مُخلّص الأسرى ومنقذ السجناء مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه

إنه الشاب البطل المجاهد، الذي نال شرف الصحبة، وشرف الجهاد تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد القادة المخلصين النجباء، الذين يضحون بأنفسهم من أجل نشر الدعوة الإسلامية، وحمايتها والدفاع عنها، ويسعى في إنقاذ الأسرى، وتخليص السجناء، من براثن المشركين في مكة المكرمة، ممن منعهم أعداء الله من الهجرة، واللحاق بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة.

ذلك هو الصحابي الفارس الشجاع، مرثد بن أبي مرثد. وأبو مرثد هو كناز الغنوي من غنى بن أعصر بن قيس عيلان. وكان ترباً لحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، وحليفه، وكان رجلاً طـُوالاً كثير شعر الرأس نزل بعد خروجه من مكة مهاجراً مع ابنه مرثد على كلثوم بن الهدم، أخي بني عمرو بن عوف بـ " قباء " وفيها مساكنهم رضي الله عنهم، والتي فيها المسجد المعروف، الذي يزار حتى يوم الناس هذا، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان كثيراً ما يخرج إليه ضحوة النهار من المدينة المنورة ويصلي فيه، وهو المسجد المسمى بمسجد "التقوى" ، وذلك لقوله تعالى في كتابه العزيز: "لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجل يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين". وذلك تمييزاً لهذا المسجد المبارك عن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون، تشتيتاّ لأمر المسلمين، ولكن رسول الله هدمه، وأبطل كيدهم .

وبهذا يكون أبو مرثد رضي الله عنه وابنه من المهاجرين الأولين، وقد شهد أبو مرثد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بالمدينة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه سنة ست وستين.

إن هذا الشبل من ذاك الأسد

إذا كان الوالد كذلك، فلنأت على سيرة الولد مرثد رضي الله عنه، ومعنى مرثد كما في القاموس المحيط: مرثد الرجل الحكيم والأسد، فهذا الاسم يجمع صفتين عظيمتين محبوبتين القوة والشجاعة إلى جانب الحكمة، وبهذا ينطبق عليه المثل العربي: "لكل مسمىً من اسمه نصيب".

لقد ولد مرثد في مكة المكرمة، ودخل الإسلام في سن مبكرة، وهاجر مع أبيه إلى المدينة المنورة، فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أوس بن الصامت أخي عبادة بن الصامت الذي كان أخاً لأبيه رضي الله عنهم أجمعين. فنشأ مرثد في مدرسة النبوة، وتربى في رحاب مسجدها المبارك، فأصبح من أمراء السرايا، وكرام الصحابة، ومن أصحاب السيرة الحميدة حتى يوم استشهاده رضي الله عنه.

ومما جاء في وصفه الخَلْقي والخُلُقي: أنه كان ذا بنية قوية، ويتميز بالخفة والسرعة، إلى جانب الجرأة والشجاعة، والقدرة على التحمل، والصبر على الشدائد، التي تؤهله للقيام بالمهمات الجسام. ولذلك اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر عظيم، وكلفه بالتردد على مكة المكرمة مستخفياً لتحرير أسرى المسلمين المستضعفين من سجون قريش. وله في ذلك أخبار وقصص عجيبة سنأتي على ذكر إحداها إن شاء الله تعالى.

من أخبار جهاده رضي الله عنه

كانت أول مشاركة له في الجهاد بعد الهجرة، خروجه مع أبيه في سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. فقد جاء في تهذيب سيرة ابن هشام تحت عنوان " سرية حمزة إلى سيف البحر " وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامه ذلك حمزة بن عبد المطلب بن هاشم إلى سيف البحر من ناحية العيص، في ثلاثين راكباً من المهاجرين ليس فيهم أحد من الأنصار، فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، فحجز بينهم مجديّ بن عمرو الجهني، وكان موادعاً للفريقين، فانصرف بعض القوم عن بعض، ولم يكن بينهم قتال.

وذكر ابن إسحاق أن فيمن شهد بدراً أبو مرثد كناز بن حصين وابنه مرثد بن أبي مرثد، ومما حفظته لنا كتب السيرة عنه رضي الله عنه في هذه الغزوة أنه كان يعتقب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب بعيراً واحداً يوم سيرهم إلى بدر – ولم يكن للمسلمين في ذلك المسير إلا سبعون بعيراً – فإذا كانت عقبة النبي صلى الله عليه وسلم – أي فترة مشيه – قال له: اركب يا رسول الله حتى غشي عنك، فيقول صلى الله عليه وسلم: "ما أنتما بأقوى على المشي مني، وما أنا أغنى عن المشي منكما". )طبقات ابن سعد)

كما لم يكن معهم في هذه الغزوة إلا فرسان كما هو معروف في كتب السيرة، إحداهما لمرثد بن أبي مرثد، وكان يقال له: )السَّبل )، والآخر للمقداد بن عمرو البهراني رضي الله عنه. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة بسهم للفرس، وسهم لصاحبه، فكان له رضي الله عنه في غنائم بدر سهمان. وقد أبلى في هذه الغزوة بلاءً حسناً، وشارك في إحراز النصر المؤزر للمسلمين على المشركين، وأسر فيها من المشركين رجلاً يقال له: أبو ثور، فافتداه من جبير بن مطعم. كما شهد أحد مقاتلي جيش المشركين.

غزوة أحد مع من شهدها من المسلمين

مرثد رجل المهمات الجسام

إن من المهمات العسكرية ، والأعمال البطولية ، والحركات الفدائية ، أموراً ووظائف لن يستطيعها إلا القلة القليلة من الرجال ، ممن منحهم الله تعالى أجساما قوية ، وقلوباً حديدية ، وهمة عالية ، لا توقفها شدة ، ولا تمنعها جبال راسية ، إلى جانب إيمان عميق ، وإخلاص راسخ لله العزيز المجيد .

وكان من هذه الثلة المباركة الصحابي المجاهد مرثد بن أبي مرثد رضي الله عنه ، الذي انتدب لتخليص أسارى المسلمين في مكة المكرمة وفك قيودهم والمجيء بهم إلى المدينة المنورة ، ليعيشوا عز الإسلام وعدل الإسلام في كنف النبي صلى الله عليه وسلم .

يقول اللواء محمود شيت خطاب تحت عنوان "الإنسان القائد" كان المشركون من قريش يحتجزون المسلمين من قريش ومن غيرها ، ليمنعوهم من الهجرة إلى المدينة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وكانوا يطلقون على هؤلاء المسلمين المحتجزين في مكة الأسرى .

وكان مرثد رضي الله عنه ممن يحملون الأسرى سراً من مكة إلى المدينة وذلك لما يتمتع به من قوة وشدة وشجاعة وإقدام .

وخلال تنفيذه رضي الله عنه لإحدى هذه المهمات الشاقة ، ومحاولته استنقاذ أسير من أسرى المسلمين في مكة ، تعرض لامتحان شديد وفتنة عظيمة ، ولكنه صمد لها ، وتمسك بما يمليه عليه إيمان المسلم وتقواه لله تعالى ، فنجاه الله منها . روى الترمذي عن عبيد الله بن الأخنس قال : أخبرني عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له : مرثد بن أبي مرثد ، وكان رجلاً يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة ، قال : وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها : عَناق ، وكانت صديقة له في الجاهلية ، وأنه كان وعد رجلاً من أسارى مكة يحمله إلى المدينة ، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة ، قال : فجاءت عَناق ، فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط ، فلما انتهت إلي عرفت ، فقالت : مرثد ؟ فقلت : مرثد . قالت : مرحبا وأهلا ، هَلم فبت عندنا الليلة . قال : قلت : يا عناق حرم الله الزنا ، قالت : يا أهل الخيام ، هذا الرجل يحمل أسراكم ، قال : فتبعني ثمانية ، وسلكت الخندق –جبل من جبال مكة- فانتهيت إلى كهف أو غار فدخلت ، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي فبالوا فظل بولهم على رأسي وعماهم الله عني. قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته – وكان رجلا ثقيلا ) حتى انتهيت إلى الإذخر ففكت عنه أكبله فجعلت أحمله ويعينني حتى قدمت المدينة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أنكح عناقاً ؟ مرتين ، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يرد عليّ شيئا حتى نزلت الآية : " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك " النور3.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فلا تنكحها . رواه الترمذي "3451"

لقد نجح مرثد بن أبي مرثد في مهمته ، ففك أسيرة وجاء به إلى المدينة سالما ، ونجاه الله من الفتنة وشر البغي ، حينما سار رضي الله عنه على خطى سيدنا يوسف عليه السلام ، عندما قال رداً على قول امرأة العزيز : هيت لك . قال : معاذ الله إن ربي أحسن مثواي ، وهكذا رد مرثد على قول عناق : هلم فبت عندنا، قال: يا عناق إن الله حرم الزنا . وهكذا هو شأن المؤمن المسلم الوقوف عند حدود الله ، والتعفف والبعد عن الفواحش والمنكرات ، فالآية الكريمة حرم الله فيها على المؤمن العفيف الطاهر أن يتزوج الزانية ، كما حرم على المرأة العفيفة الطاهرة أن تتزوج من الزاني ، حفاظاً على شرفه وشرفها ، وحماية وإكراماً لعرضه وعرضها ، ولكي لا يتعرض مسلم أو مسلمة لنخز او لمز بسبب اقترانه بمن اشتهر وعرف والعياذ بالله تعالى بالزنا والفجور والبغاء ، ولذا ختمت الآية بقوله تعالى : "وحرم ذلك على المؤمنين ".

سرية الرجيع .. والخاتمة السعيدة 

في شهر صفر من السنة الرابعة من الهجرة ، بعد غزوة أحد ، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عضَل وقارة – قبائل من العرب – وذكروا أن فيهم إسلاماً ، وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم الدين ، ويقرئهم القرآن ، فبعث معهم ستة نفر وفي رواية عشرة ، وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد غنوي ، فذهبوا معهم ، فلما كانوا بالرجيع – وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز بين رابغ وجدة – استصرخوا عليهم حياً من هذيل يقال لهم بنو لحيان ،فتبعوهم بقرب من مئة رام ،واقتفوا آثارهم حتى لحقوهم ، فأحاطوا بهم ، وقالوا لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً ، فأما مرثد ، وخالد بن البكير ومعتب بن عبيد وعاصم بن ثابت ، فأبوا وقالوا : " والله لا قبلنا لمشرك عهداً أبدا ، فقاتلوهم حتى قتلوا ،وكان عاصم يُكنى أبا سليمان فجعل يقاتلهم وهو يقول :

ما علتي وأن جلد نابك =والقوس فيها وتر عنابل

تزل عن صفحتها المعابل=والموت حق والحياة باطل

وكل ما حمّ الإله نازل=بالمرء والمرءُ إليه آئل

إن لم أقاتلكم فأمي هابل

وهكذا استشهد مرثد ورفاقه الذين رفضوا الاستسلام ، واما الثلاثة الآخرون : زيد بن دثنة ، وخبيب بن عدي ، وعبد الله بن طارق ، فأعطوا بأيديهم ، فأسروا ، فخرجوا بهم إلى مكة ، فلما صاروا بمر الظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القرآن ، ثم أخذ سيفه ، واستأخر عن القوم ، فرموه بالحجارة ، حتى مات رضوان الله عليه ، فقبره بمر الظهران . وأما الشهيدان الآخران فسيكون لنا معهم حديث آخر إن شاء الله تعالى.

وفي رثاء شهداء يوم الرجيع ، يقول شاعر الرسول حسان بن ثابت رضي الله عنه : 

صلى الإله على الذين تتابعوا=يوم الرجيع فأكرموا وأثيبوا

رأس السرية مرثد وأميرهم=وابن البكير أمامهم وخبيب

وكان ذلك في صفر عام 4 هـ .

ولقد كان وقع يوم الرجيع شديداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام ، فقد فقدوا في هذا اليوم عشرة من إخوانهم بما فيهم رئيسهم مرثد بن أبي مرثد رضي الله عنهم أجمعين ، لذلك أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استشهادهم شهراً يقنت في صلاته ويلعن رعلاً وذكوان وبني لحيان ، وكل من شارك في هذا الغدر واللؤم والخيانة من عضل والقارة وكل من دبر هذه المكيدة للصحب الكرام الذين خرجوا يدعون إلى الله ، ويعلمون الناس الإسلام . 

وفي ذلك يقول حسان بن ثابت هاجياً وموبخاً بني لحيان لأنهم كانوا رأس الغدر في هذه السرية:

إن سرك الغدر صرفاً لا مزاج له=فائت الرجيع فسل عن دار لحيان 

قوم تواصوا بأكل الجار بينهم=فالكلب والقرد والإنسان مثلان 

خبث ونفاق 

لقد حاول المنافقون، وكما هي عادتهم دائماً، استغلال هذه الشدة وهذه المصيبة، وهذا الحزن الشديد الذي أصاب المسلمين لفقدانهم لإخوانهم مثل هذه الحيلة والمكيدة، وذلك لبث الضعف في النفوس، وتنفير الصحابة من الخروج للدعوة، وللجهاد فقد جاء في تهذيب سيرة ابن هشام قال: قال ابن عباس رضي الله عنه: لما أصيب السرية التي كان فيها مرثد وعاصم بالرجيع قعدوا في أهلهم، ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله تعالى في ذلك من قول المنافقين :" ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد. وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد". 

فبين جل وعلا في الآية الكريمة سوء طويتهم ، وأنهم يبدون غير ما يظهرون ، فما يظهر على ألسنتهم خلاف ما تكنه صدورهم ، فهم يقولون بألسنتهم أنهم متألمون متحسرون على أصحاب الرجيع ، بينما صدورهم فرحة بما نزل بهم ، وبما أصاب المسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله فضحهم وكشف عما تكن صدورهم من الخصام واللّدد والإفساد في الحرث والنسل . ثم انتقلت الآية الكريمة لتثني على أولئك النفر المجاهدين الصادقين المخلصين ، يقول سبحانه " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد " ويعني بذلك أصحاب تلك السرية سرية الرجيع .

وهكذا ومع غروب شمس يوم الرجيع ، غاب نجم شاب شهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعد حياة حافلة بالبطولات والذود عن الدين الحنيف ، بالرغم من قصر عمره ، فقد أسلم صغيراً ، واستشهد في حياة أبيه رضي الله عنهما ، وفي السنة الرابعة الهجرية ، وبعد ما ترك لنا ولشباب الأمة سيرة عطرة ، مليئة بالتضحية والفداء ، والشجاعة والتقوى ، والطهارة وحسن القيادة ، فكان رضي الله عنه ، نعم الجندي ، ونعم الفدائي ، ونعم الداعية ، ونعم القائد، به وبأمثاله من صحابة رسول الله قامت دولة الإسلام في المدينة المنورة برعاية وقيادة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين