رفقة ظلال العرش

لكم استوقفني حديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)

مع ذكر العلماء أن العدد سبعة لا مفهوم له، ولا يراد به الحصر، حيث وردت أحاديث أخر يذكر فيها أصناف غير الواردة في الحديث تحظى بالإكرام ذاته، وقد عد منها الحافظ ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري) حوالي إحدى وعشرين خصلة مما ورد الخبر بأن صاحبها في ظل عرش الرحمن يوم القيامة، من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

وهاتان الخصلتان غير مذكورتين في حديث أبي هريرة الأول، على ما بينه الإمام العيني في شرحه على البخاري، وغير ذلك من الكلام الذي يدل على أن (العدد سبعة) لا مفهوم له، ولا يراد به الحصر. حتى إن الإمام المناوي في فيض القدير استوعب أصحاب الخصال الموجبة لإكرام الله تعالى أصحابها بإظلالهم ظل عرشه يوم القيامة فنافت على السبعين، وإن كان أكثرها فيه ضعف. لذلك قال ابن علان الصديقي في (دليل الفالحين): «ومفهوم العدد ليس بحجة على الصحيح عند الأصوليين، فلا يشكل عليه أن الذين يُظَلُّون تحت العرش يوم القيامة فوق السبعين». 

وقد نظرت كثيرا في هذه الخصال السبع المذكورة في الحديث محاولا استبيان وجه جمعها في مكان واحد، وقد قرأت في ذلك تعليلا نقله الإمام بدر الدين العيني عن الإمام الكرماني، قال: 

«وأما التخصيص بذكر هذه السبعة فيحتمل أن يقال فيه: ذلك لأن الطاعة إما تكون بين العبد وبين الله، أو بينه وبين الخلق، والأول: إما أن يكون باللسان أو بالقلب أو بجميع البدن، والثاني: إما أن يكون عاما وهو العدل، أو خاصا وهو إما من جهة النفس وهو التحاب أو من جهة البدن، أو من جهة المال». 

قال العيني شارحا: «أراد كونه باللسان هو الذكر، وأراد كونه بالقلب هو المعلق بالمسجد، وأراد بجهة جميع البدن الناشيء بالعبادة، وبجهة المال: الصدقة، ومن جهة البدن في الصورة الخاصة هي: العفة». إلا أن هذا التعليل لم يشف عليل سؤالي.

وأقرب منه ما قاله الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في شرحه على صحيح البخاري أن « هذه السبعة اختلفت أعمالهم فِي الصورة، وجمعها معنى واحد، وَهُوَ مجاهدتهم لأنفسهم، ومخالفتهم لأهوائها، وذلك يحتاج أولًا إلى رياضة شديدة وصبر عَلَى الامتناع مِمَّا يدعو إليه داعي الشهوة أو الغضب أو الطمع، وفي تجشم ذَلِكَ مشقة شديدة عَلَى النفس، ويحصل لها بِهِ تألم عظيم، فإن القلب يكاد يحترق من حر نار الشهوة أو الغضب عِنْدَ هيجانها إذا لَمْ يُطفء ببلوغ الغرض من ذَلِكَ، فلا جرم كَانَ ثواب الصبر عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إذا اشتد الحر فِي الموقف، ولم يكن للناس ظل يظلهم ويقيهم حر الشمس يومئذ، وكان هؤلاء السبعة فِي ظل الله - عز وجل -، فَلَمْ يجدوا لحر الموقف ألمًا جزاءً لصبرهم عَلَى حر نار الشهوة أو الغضب فِي الدنيا».

وقد لاح لي وجهٌ للجمع بينها في هذا الحديث مستنبط من تعليل الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى، وهو أن هذه الأصناف السبعة يجمعها جامعٌ وهو أنها نادرة الوجود بين الناس:

فالعدل من الحاكم أو ممن ولي أمرًا من أمور الناس عبر التاريخ قليل بل نادر. ويبين ذلك كثرة التوجيهات النبوية لولاة الأمور بالعدل والرفق في الناس، من مثل حديث ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عند الإمام أحمد في المسند، أن النبي صلى الله عليه وسل، قال: (اللهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ). وما ذلك إلا لمعرفته صلى الله عليه وسلم بخطر الولاية وبغلبة الشهوات فيها.

والشاب الذي لا تُعرف له صبوة أو انحراف أندر، وفي حديث عقبة ابن عامر رضي الله عنه عند الإمام أحمد في المسند: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (يَعْجَب ربُّك من الشاب ليست له صَبوة)، والصَّبوة هي المَيل والانحراف. قال الإمام بدر العيني في شرح سنن أبي داود: 

«قوله: (يَعْجبُ رَبك) التعجبُ إعظامُ أمرٍ لخفاء سببه، وهو محال على الله تعالى، لأنه لا يخفى عليه أسْبابُ الأشياء، ويكون إسناد هذا الفعل إلى الله مجازا، والمعنى: يَعظمُ ويكبرُ عند الله فعلُ هذا (الشاب)، فيكون هذا من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، لأن التَعظيم والتكبير من لوازم التعجب، لأن من عجب من أمرِ يُعظم ذلك الأمر ويكبِرْه»، وهذا الإكبار والتعظيم للفعل إنما حصل لوقوع الفعل على غير ما اعتاده الناس، فدل على قلته وندرته. مع بيان أن كلام العيني جاء في سياق شرح حديث آخر يشبه هذا في مطلعه وهو حديث الراعي الذي يكون في أعالي الجبال فيكبر ويقيم الصلاة ويصلي.

وكذلك من تعلق قلبه في المسجد بمعنى أنه يود لو أنه لا يفارقه، فتراه يترقب الأوقات للعودة إليه، حتى جُعِل انتظار الصلاة بعد الصلاة من الرباط، كما تفضل الله تعالى على من ينتظر الصلاة في المسجد بأجر المصلي، وأنه في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، ومع كل هذا كان أكثر الناس من السَّرَعان في الخروج من المسجد عقب الصلوات، كما في حديث ذي اليدين في الصلاة، وفيه: «وَخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ». وهذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فما بالكم في الأزمنة بعده؟ ولا نزال نرى تناقص عمار المساجد نسبة إلى ازياد عدد الناس

أما المتحابون في الله تعالى الذين لا تغير قلوبهم المصالح ولا المخالفات، والذين تظهر معادنهم عند الخلافات، فهؤلاء أندر من الندرة. وكم قرأنا وشهدنا عن تآلف المتوافقين في المذهب والمشرب، وفي الفكر والانتماء، وعجبنا لتدابر المتخالفين فيها مع انتمائهم جميعا إلى الإسلام. فما بالك باختلاف العقائد؟ والحياة لا تحلو إلا بالقيم الفاضلة، ويندر ان ترى متخالفين في المشرب متحابين في الحياة. ولا يصل إلى هذه المرتبة مع المخالفة إلا من صفت سريرته وتجرد بكليته لأحكام الشرع، وانخلع من أنانيته انخلاعا تاما. 

وقد قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه على صحيح مسلم: « معناه اجتمعا على حب الله وافترقا على حب الله، أي كان سبب اجتماعهما حب الله، واستمرا على ذلك حتى تفرقا من مجلسهما، وهما صادقان في حب كل واحد منهما صاحبه لله تعالى حال اجتماعهما وافتراقهما». 

ومعلوم أيضا أن الله تعالى جعل الحب والبغض فيه من تمام الإيمان. ثم إن الواقع منذ القدم حتى اليوم يشهد بأن غالب الناس تحب وتبغض بحسب المصلحة والانتماء.

أما خامسهم، وهو الذي يعصمه الله تعالى عن تلبية داعي الشهوة والهوى فأظن أنني لا أحتاج إلى كثير شرح في أمره، حيث إن واقعنا يشهد كم فتنت الدنيا أناسا كنا نعدهم من المجاهدين والدعاة الصادقين، فلما لاحت لهم لائحة شهوة أعملوا العقل والقلب في تطلبها وتبريرها، ورحم الله تعالى أمير المؤمنين في الحديث سفيان بن سعيد الثوري، القائل: « ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع الرئاسة حامى عليها، وعادى».

ورحم الله تعالى أيضا فيلسوف الحركة الشيخ سعيد حوى رحمه الله تعالى، القائل: «لقد امتنع إبليس من السجود لآدم بدعوى الخيرية، وما أكثر ما كانت دعوى الخيرية حائلا دون وجود الصف الإسلامي الواحد، وما أكثر ما كانت دعوى الخيرية عاملا من عوامل تفرق صف المسلمين»، وقال:

«إن كثيرين لا يبدءون البداية الصحيحة، مع أن البدايات الصحيحة وحدها هي التي توصل إلى نتائج صحيحة، فإذا ما بدأت تظهر ثمرات البدايات الصحيحة يريد الكثيرون أن يتقدموا، وإذا لم يتقدموا يستكبرون عن السير في الطريق الصحيح، إن ذلك من نزغات الشيطان فليحاسب كل منا نفسه». (الأساس في التفسير).

ثم الخصلة السادسة، وهي صدقة السر، وما أصعبها، كيف وقد وجد في الشرع ما يرفع الحرج عن مُظْهِرِها. قال الله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾. 

وقد حمل بعض العلماء الإبداء للصدقة الواجبة، وهي الزكاة. والإخفاء لصدقة التطوع. ومع هذا فكم نرى الناس تحب أن يُرى مكان تطوعها، ولا تكاد تجد عملا بني بأموال الصدقات إلا وهو مرفق بكتاب توضيحي مع شرح مفصل بمن أنفق. 

أما المخصوص بالإكرام يوم تزل الأقدام، فهو الذي يغالي في إخفاء صدقته عن الناس حتى لا تعلم أقرب أعضائه ما تفعل شقيقتها. وهو كناية عن شدة الحرص على إخفاء الصدقة. وفي تاريخنا نماذج عن هؤلاء المتصدقين الذي لم يُعرَفوا إلا بانقطاع الصدقة بموتهم. حتى إن الإمام أبا العباس القرطبي ذكر له صورة بديعة، فقال: «وقد سمعنا من بعض المشايخ أن ذلك الإخفاء أن يتصدق على الضعيف في صورة المشتري منه فيدفع له مثلًا درهمًا في شيء يساوي نصف درهم، فالصورة مبايعة، والحقيقة صدقة، وهو اعتبار حسن».

أما سابع الخصال، وهي الرجل يذكر الله خاليا من أية حاجة، أو بعيدا عن أعين الناس، فإن هذا مدعاة للإخلاص وأبعد عن الرياء. وفي تأويل ذلك يقول الإمام أبو العباس القرطبي صاحب (المُفهم): « وفيض العين: بكاؤها. وهو على حسب حال الذاكر، وبحسب ما ينكشف له من أوصافه تعالى، فإن انكشف له غضبه، فبكاؤه عن خوف، وإن انكشف له جماله وجلاله، فبكاؤه عن محبة وشوق، وهكذا يتلوَّن الذاكر بتلوُّن ما يذكر من الأسماء والصفات». 

ومدعاة هذا التلون هو الخوف من الله تعالى وإرادة قربه وفضله لا عن طلب متعلق بأمور الدنيا. وأقرب مثال عليهم الذين ذكروا في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، والذين جاء في وصفهم أنهم: (لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)، فهؤلاء لا يشاركون الناس في أسبابهم، وإنما يتوجهون دائما إلى خالق الأسباب ومسببها.

وكيفما تقلبت التأويلات، فأصحاب هذه الأوصاف من الندرة في كل زمان بحسبه، نسأل الله تعالى أن يستر آخرتنا، وأن يحسن ختامنا، وأن يكرمنا بشفاعة سيد الأولين والآخرين. آمين. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين