فقه السيرة (53) : صلح الحديبية 

الصلح بين الأطراف المتنازعة مآلٌ لا بد منه في أعقاب الصراع والنزاع والخصومات، مهما اختلفت أوقاتها وأطرافها وأماكنها، ومهما اختلفت المقاصد والمصالح والدوافع التي تختفي وراءها.

إن من سنن الله في خلقه سنة الاختلاف التي تشمل كل مكونات الوجود الخلقي الإنساني والحيواني والنباتي وما يحيط بالإنسان من ماء وهواء وتراب إلى آخر ما هنالك، وكلنا يعلم عظمة هذه السنة في تحقيق التكامل والتواصل على مسرح الحياة الإنسانية ، إلا أن الغفلة عن سنن الله، والخضوع للذات ومطامعها ومصالحها ونزعاتها وتسلطها تقف سدّاً مانعاً للحيلولة دون التآلف والتكاتف والتضامن، الذي جعل الله فيه ثمرات تقوى الله، التي تنزع من النفس حب الذات، وتحولها إلى حب الله وحب رسل الله وعباد الله وخلق الله سبحانه ، لذلك كانت الحروب والنزاع ظاهرة فظيعة في التاريخ الإنساني، فكان منها على مسرح مكة والدعوة إلى الله عدوان زعماء الشرك في مكة ومن حالفهم، على رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه ومن آمنهم وتعاهد معهم، إلا أن عاقبة النزاع عند مفترق الطرق، طريق الأمن والسلام والمحبة والاحترام، وطريق الهزيمة أو النصر الذي يغرس بين الفرقاء بذور العداوة والثأر واللجوء إلى السلاح للانتقام، وتتجدد عندئذ مشاهد القتل والقتال والعداوة والبغضاء إلى أن يشاء الله لهم العودة إلى التفاهم وعقد الصلح والأمان، أنموذج رائد وسباق في العلاقات الإنسانية يتمثل على مسرح الحياة يقوم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسم الأنموذج الذي ارتضاه الله لعباده، كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً جاداً لعقد الصلح ونزع الحرب وإقامة السلام والوئام والتراحم بين الفرقاء. وإليكم هذا الأنموذج على مسرح الحديبية ذي القعدة سنة /6/ ه .

مقدمات صلح الحديبية . 

أثبتت السياسة النبوية في مواجهة الأحزاب سنة 5 هـ، حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقن الدماء، والحيلولة دون وقوع قتالٍ مباشرٍ بين المسلمين وجيوش الأحزاب، كان ذلك هدف حفر الخندق، وانتهت غزوة الأحزاب إلى انتصار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه على أكبر حشدٍ حربيٍ قامت بإعداده زعامة الشرك في مكة وحلفائها وخاصة اليهود، ولاذ المشركون بالفرار وقد عصفت بهم الريح الشديدة الباردة، يومها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تغزوكم قريش بعد يومهم هذا بل تغزوهم ).

لم تمض على غزوة الأحزاب شهور عديدة، حتى عقد العزم على القيام بالعمرة إلى بيت الله الحرام بمكة والتي انتهت بعقد صلح الحديبية .

كان صلح الحديبية بُعداً استراتيجياً للدعوة الإسلامية في المدينة النبوية تجاوز مشكلة القتال والغزو والصراع والتحالفات المضادة للإسلام، لقد كان قفزة نوعية في مواجهة القوى المعادية للإسلام، حيث وضع هذا البعد الاستراتيجي قضية تمس جميع العرب على اختلاف منازلهم ومواقعهم، من بيت الله الحرام ودين إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ووضع زعامة قريش أمام التحدي الفكري الديني والسياسي .

هذه القضية هي تعظيم شعائر الله وحرمة بيت الله، وهل هي وقفٌ على زعامة قريش؟ أم هي حقٌ لجميع الذين يؤمنون بها ويعملون على تحقيقها؟

إن العمرة التي توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأديتها مع أصحابه كشفت الكثير من الأمور على ساحة الصراع، وأوضحت للعرب مدى صحة الدين الجديد وبطلان السياسة التي تتخذها زعامة قريش من هذا الدين، وبذلك بدأت مواقف القبائل العربية تأخذ شكلاً جديداً، فتح الطريق أمام دخول العرب في دين الإسلام

أسباب صلح الحديبية

أ- طال شوق المسلمين إلى بيت الله الحرام، فقد حُرموا القدوم إلى مكة بسبب سياسة زعماء قريش المعادية.

ب- إن مناسك الحج والعمرة من صميم الإسلام، وقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقاً لها ومصححاً وماحياً لما دخل عليها من ألوان الإنحراف والتشدد والتشويه .

ج- منام رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في النوم، أنه دخل البيت، وحلّق رأسه، وأخذ مفتاح البيت، وعرّف مع المعرّفين ).

الاستعداد للحديبية

استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى العمرة فأسرعوا وتهيؤوا للخروج ، اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم البُدن وبعث بها إلى ذي الجُدر

استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا، أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثيرٌ من الأعراب .

دعوة الأعراب والقبائل القريبة والبعيدة إلى العمرة .

تشكل هذه الدعوة مضامين لحقائق دعوية وعقائدية متعددة، منها: توجيه أنظار العرب جميعاً إلى الحج والعمرة وكونهما من العبادات التي جاء بها الإسلام، فيبطل بذلك دعوى مشركي قريش تجاه المسلمين، وفي الوقت نفسه يبين إمكانية إيجاد قاسم مشترك بين المسلمين وغيرهم يسمح بإقامة تعايش مشترك تربط بينهم فيه مصلحة مشتركة، وفي والوقت نفسه، توفير علاقة يعترف الآخرون من خلالها إلى طبيعة المسلمين على أرض الواقع والمعاملة الحسنة التي هي التطبيق العملي للدين الجديد وتعاليمه.

ومنها: بيان للناس عن حقائق الإسلام وأنه يعظم شعائر الله، وأن زعماء الشرك في مكة يدفعون العرب إلى حلف ظالم لمواجهة المسلمين، فإن كانت قريش صادقة في تعظيم شعائر الله فلماذا تحارب الذين يعظمون شعائر الله، وهذا يفيد في إبطال حجة العرب في التحالف مع قريش وحجة قريش في دفع القبائل للتحالف معها .

وقد أنزل الله سبحانه وتعالى في سورة الفتح آيات تكشف موقف الأعراب والمتخلفين من العرب عن مشاركة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمرة

( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ۚ بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) [سورة الفتح]

زمن الحديبية

كان صلح الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة

عدد أصحاب رسول الله إلى العمرة

بلغ عدد الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ألف وأربعمائة وخمسين رجلاً وعدداً من النساء والصبيان، وكانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم معه، وكان فيهم أعراب وبدو، وبعضهم أهَلَّ بالعمرة وبعضهم لم يفعل، وكان منهم بعض المنافقين أمثال عبد الله بن أبي بن سلول والجدّ بن قيس، وبعضهم ساق البُدن وبعضهم غير ذلك من الشياة. 

هدف الخروج إلى الحديبية

لم يكن من هدف حربي في غزوة الحديبية، ولم يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من ذلك سوى ما وقع من مدافعة قريشٍ للعمرة وشائعة قتل المشركين رسول رسول الله عثمان في مكة مما دعى لبيعة الرضوان.

سياسة الحيطة والحذر النبوية .

كان الرسول صلى الله عليه وسلم على جانب كبير من الحيطة والحذر، فقد أرسل بشر بن سفيان الخزاعي عينًا له ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فقدمه أمامه طليعة في خيل المسلمين من عشرين فارسًا، وكان فيها رجال من المهاجرين والأنصار، وكان هدفه صلى الله عليه وسلم من ذلك الاستعداد للطوارئ التي يمكن أن يفاجأ بها، وأيضا فقد كانت مهمة هذه الطليعة استكشاف خبر العدو. 

وأخذ صلى الله عليه وسلم بمشورة عمر في ذي الحليفة عندما قال له: يا رسول الله تدخل على قوم هم لك حرب بغير سلاح ولا كراع؟ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من يحمل له الكراع والسلاح، وكان قصده صلى الله عليه وسلم من ذلك: الاستعداد لهؤلاء الأعداء، الذين يملكون السلاح والعتاد ما يستطيعون به إلحاق الأذى بالمسلمين والنيل منهم، وهذا التعامل مع سنة الأخذ بالأسباب من هديه الكريم الذي جعله لأمته لتقتدي به من بعده صلى الله عليه وسلم، لما في ذلك من المصالح الكثيرة، ولما فيه من درء مكايد الأعداء الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر

وصول النبي صلى الله عليه وسلم عسفان . 

لما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم عسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي الخزاعي، فقال: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك ومعها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش؟ والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهر الله له أو تنفرد هذه السالفة». 

وقد استشار صلى الله عليه وسلم أصحابه لما بلغه خبر استعداد قريش لصده عن دخول البيت الحرام، وعرض صلى الله عليه وسلم على الصحابة -رضي الله عنهم- المشورة في هذا الأمر على رأيين يحملان العزم والتصميم: 

1- الميل إلى عيال وذراري الأحابيش الذين خرجوا لمعاونة قريش على مقاتلة المسلمين وصدهم عن البيت. 

2- قصد البيت الحرام ، فمن صده عنه قاتله حتى يتمكن من تحقيق هدفه. ولما عرض صلى الله عليه وسلم المشورة في هذا الأمر على الصحابة تقدم أبو بكر الصديق برأيه الذي تدعمه الحجة الواضحة، حيث أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك قتالهم والاستمرار على ما خرج له من أداء العمرة حتى يكون بدء القتال منهم، فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرأي وأخذ به وأمر الناس أن يمضوا في هذا السبيل. وعندما اقتربت خيل المشركين من المسلمين صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف بعسفان. 

الرسول صلى الله عليه وسلم يغير الطريق وينزل بالحديبية.

ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشًا قد خرجت تعترض طريقه وتنصب كمينًا له ولأصحابه بقيادة خالد بن الوليد، وهو لم يقرر المصادمة رأى أن يغير طريق الجيش الإسلامي تفاديًا للصدام مع المشركين، فقال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله، فسلك بهم طريقا وعرًا بين شعاب شق على المسلمين السير فيه حتى خرجوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، وعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: «قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوا ذلك. فقال: «والله إنها الحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها».

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمش في طريق تخرجه إلى ثنية المرار، مهبط الحديبية من أسفل مكة، فسلك الجيش ذلك الطريق بخفة ودون أن يشعر به أحد، فما نظر خالد إلا وقترة جيش المسلمين قد ثارت، فعاد مسرعًا هو ومن معه إلى مكة يحذر أهلها, ويأمرهم بالاستعداد لهذا الحدث المفاجئ ، وقد أصاب الذعر المشركين وفوجئوا بنزول الجيش الإسلامي بالحديبية حيث تعرضت مكة للخطر، وأصبحت مهددة من المسلمين تهديدًا مباشرًا. 

يقول اللواء محمود شيت في هذا الدرس الرائع: لم تكن حركة المسلمين على هذا الطريق خوفًا من قوات الجيش، فالذي يخاف من عدوه لا يقترب من قاعدته الأصلية، وهي مركز قواته، بل يحاول الابتعاد عن قاعدة العدو الأصلية حتى يطيل خط مواصلات العدو، وبذلك يزيد من صعوباته ومشاكله، ويجعل فرصة النصر أمامه أقل من حالة الاقتراب من قاعدته الأصلية. 

وعندما اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية، بركت ناقته القصواء، فقال الصحابة رضي الله عنهم: خلأت القصواء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل»، ثم قال: «والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» ثم زجرها فوثبت ثم عدل عن دخول مكة، وسار حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد –بئر- قليل الماء، ما لبثوا أن نزحوه ثم اشتكوا إلى رسول 

الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهمًا من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيها، فجاش لهم بالري فارتووا جميعا، وفي رواية أنه جلس على شفة البئر فدعا بماء فمضمض ومج في البئر.

محاولات قريش لصد المسلمين عن مكة . 

كان المسلمون في الحديبية على يقظة وحذر يقوم على حراستهم: أوس بن خوليّ وعبّاد بن بشر ومحمد بن مسلمة يتناوبون الحراسة.

ولقد حاولت قريش الإغارة على المسلمين.

- بعثت قريش ليلاً بخمسين رجلاً عليهم مكرز بن حفص وأمروهم أن يطيفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يصيبوا منهم أحداً أو يصيبوا منهم غرةً، فأخذهم محمد بن مسلمة وأصحابه فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- بلغ قريشاً حبس أصحابهم، فجاء جمع من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى تراموا بالنبل والحجارة وأسروا أيضاً من المشركين حينئذ أسرى.

إصرار رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحة إعلانه في العمرة

على الرغم من الحوادث المتعددة التي افتعلتها قريش لصد المسلمين عن أداء العمرة أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه خرج للعمرة، فلم يبادل الفرسان بقيادة خالد بن الوليد ما جاؤوا لأجله، وغير طريقه لمنع حدوث مواجهة بين المسلمين والمشركين ثم أحاط المسلمون بمجموعة أخرى من رجال قريش قدموا يتحينون غرة يصيبون فيها المسلمين، فأسروهم ولم يصادموهم، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفريقين جميعاً إلى مكة، ليثبت لهم أنه جاء معتمراً ولم يأت محارباً، كما أكد ذلك أيضاً لوفود قريش، وقبل هذا وذاك فقد ساق الهديَ وأشعَرَ وأحرمَ بالعمرة هو وأصحابه ولم يظهر عليهم أي شيء من مظاهر الحرب، كما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة رُسلاً له يبين لزعماء قريش أنه جاء معتمراً معظماً لشعائر الله .

محاولة قريش اجتذاب حليفها السابق عبد الله بن أبي. 

أرسلت قريش إلى عبد الله بن أبيّ: إن أحببت أن تدخل فتطوف فافعل، وابنه جالسٌ عنده فقال له ابنه: يا أبتِ، اذكرك الله أن تفضحنا في كل موطن، تطوف بالبيت ولم يَطف رسول الله؟ فأبى ابن أبي وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه فَسُرَّ به.

رسل قريش .

جاء عدد من سفراء قريش للتفاوض الواحد تلو الآخر، فكان أولهم بديل بن ورقاء الخزاعي الذي أشار على النبي أن يرجع لأن قريشاً استنفرت كل قوتها لمنع دخول الرسول عليهم عنوةً، فكان رد الرسول له: « إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشاً قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِى وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا (أي استراحوا من جهد الحرب ) ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِى هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ »، فأخبر بديل قريشاً بكلام الرسول فأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي.

سفارة عروة بن مسعود الثقفي

لم تقبل قريش ما نقله بديل بن ورقاء الخزاعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء زائرًا للبيت ولم يأت مقاتلاً، واتهمتهم، بل وأسمعتهم ما يكرهون فاقترح عليهم عروة بن مسعود الثقفي أن يقابل الرسول صلى الله عليه وسلم ويسمع منه، ثم يأتيهم بالخبر اليقين. 

فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإنني والله لا أرى وجوهًا، وإني لأرى أشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك، فقال أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذاك؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. 

لقد حاول عروة بن مسعود أن يشنَّ على المسلمين حربًا نفسية حتى يهزمهم معنويًّا، فاستخدم عنصر الإشاعة ويظهر ذلك عندما لوح بقوة قريش العسكرية، معتمدًا على المبالغة في تصوير الموقف بأنه سيؤول لصالح قريش لا محالة، وذلك بأن يوقع الفتنة والإرباك في صفوف المسلمين ، وذلك حينما حاول إضعاف الثقة بين القائد وجنوده عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرى أشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك, حاول ذلك من أجل التأثير على نفسيات المسلمين ولخدمة أهداف قريش العسكرية والإعلامية، وحاول أيضا أن يفتعل أزمة عسكرية كبيرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وجنوده من أجل التأثير على معنوياتهم وتحطيم عزائمهم، وهذا من أقوى أساليب الحرب النفسية التي استخدمت ضد المسلمين، أثناء تلك المفاوضات. 

وحاول عروة أن يثير الرعب وذلك بتخويف المسلمين من قوة قريش التي لا تقهر، وتصوير المعركة بأنها في غير صالحهم، لقد مارس عروة بن مسعود في مفاوضته عناصر الحرب النفسية من إشاعة وافتعال الأزمات وإثارة الرعب إلا أن تلك العناصر تحطمت أمام الإيمان العميق والتكوين الدقيق والصف الإسلامي المرصوص.

ومن المفارقات الرائعة التي حصلت أثناء المفاوضات مع عروة بن مسعود وهي من عجائب الأحداث التي يستشف منها الدليل القاطع على قوة الإيمان التي كان يتمتع بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى قدرة هذا الدين في تحويل الإنسان من شيطان مريد إلى إنسان فاضل نبيل، حيث كان أحد الذين يتولون حراسة النبي صلى الله عليه وسلم أثناء محادثاته مع عروة بن مسعود الثقفي في الحديبية هو المغيرة بن شعبة-ابن أخي عروة بن مسعود نفسه- وكان المغيرة هذا قبل أن يهديه الله للإسلام شابًّا فاتكًا سكيرًا، قاطعًا للطريق غير أن دخوله للإسلام حوله إلى إنسان آخر، وقد أصبح بفضل الله تعالى من الصفوة المؤمنة، وقد وقع عليه الاختيار ليقوم بمهامّ حراسة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الجو الملبد بغيوم الحرب، وكان من عادة الجاهلية في المفاوضات، أن يمسك المفاوض بلحية الذي يراه ندًّا له أثناء الحديث، وعلى هذه القاعدة كان عروة بن مسعود يمسك بلحية رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء المناقشة، الأمر الذي أغضب المغيرة بن شعبة الذي كان قائمًا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف يحرسه وعلى وجهه المغفر فانتهر عمه وقرع يده بقائم السيف قائلاً له: اكففْ يدك عن مس لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم للذي يجري بين عروة المشرك وبين ابن أخيه المؤمن، ولما كان المغيرة بن شعبة يقف بلباسه الحربي متوشحًا بسيفه ودرعه وعلى وجهه المغفر، فإن عمه عروة لم يكن باستطاعته معرفته، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في أشد الغضب، ليت شعري من أنت يا محمد؟ من هذا الذي أرى من بين أصحابك؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، فقال له عمه: وأنت بذلك يا غُدر؟ لقد أورثتنا العداوة من ثقيف أبد الدهر، والله ما غسلت غدرتك إلا بالأمس. كان المغيرة صحب قومًا في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء. 

لقد فشل عروة في مفاوضاته، ورجع محذرًا قريشًا من أن تدخل في صراع مسلح مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال لهم: يا قوم والله لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على قيصر وكسرى، والنجاشي، وإني والله ما رأيت ملكًا قط أطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمد وأصحابه، والله ما يشدون إليه النظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلا أن يشير إلى أمر فيُفعل، وما يتنخم وما يبصق إلا وقعت في يدي رجل منهم يمسح بها جلده، وما يتوضأ إلا ازدحموا عليه أيهم يظفر منه بشيء، وقد حزرت القوم، واعلموا إنكم إن أردتم السيف، بذلوه لكم، وقد رأيت قومًا ما يبالون ما يصنع بهم، إذا منعوا صاحبهم، والله لقد رأيت نسيات معه، وإن كن ليسلمنه أبدًا على حال، فروا رأيكم، وإياكم وإضجاع الرأي فمادوه يا قوم، اقبلوا ما عرض فإني لكم ناصح مع أني أخاف ألا تنصروا عليه؛ رجل أتى هذا البيت معظمًا له، معه الهدي، ينحره وينصرف، فقالت قريش: لا تكلم بهذا يا أبا يعفور لو غيرك تكلم بها للمناه، ولكن نرده عن البيت في عامنا هذا ويرجع قابل. 

ثم أرسلت قريش رجلاً من كنانة يقال له الحلس بن علقمة زعيم الأحابيش فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « هَذَا فُلاَنٌ، وَهْوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ ». فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِى لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ. 

وحاولت قريش أن تتلافى هذا الموقف الذي يهدد بانقسام خطير في جبهة قريش العسكرية، ونسف الحلف المعقود بين قريش والأحابيش، وقالوا لزعيم الأحابيش: إنما كل ما رأيت هو مكيدة من محمد وأصحابه، فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به. 

فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فَقَالَ: دَعُونِى آتِهِ، فَقَالُوا ائْتِهِ. فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: « هَذَا مِكْرَزٌ وَهْوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ ». 

فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم .

الوفود النبوية إلى قريش.

رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن من الضرورة إرسال مبعوث خاص من جانبه إلى قريش يبلغهم نواياه السلمية بعدم الرغبة في القتال، واحترام المقدسات، ومن ثم أداء مناسك العمرة، والعودة إلى المدينة، فوقع الاختيار على أن يكون مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريش (خراش بن أمية الخزاعي) وحمله على جمل يقال له (الثعلب) ، فلما دخل مكة عقرت به قريش وأرادوا قتل خراش فمنعهم الأحابيش، فعاد خراش بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما صنعت قريش ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل سفيرًا آخر بتبليغ قريش رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووقع اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر على عمر بن الخطاب ، فاعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذهاب إليهم، وأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث عثمان مكانه، وعرض عمر رضي الله عنه رأيه هذا معززًا بالحجة الواضحة، وهي ضرورة توافر الحماية لمن يخالط هؤلاء الأعداء، وحيث إن هذا الأمر لم يكن متحققًا بالنسبة لعمر ، فقد أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بعثمان ، لأن له قبيلة تحميه من أذى المشركين حتى يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لرسول الله: إني أخاف قريشًا على نفسي، قد عرفت عداوتي لها، وليس بها من بني عدي من يمنعني، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم فلم يقل رسول الله شيئًا، قال عمر: ولكن أدلك يا رسول الله على رجل أعز بمكة مني، وأكثر عشيرة وأمنع، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فقال: «اذهب إلى قريش فخبرهم أنا لم نأتِ لقتال أحد، وإنما جئنا زوارًا لهذا البيت، معظمين لحرمته، معنا الهدي، ننحره وننصرف» فخرج عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى أتى بلدح فوجد قريشًا هنالك فقالوا: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، تدخلون في الدين كافة، فإن الله مظهر دينه ومعز نبيه، وأخرى تكفون ويلي هذا منه غيركم فإن ظفروا بمحمد فذلك ما أردتم، وإن ظفر محمد كنتم بالخيار أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون، إن الحرب قد نهكتكم، وأذهبت بالأماثل منكم.. فجعل عثمان يكلمهم فيأتيهم بما لا يريدون ويقولون: قد سمعنا ما تقول ولا كان هذا أبدًا، ولا دخلها علينا عنوة، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا. 

فقام إليه أبان بن سعد بن العاص فرحب به وأجاره وقال: لا تقصر عن حاجتك، ثم نزل عن فرس كان عليه، فحمل عثمان على السرج وردفه وراءه، فدخل عثمان مكة، فأتى أشرافهم رجلاً رجلاً، أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية وغيرهما منهم من لقي ببلدح، ومنهم من لقي بمكة، فجعلوا يردون عليه: إن محمدًا لا يدخلها علينا أبدًا. 

وعرض المشركون على عثمان رضي الله عنه أن يطوف بالبيت فأبى وقام عثمان بتبليغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المستضعفين بمكة، وبشرهم بقرب الفرج والمخرج، وأخذ منهم رسالة شفهية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيها: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم منا السلام، إن الذي أنزله بالحديبية لقادر على أن يدخله بطن مكة. 

قال عثمان بن عفان عن أيامه بمكة: كنت أدخل على قوم مؤمنين من رجال ونساء مستضعفين فأقول: إن رسول الله يبشركم بالفتح ويقول: أُظلكم حتى لا يستخفي بمكة الإيمان، فقد كنت أرى الرجل منهم والمرأة تنتحب حتى أظن أنه يموت فرحاً بما خبّرته، فيسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخفي المسألة، ويشتد ذلك على أنفسهم ويقولون: أقرأ على رسول الله منا السلام.

إن الذي أنزله الحديبية لقادر أن يُدخله بطن مكة، وظن المسلمون في الحديبية أن عثمان يطوف بالبيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظن عثمان يطوف بالبيت ونحن محصورون. فلما رجع عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: اشتفيت من البيت يا عبد الله! قال عثمان: بئس ما ظننتم بي، لو كنت بها سنة والنبي مُقيم بالحديبية ما طفت، ولقد دعتني قريش إلى أن أطوف فأبيت ذلك عليها. فقال المسلمون: لَرسولُ الله كان أعلمنا بالله تعالى وأحسنُنَا ظناً.

 بيعة الرضوان.

أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجال من أصحابه أن يدخلوا مكة على أهليهم عددهم عشرة وهم: كرز بن جابر الفهري، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وعيّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل، وحاطب بن أبي بلتعة، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس، وعبد الله بن حُذافة، وأبو الروم بن عُمير، وعُمير بن وهب، وعبد الله بن أبي أمية، وكان عثمان بن عفان قد أقام في مكة ثلاثاً، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان بن عفان وأصحابه قد قتلوا. وقد كان مما صنع الله للمسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه فنادى: [إن روح القدس قد نزل على الرسول وأمر بالبيعة، فأخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوا] فسارع الناس إلى البيعة، فبايعهم على ألا يفرو، وقال قائل: بايعهم على الموت، وكان أول من بايع سنان بن أبي سنان، فقال: أبايعك على ما في نفسك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس على بيعة سنان، ثم قال: إن عثمان ذهب في حاجة الله وحاجة رسوله، فأنا أبايع له، فضرب يمينه على شماله

قال تعالى في سورة الفتح: ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) 

(لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا). 

أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة الرضوان، أنه وإن جاء معتمراً معظماً لشعائر الله، لكنه والمؤمنون معه لا يضعفون ولا يتخاذلون في الدفاع عن أنفسهم ورد الأذى عنهم، وتأديب من تسوّل له نفسه الغدر بالمسلمين. 

ومن المهم جداً ملاحظة وقائع البيعة، فقد: بايع المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما في نفسه وعلى الحرب وعلى ألا يفروا من الزحف.

وكان يشاهد البيعة وفد قريش بزعامة سهيل بن عمرو ورجال آخرون من العرب يرصدون الأحداث ليُعلموا بها قبائلهم ، فكانت لوناً عظيماً من ألوان الحرب المعنوية يهزُّ بها أركان الشرك والوثنية وهي بالتالي الفتح المبين الذي تتحقق وناب مناب الحرب والصراع المسلح .

عودة وفد قريش إلى مكة لما رأوا بيعة الرضوان.

ورجع حويطب بن عبد العُزى وسهيل بن عمرو ومكرز بن حفص إلى قريش، فأخبرهم بما رأوا من سرعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة وما جعلوا له، فقال أهل الرأي منهم: ليس خيرُ من أن يصالح محمداً على أن ينصرف عنا عامه هذا ويرجع قابل فيقيم ثلاثاً وينحر هديه وينصرف، ويقيم ببلدنا ولا يدخل علينا ، فأجمعوا على ذلك، وبعثوا سهيل بن عمرو ومعه مكرز بن حفص وحويطب بن عبد العُزى وقالوا: ائتِ محمداً فصالحه، وليكن في صلحك لا يدخل في عامه هذا، فوالله لا يتحدث العرب أنك دخلت علينا عنوةً .

أثر البيعة على قريش . 

فلما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: سَهُلَ أمرهم! قال سهيل: مَن قاتلك لم يكن من رأي ذوي رأينا ولا ذوي الأحلام منا، بل كنا له كارهين حين بلغنا ولم نعلم به، وكان من سفهائنا! فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة والذين أسرت آخر مرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني غير مرسلهم حتى ترسل أصحابي. قال سهيل: أنصفتنا! فبعث سُهيل وأصحابه إلى قريش الشُتيم بن عبد مناف التيمي، وقد نظرت قريش إلى ما رأت من سرعة الناس إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب، اشتد رعبهم وخوفهم وأسرعوا إلى القضية.

وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم زعماء قريش أمام خيارات متعددة تدفع قريشاً إلى عقد الصلح ساقهم إليه بدقة وموضوعية تذكرها لنا الوقائع التالية

. إلغاء خيار الحرب والتصادم الحربي بين الفريقين

- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية بعد أن حُبست ناقته القصواء: (أما والله لا يسألونني اليومَ خُطة فيها تعظيم حُرمة الله إلا أعطيتهم إياها) 

- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبُديل بن ورقاء الخزاعي بعد أن اطمأن في الحديبية: (إنا لم نأت لقتال أحد، إنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه، وقريش قومٌ قد أضرّت بهم الحرب ونهكتهم، فإن شاؤوا ماددتهم مُدة يأمنون فيها، ويُخلون فيما بيننا وبين الناس، والناس أكثرُ منهم، فإن ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس أو يُقاتلوا وقد جمعوا! والله لأجهدن على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو يُنفذ الله أمره ! وحمل بُديل بن ورقاء ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبلغه زعماء قريش

- إيقاع الإنقسام والتشتت بين زعماء قريش فيما بينهم وبين حلفائهم من الأحابيش.

لذلك كله توجه زعماء الشرك في مكة راغمين إلى عقد صلح الحديبية وأرسلوا لهذا الغرض وفدهم بزعامة سهيل بن عمرو .

فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: « لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ ». 

وقائع المفاوضات .

أتى سهيل للنبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه النبي حين طلع قال: أراد القوم الصلح، فكلم رسول الله فأطال الكلام، وتراجعوا، وترافعت الأصوات وانخفضت، وكانت المفاوضات تدور حول الأمور التي حمّلتها قريش لسهيل بن عمرو، ونجح رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوصول إلى صلح مع قريش، ولم يبق إلا كتابته بين الفريقين .

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً يومئذ متربعاً، وعبّاد بن بشر وسلمة بن أسلم مقنعان بالحديد قائمان على رأس النبي صلى الله عليه وسلم وفي مواجته سهيل بن عمرو باركٌ على ركبتيه والمسلمون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون ويسمعون ما يجري من محادثات، ويجلس حويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص خلف سهيل بن عمرو، واضطربت نفوس بعض الصحابة حول بعض الفقرات وظنوا بها ذلة في دين الله .

كتابة الصلح وشروطه

لما حضرت الدواة والصحيفة بعد طول الكلام والمراجعة ولَمّا التأم الأمر وتقارب، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يكتب الكتاب بينهم، ودعا أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل بن عمرو: لا يكتب إلا أحد الرجلين علي بن أبي طالب ابن عمك، أو عثمان بن عفان، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً يكتب.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهيل: لا أعرف الرحمن، اكتب كما نكتب؛ باسمك اللهم، فضاق المسلمون من ذلك وقالوا: هو الرحمن، وقالوا لا تكتب إلا الرحمن ، قال سهيل: إذاً لا أقاضيه على شيء.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم! هذا ما اصطلح عليه رسول الله.

فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟ فضجّ المسلمون منها ضجةً هي أشدّ من الأولى حتى ارتفعت الأصوات، وقام رجالٌ من أصحاب رسول الله يقولون: لا تكتب إلا محمد رسول الله، فقام أُسيد بن حُضير وسعد بن عبادة فأخذا بيد عليّ فأمسكاها وقالا: لا تكتب إلا محمد رسول الله وإلا فالسيف بيننا! علام نعطي الدنيّة في ديننا؟ 

فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: « وَاللَّهِ إِنِّى لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِى. اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ».

ثُمَّ قَالَ لِعَلِىٍّ رضي الله عنه : « امْحُ رَسُولُ اللَّهِ ». قَالَ: لاَ، وَاللَّهِ لاَ أَمْحُوكَ أَبَداً، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكِتَابَ.

فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخفضهم ويوميءُ بيده إليهم: اسكتوا! وجعل حويطب يتعجب مما يصنعون، ويُقبلُ على مكرز بن حفص ويقول: ما رأيت قوماً أحوط لدينهم من هؤلاء القوم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم. فنزل قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا (110) [سورة الإسراء]

فقال رسول الله : أنا محمد بن عبد الله، فاكتب، فكتب: باسمك اللهم: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكفُّ بعضهم عن بعض على أنه لا إسلال _السرقة الخفية_ ولا إغلال _ الخيانة_ وأن بيننا عيبة مكفوفة _تكف عنا ونكف عنك_ وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل، وأنه من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل.

وأنه من أتى محمداً منهم بغير إذن وليه ردّه إليهم، وأنه من أتى قريشاً من إصحاب محمد لا ترده. 

قَالَ لَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: « عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ ». فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ، وأنَّ محمداً يرجع عامه هذا بأصحابه، ويدخل علينا قابل في أصحابه فيقيم ثلاثاً لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح السافر، السيوف في القرب

وشهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد بن مسلمة، وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص بن الأخيف.

وكُتب ذلك على صدر هذا الكتاب

فلما كُتب الكتاب قال سهيل: يكون عندي! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عندي! فاختلفا، فكُتب له نسخةٌ ثانية، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب الأول وأخذ سهيل نسخته .

 وصول أبي جندل بن سهيل بن عمرو

فبينا الناس على ذلك قد اصطلحوا والكتاب لم يكتب، أقبل أبو جندل بن سهيل، قد أفلتَ يرسفُ في القيد مُتوشح السيف خَلا لَهُ أسفلُ مكة، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكاتب سُهيلاً، فرفع سهيل رأسه فإذا بابنه أبي جندل، فقام إليه سهيل فضرب وجهه بغُصن شوك، وأخذَ بِلَبتِه، وصاح أبو جندل بأعلى صوته يا معشر المسلمين، أُردُّ إلى المشركين يفتنوني عن ديني؟ فزاد المسلمين ذلك شراً إلى ما بهم، وجعلوا يبكون لكلام أبي جندل ..

يقول حويطب بن عبد العزى لمكرز بن حفص: ما رأيت قوماً قط أشدُّ حباً لمن دخل معهم من أصحاب محمد لمحمد وبعضهم لبعض! أما إني أقول لك لا تأخذ من محمد نَصفاً أبداً بعد هذا اليوم حتى يدخلها عنوةً! فقال مكرز: أنا أرى ذلك

وأصرَّ سهيل بن عمرو على رد أبي جندل، ورسول الله يحاول أن يدعَ أبا جندل له، فأبى سهيل .

خشي مكرز بن حفص وحويطب بن عبد العُزى من فشل المعاهدة بسبب مشكلة أبي جندل فقالا: يا محمد نحن نُجيرهُ لك، فأدخلاه فسطاطاً فأجاراه، وكف أبوه عنه، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال: يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإن الله جاعلٌ لك ولِمَن معك فرجاً ومخرجاً! إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صُلحاً، وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهداً، وإنا لا نغدر. 

وعاد عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألستَ برسول الله؟ قال بلى،قال: ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال عمر: فَلمَ نُعطي الدنيّة في ديننا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله، ولن أعصيه ولن يُضيعني، فانطلق عمر حتى جاء إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: إنه رسول الله ولن يعصيه ولن يُضيعه، ودَع عنك ما ترى يا عمر..

فوثب عمر إلى أبي جندل يمشي إلى جنبه، وسُهيل بن عمرو يدفعه، وعُمر يقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هُم المشركون، وإنما دم أحدهم دمُ كلب، وإنما هو رجل وأنت رجل ومعك السيف! وكان عمر يرجو أن يأخذ أبو جندل السيف ويضرب أباه.

فضن الرجل بأبيه، فقال عمر: يا أبا جندل، إن الرجل يقتل أباه في الله، والله لو أدركنا آبائنا لقتلناهم في الله فرجل برجل. فأقبل أبو جندل على عمر فقال: مالك لا تقتله أنت؟ قال عمر: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله وقتل غيره، قال أبو جندل: ما أنت بأحق بطاعة رسول الله مني.

وقال عمر ورجال معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله، ألم تكن حدثتنا أنك ستدخل المسجد الحرام، وتأخذ مفتاح الكعبة وتُعرِّف مع المعرفين؟ وهَديُنا لم يصل إلى البيت ولا نحن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت لكم في سفركم هذا؟ قال عمر: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنكم ستدخلونه، وآخذ مفتاح الكعبة، وأحلق رأسي ورؤوسكم ببطن مكة، وأعرّف مع المعرّفين.

قال عمر: فما زلت أتصدق وأصوم وأُصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به حين رجوت أن يكون خيراً .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين