دار المداراة

تختلف نظرة كل واحد منا للأحداث من حوله، وتتباين تقييماته لمجريات الأمور في حياة الناس تبايناً كبيراً واختلافاً واسعاً وكثيراً ، تبعاً لطبيعة المكان الذي يقف فيه ، وهذا المكان الذي يقف فيه ويقوم عليه هو الثقافة التي يتمتع بها الإنسان ، والمعلومات المرتكزة في ذهنه، والتوجه الذي يتبناه ، والفكر الذي يحمله ، وموازين الأشياء التي يقيمها في ذهنه.

وهذا الاختلاف في التعامل مع الأحداث طبيعي وصحي ؛ لأننا بشر، لا نستوي في الإدراك ... ولا نتفق في النظر، ولا نتحد في الفكر.

النـــاسُ شتّــى إذا ما أنتَ ذقـتهــمُ *** لا يستووُنَ كمَـآ لا يستوي الشّجــرُ

هذا لـهُ ثمــرٌ حُــلــوٌ مذاقــتــــــهُ *** وذاكَ لـيسَ لـه طعمٌ ولا ثـَـمــــرُ

ولربما دفع هذا الاختلاف البعض إلى أن ينبذ أخاه المسلم، ويخلع أخوَّته، ويقطع علاقته به، ويصرم حبال مودته ، حتى إذا رآه ازورَّ عنه ، وإذا وجده في مجلس تحاشاه ، أو في مكان تجاهله كأن لم تكن بينه وبينه مودة . 

والشرع والعقل والعرف يقضون بغير هذا، ويرشدون إلى غير ذلك.

إن الواجب في مثل هذه الحالات هو الرفق بالمخالف لي ، والتغاضي عن تضاده ، وتجاهل ما اتخذه من رأي ، وجاهر به من فكرة.

إن المتعين في شبه هذه الظروف التعامل مع الطرف الآخر بشيء من خفض الجناح ولين الجانب وحسن العشرة.

وبعبارة أخرى : لا بد من المداراة ... وإلا خسرنا كل أحد ... وفقدنا القريب والغريب، والرحم والصديق... لا بد من المسايرة ... وإلا لم نجد أحداً حولنا ... وكما قال بشار بن برد: 

إِذا كُنتَ في كُلِّ الذُنوبِ مُعاتِباً *** صَديقَكَ لَم تَلقَ الَّذي لا تُعاتِبُه

فَعِش واحِداً أَو صِل أَخاكَ فَإِنَّهُ *** مُفارِقُ ذَنبٍ مَرَّةً وَمُجانِبُه

إِذا أَنتَ لَم تَشرَب مِراراً عَلى القَذى *** ظَمِئتَ وَأَيُّ الناسِ تَصفو مَشارِبُه

وكما قال النابغة الذبياني: 

وَلَستَ بِمُستَبقٍ أَخاً لا تَلُمَّهُ *** عَلى شَعَثٍ أَيُّ الرِجالِ المُهَذَّبُ

والمداراة على ما عرفها أهل الشأن : هي الملاينة والملاطفة...هي لين الكلام مع الناس وترك الإغلاظ لهم ... هي الدفع برفق في حال عدم الوِفق . 

وهي ليست صفة ضعف، ولا دليل جبن ولا خور، بل هي قرين العقل الراجح ودليل النفس العالية الشامخة القوية، وقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن عروة بن الزّبير أنّ عائشة أخبرته أنّه استأذن على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجل فقال صلّى الله عليه وسلّم: ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة» ، فلمّا دخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله، قلتَ ما قلتَ، ثمّ ألنت له في القول. فقال: «أي عائشة، إنّ شرّ النّاس منزلة عند الله من تركه أو ودعه النّاس اتّقاء فحشه» رواه البخاري، و قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّا نكشر- أي نكشر عن أسناننا - في وجوه أقوام وإنّ قلوبنا لتلعنهم» رواه البخاري معلقاً.

وأمر بها فقال : «مداراة النّاس صدقة» رواه ابن حبان بسند حسن. 

فأنت بمداراتك للناس تتصدق عليهم دون أن تدفع فلساً واحداً ، تتصدق على القاصي والداني، زوجة وولداً... صديقاً وعدواً... محباً أو حاسداً .

بل إنك بدون مداراة قد تتعب وتتعب من معك ... تخسر وتخسر ... فلا تجد بداً من المداراة ...وخصوصا ًمع الزوجة ... قال أبو الدرداء مرة لأم الدرداء «إذا غضبت فرضّيني، وإذا غضبت رضّيتك فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق» .

فلتسمع الأزواج والزوجات ... إنه لا يكاد يمضي من الزواج أشهر يسيرة إلا وهما يطرقان أبواب القضاء... لأن الطرفان لم يعتمدا المداراة في حياتهما ، ولم يغضا الطرف عن بعض الهفوات والزلات ... فخسر كل واحد منهما الآخر. 

وتتعين المداراة مع الناس أيضاً ، قال سيدنا معاوية مقالة تدل على رجاحة عقله وسماحة نفسه وبعد نظره وتأهله للإمارة : «لو أنّ بيني وبين النّاس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف؟

قال: لأنّهم إن مدّوها أرخيتها ، وإن أرخوها مددتها» .

والمداراة لا تعني التنازل عن الحق، والتخلي عن القضية، والانصراف عن المبدأ، والاصطفاف مع الآخر والذوبان فيه... بل كل ما تعنيه اعتماد ما يجمع أكثر مما يفرقنا عن إخواننا، قال لي أحد الفضلاء : ثمة أشياء، أختلف فيها أنا وأنت ، فقلت له: ولكن ما يجمعني بك أكثر مما يفرقني منك ويقصيني عنك، ولله در أبي سليمان الخطابي رحمه الله تعالى : 

ما دمت حيّا فدار النّاس كلّهم *** فإنّما أنت في دار المداراة

من يدرِ دارى ومن لم يدرِ سوف يرى ***عمّا قليل نديماً للنّدامات 

فلا تغفل أيها العاقل عن أن تداري، وإلا أحدقت بك مخاطر كثيرة، وسوَّرتك مخاوف جمة وغفيرة، أو لم تسمع قول زهير بن أبي سلمى : 

وَمَن لا يُصانِع في أُمورٍ كَثيرَةٍ***يُضَرَّس بِأَنيابٍ وَيوطَأ بِمَنسِمِ

فالصبر الصبر ... والمداراة المداراة... والرفق الرفق ... والله الموفق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين