الأخيرة! وخالفوا رأي سيجيسموند، وهو الخبير بالأتراك، الذي قال لهم: إن بايزيد آت ولا بد، فلنبق هنا في انتظاره وجنودنا مرتاحين جاهزين بدلاً من أن نسير إليه.

وسارت الحملة الصليبية قرابة 800 كيلومتر على ضفاف الدانوب، ولما دخلت المناطق الخاضعة للأتراك نهب أفرادها الممتلكات وانتهكوا الأعراض رغم أن سكان هذه المناطق من المسيحيين، وحقق الصليبيون انتصارات مبدئية حين استولوا على فيدين التي كانت عاصمة بلغاريا الغربية، فقد سلمها أميرها البلغاري سلماً دون قتال، فقام الفرنسيون بقتل كل الجنود الأتراك فيها، وزاد هذا من شعورهم أن الأتراك أضعف من أن يفكروا بمواجهتهم في ميدان القتال.

وكان الهدف التالي قلعة راهوفا التي تبعد 120 كيلومتراً، والتي أراد الفرنسيون أن يجعلوا منها فرصة لإظهار بسالتهم التي لم يتح لهم إظهارها حتى الآن، فأغذُّوا السير ليلاً ليصلوها قبل حلفائهم، وفاجأوا الأتراك ولكنهم لم يستطيعوا متابعة هجومهم واقتحام خندقها حتى وصل سيجيسموند فتمكنوا من الوصول إلى أسوار القلعة.

وفي اليوم التالي اتفق سكان راهوفا على التسليم للملك سيجيسموند لقاء الحفاظ على أرواحهم وأموالهم، وما أن دخلت القوات القلعة حتى ضرب الفرنسيون بالاتفاق عرض الحائط وقتلوا الأهالي ونهبوا الممتلكات مدعين أنها فتحت بحد سيوف فرنسا، وأخذوا 1.000 من سكانها الأتراك والبلغار رهائن، ثم أحرقوا البلدة، وكانت هذه إهانة ما بعدها إهانة للملك البلغاري، الذي اتهمه الفرنسيون أنه يحاول سرقة شرف الانتصار بحد السيف.

ووصل الصليبيون إلى حصن نيقوبوليس المنيع على نهر الدانوب في 8 ذي الحجة، والذي كان مدينة ذات سورين، على هضبة عالية صعبة المرتقى تتحكم بالدانوب الأسفل والطرق البرية، وكان القائد التركي دوغان بك قد استعد للصليبيين بأن أحكم تحصينها وشحنها بالمؤن والسلاح، وكان على يقين أن السلطان بايزيد سينجده ويدحر الصليبيين، وفي المقابل كان الصليبيون يفتقدون آلات الحصار ومدافعه الثقيلة فقرروا القيام بحصار طويل إلى أن تنفد مؤن الحصن ويضعف مقاتلوه فيستسلموا أو يقتحموه بأقل الخسائر، ولم يتصوروا أبداً أن بايزيد سيصل على جناح السرعة ليقاتلهم.

وعلم السلطان بايزيد بنبأ الحصار، فترك قواته المرابطة على القسطنطينية وساق على جناح السرعة إلى نيقوبوليس على رأس جيشه، وتواترت الأخبار بقدومه ولكن بعض القادة الفرنسيون اعتبرها مجرد إشاعات تثار لإضعاف الروح المعنوية لدى الصليبين، ونصب قائد فرنسي خرج يستطلع كميناً ناجحاً لفرقة تركية وأثخنها قتلاً، وعاد برايات الظفر إلى المعسكرات، فقوى هذا من اعتقاد الفرنسيين جبن وضعف الأتراك، وزادهم استهتارا بهم.

وشرح سيجيسموند، المقاتل المجرب، للفرنسيين أن الأتراك كانوا يقدمون أسوأ مقاتليهم لصد الهجمة الأولى حتى إذا أنهكوا المهاجمين شنت الخيالة التركية، وتدعى الصباهية، هجماتها الفتاكة، واقترح أن يبدأ الهجوم جنود المشاة من الأفلاق، في رومانيا اليوم، لخبرتهم السابقة في حرب الأتراك، ثم يتلوهم الفرسان الفرنسيون في حين يقوم الهنغاريون مع القوات الأخرى بالحيلولة دون أن تهجم خيالة الأتراك على جانب الفرسان.

واعتبر الفرنسيون اقتراحه إهانة كبيرة، فكيف يتركون الصفوف الأولى ويقاتلون وراء غيرهم، وإزاء إصرارهم على ذلك، تركهم سيجيسموند وشأنهم ورسم خططه الخاصة بقواته، وبعد بضع ساعات أخبرته طلائعه أن جيش بايزيد سيصل بعد 6 ساعات، فأرسل يخبر الفرنسيين ذلك، فدبت في صفوفهم الفوضى ولبس بعضهم الذعر، وقاموا بقتل كل الرهائن الذين أخذوهم من راهوفا.

وفي صباح يوم المعركة أرسل سيجيسموند كبير قادته ليقول إن جواسيسه يراقبون الطلائع التركية، وسأل تأجيل الهجوم ساعتين ريثما يعود جواسيسه بتقييم دقيق لعدد ومواقع قوات العدو، وأثار هذا شك بعض القادة الفرنسيين في أن يكون خدعة منه ليحرمهم من شرف المعركة، وبعد نقاش مستفيض قرر الفرنسيون مباشرة الهجوم على الهضبة.

وبدا للفرنسيين أول الأمر أنهم انتصروا فقد تشتت الخطوط الأولى من مشاة الأتراك، ولكن الخوازيق الخشبية كانت في انتظارهم فقتلت خيولهم واضطر كثير منهم للترجل والتخلي عن فرسه، ولما وصلوا أعلى الهضبة حيث كانوا يتوقعون أن يفتكوا بالقوات التركية المنهزمة، كان بايزيد كان ينتظرهم مع جماعة كبيرة من فرسانه يعضدهم 5000 فارس من الصرب فهاجمهم في الوقت الذي أصبحوا فيه منهكين من شدة القتال وتحت وطأة الدروع الأوروبية الثقيلة، وحاول سيجيسموند أن يهب لنجدتهم فدخل المعركة على عجل ولكن جنوده من الأفلاق وترانسلفانيا خذلوه وانسحبوا، ولم تكن قواته الهنغارية لتغني فتيلاً أمام الجيش التركي.

وأوقع الأتراك هزيمة منكرة بالصليبيين الذي قتل أكثرهم، ومن فاته القتل غرق في نهر الدانوب، وقتل عدد من كبار القادة الفرنسيين منهم جان دو فيين، وجان دو كاروج، وأُسِر في المعركة جون الجَسور ومساعده جّي، واستطاعت قلة قليلة منهم سيجيسموند أن تنجو بأرواحها بعيداً عن ميدان القتال، فقد تعقب الأتراك الهاربين وقتلوهم أينما ثقفوهم، وقال سيجيسموند فيما بعد: لقد خسرنا المعركة بسبب غطرسة وكبرياء هؤلاء الفرنسيين، ولو أنهم اتبعوا نصيحتي لما كنا هزمنا هذه الهزيمة المنكرة.

وأمر السلطان بايزيد بفرز الأسرى إلى نبلاء ينتظر منه افتداء أنفسهم بمبالغ كبيرة، وعامة يحالون إلى أعمال السخرة في تركيا، ولكنه لما اكتشف جثث الرهائن القتلى غضب غضباً شديداً وأمر بقتل عدد من أسرى العامة أمام أعين النبلاء الأسرى، وساق كل بقية الأسرى إلى جاليبولي ثم اعتقل نبلاءهم في العاصمة بورصة في انتظار مفاداتهم.

ووصلت أخبار الهزيمة المنكرة إلى باريس بعد قرابة شهرين، واتهمت الحكومة ناقليها بتخريب الروح المعنوية وهددتهم بالتغريق، ثم ما لبث أن تأكد الأمر حين وصل أحد النبلاء الأسرى إلى فرنسا، أرسله بايزيد ليسعى في فدية أصحابه، فأقيمت المناحات على القتلى والمفقودين، وأعلنت الحكومة الحداد في سائر أنحاء فرنسا، وبدأت، تساعدها البندقية، لمفاوضات مع السلطان بايزيد لإطلاق سراح هؤلاء الذين مات بعضهم في الأسر وعاد بعضهم إلى فرنسا بعد قرابة سنة.

وبانتصاره في نيكوبوليس جعل بايزيد الأوروبيين يفكرون ألف مرة قبل أن يشكلوا تحالفاً جديداً ضد الأتراك، وبعد هزيمة الصليبيين أصبح سقوط القسطنطينية مسألة وقت لا أكثر، فقد كان العثمانيون يحاصرونها من البر، وقال السلطان بايزيد في إحدى مراسلاته للإمبراطور مانويل إن إمبراطوريتك لا تتعدى حدود أسوار مدينتك. 

واقترح القائد الفرنسي جان لو ماينجر الملقب بوسيكاوت، وهو أحد أسرى المعركة الذي جرى فداؤهم، على الإمبراطور مانويل أن يسافر إلى العواصم الأوروبية ويتحدث شخصياً مع البابا والملوك لحشد التأييد والجيوش، وأخذ الإمبراطور بنصيحته وأمضى سنتين في أوروبا لقي فيها الترحيب والإكرام والوعود وقليلاً من التنفيذ على أرض الواقع، فقد كانت هزيمة نيكوبوليس لا تزال في كل مخيلة، ولترغيب الكنيسة في دعمه عرض مانويل توحيد الكنيسة الشرقية مع الكنيسة الغربية وهو أمرٌ رفضه كثير من رعيته وقساوسته، فكانت خسارته منه أكثر من ربحه، ولكن الفرج أتى مانويل من حيث لم يحتسب؛ فقد أتته الأخبار وهو في باريس أن الزعيم المغولي تيمور لنك هزم السلطان بايزيد في معركة أنقرة في آخر سنة 804=1402 وأخذه أسيراً حتى مات في الأسر بعد بضعة شهور، وبهزيمة بايزيد وأسره فترت البقية القليلة من الحماسة الإوروبية لحملة صليببية أخرى.

ومع ذلك لم يكن للغزو المغولي تأثير يذكر على المقاطعات العثمانية الأوروبية، بل كان جاءها الخطر حين اختلف أولاد السلطان بايزيد على خلافته فيها، واستعانوا في صراعهم بالبيزنطيين الذين تحولوا من أعداء إلى حلفاء، وأبرم سليمان بن بايزيد معاهدة سلام مع الإمبراطور مانويل الثاني سنة 805=1403 أعاد إليه بموجبها سالونيك وأعفاه من دفع الجزية، بل وتزوج إحدى قريباته، وفي المقابل ساعده مانويل في نزاعه ضد أخوته، وبعد صراع قارب 10 سنوات رجحت كفة محمد بن بايزيد وقضي على أخيه سليمان، ولكن أخاه وساعده الأيمن موسى تغير عليه وسار إلى القسطنطينية ليستولى عليها لنفسه ويؤسس فيها مملكته، فاستغاث به مانويل فسار إليه محمد وقضى على موسى، واستقامت للسلطان محمد الأمور، وبقيت العلاقات مع العثمانيين ودية هادئة حتى سنة 824=1421 حين توفي السلطان محمد وخلفه ابنه مراد الثاني، وكذلك اعتزل مانويل الحكم ليتفرغ للتنسك، وجعل ابنه يوحنا الثامن شريكه على العرش.

ولكن يوحنا الثامن لم يقدر حق قدرها العلاقة الدقيقة التي نجح والده في رعايتها، فتدخل في الشؤون الداخلية للسلطنة العثمانية وأيد مدعياً للمُلك يدعى مصطفى ضد الملك الشرعي مراد الثاني، فما أن قضى السلطان مراد على المدعي حتى حاصر القسطنطينة واسترجع بعض الأراضي اليونانية التي أعادتها المعاهدة، وأصبحت العلاقة علاقة حرب وعداء، فمهد هذا لفتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح سنة 1453.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين