النسبة بين القرآن والسنة

قالوا: أخبرنا بالنسبة الحقيقية بين القرآن والسنة.

قلت: ما الذي أردتم؟

قالوا: اختلفت الطوائف والفرق الإسلامية في مواقفها من السنة، وعلاقة السنة بالقرآن اختلافا كبيرا، فأين أنت من تلك المواقف؟ وبين لنا النسبة الصادقة بين القرآن والسنة بيانا شافيا.

قلت: وقع سؤالكم مني موقعا حسنا، وسأتعرض للمواقف المشهورة القديمة والحديثة تجاه سنة إمام النبيين وسيد المرسلين وحبيب رب العالمين صلى الله عليه وسلم معلقا عليها تعليقا متسما بالعدل والاتزان، غير مجحف في القول ولا راكب شططا، وألخصها في خمسة:

الأول: اقتصر أناس على القرآن مستغنين عن السنة استغناء فيه للجور والطغيان سبيل، وفيه من الصلف والتيه شيء غير قليل، وهو قول مستبشع شنيع، منكر باطل سخيف، مخالف للنقل والعقل، فالله تعالى أمر المؤمنين بإطاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه والتأسي بأسوته في آيات كثيرة جدا، وحذر الذين يخالفون عن أمره تحذيرا بليغا.

وهل يعمل بالقرآن إلا بعد معرفة ما يبين آياته تفسيرا وتطبيقا؟ ومن الغرور والسفاهة والخرق أن يؤخذ بيانه من غير النبي، ولا يؤخذ من النبي الذي ائتمنه الله على خلقه واصطفاه على العالمين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، لا يوشك رجل ينثني شبعانا على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه"، وهذا الذي مثل القرآن مع النبي هو تفسيره وتطبيقه، وهو تفسير كاشف للحق نزيه، وتطبيق دقيق معصوم، وقد تضافرت الأخبار والآثار على الأمر باتباعه والتحذير عن مخالفته. ولا أرى هذا القول الرديء الساقط المرذول يستحق ردا أكثر من هذا.

والثاني: ذهب قوم إلى الأخذ بالسنن المشهورة في الصلاة والحج وما إلى ذلك، وصد الناس عن السنن غير المشهورة وأخبار الآحاد مهما كانت صحيحة من رواية الأئمة العدول الثقات، وهو مذهب كثير من المعتزلة والمتجددين والحداثيين المعاصرين، وهو كذلك مذهب منحرف صارف للمسلمين عن الرحمة الإلهية التي أودعت طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه، ويا ويل هؤلاء! يردون ما جاء من النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، ويلزمون الناس أن يستسلموا لآرائهم الموضوعة ويخضعوا لتأويلاتهم المصنوعة، فما أشبه مذهبهم مذهب السابقين في إبطال صريح العقل وتسفيه الأحلام.

والثالث: قوم ذهبوا إلى الأخذ بالسنن والأخبار ما لم يقع بينها وبين القرآن تعارض، فهذا قول صحيح في ظاهره، أسيء استعماله عند التطبيق، اتخذوه ذريعة للانسلاخ مما يخالف أهواءهم وشهواتهم ورسومهم من منارات الهدى وشعائر الحق والمعرفة، فكم من أخبار ثابتة أنكرها هؤلاء الجهلة الأغبياء زاعمين أنها معارضة للقرآن الكريم، ولو أنهم أنعموا النظر فيها أو ردوها إلى أولي الألباب والنهى لعلموا أن آيات الكتاب وسنن النبي المختار يصدق بعضها بعضا في غاية من التوافق والانسجام، فإما أساؤوا فقه القرآن أو عجزوا عن فهم السنة، أو تقاصروا في الأمرين جميعا معتدين ومقصرين.

والرابع: علماء صالحون من أهل السنة والجماعة عظموا السنة تعظيما تستحقه، وبالغوا فيه مبالغة كبيرة أحيانا فجاوزوا بعض الحدود في شدة إجلالهم للسنن والآثار والأخبار، وعدلوها بكتاب الله تعالى قولا أو تعاملا، حتى سموا القرآن والسنة أصلين، وقال بعضهم: "إن السنة قاضية على الكتاب"، وقال آخرون: "إن القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن"، أخطأوا في التعبير فأخطأوا في المدلول، وقد أدى ذلك إلى إحداث تغيير في بعض تفاصيل الدين، وقلب أولوياته.

قالوا: من هؤلاء العلماء الذين عنيتهم؟

قلت: إن احترامي لهم يمنعني من أسميهم، وإني لأكره أن يسيء الخلق الظن بعلمائنا فيحرموا الاستفادة منهم.

قالوا: ائتنا بأمثلة من الأخطاء التي وقعوا فيها بجعل القرآن والسنة أصلين ومتعادلين متساويين

قلت: إن الأمثلة كثيرة، ولكن لا ترضى نفسي بأن أعرضها، فإن ذلك بمثابة تسمية القائلين بها.

قالوا: ألا ترى أن الأمثلة تساعد في شرح موقفك وتعزيزه؟

قلت: بلى، ولكن أمهلوني حتى أرى ما هو الأنفع للمسلمين، بيانه بالأمثلة أم تركه مجملا مبهما؟

قالوا: استغربنا أن تبلغ بك الجرأة أن تطعن في أئمة الإسلام، وهم سند الدين وردؤه.

قلت: أعوذ بالله من أن أنكر فضلهم أو أنال منهم أو أغض من شأنهم، فإني والله لأحبهم من صميم قلبي، وإن حبهم من الإيمان، وأدعو الله تعالى أن أكون في زمرتهم وأحشر معهم، فهم من خيار خلق الله تعالى، ومن الصالحين البررة، رضي الله عنهم ورفعهم درجات، ولكنهم غير معصومين، وهم الذين علَّمونا أن كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وأن الحق أحق أن يتبع.

قالوا: فما هو الموقف الصحيح إذن؟

قلت: هو الآتي.

والخامس: مذهب الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء المحققين، وهم ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين، آمنوا بأن القرآن محكم، وله تفصيل وبيان تكفل القرآن نفسه بهما، وقد ورد بعض التفصيل والبيان في السنن، وقرروا أن القرآن أصل والسنة فرع، وأن القرآن أمور كلية والسنن أمور جزئية، فالنسبة بين القرآن والسنة هي النسبة بين المحكم والتفصيل، والنسبة بين الأصل والفرع، والنسبة بين الكلية وجزئياتها.

قالوا: أي مذهب من بين هذه المذاهب تختاره؟

قلت: الواجب علي وعلى من عقل هذا الدين هو اختيار القول الخامس، وهو القول الصحيح، وهو الموصى به في القرآن والسنة، وهو الذي عليه الصحابة والتابعون، وهو المدعوم بالعقل السليم والفكر الصائب والنظر الدقيق.

قالوا: ما موقفك من السنن والأخبار التي تعارض كتاب الله تعالى؟

قلت: لا تعارض أبدا بين كتاب الله تعالى والصحيح الثابت من السنن والأخبار.

قالوا: ألم يتعارض الخبر الصحيح "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، مع قوله تعالى "فاقرأوا ما تيسر منه"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" مع قوله تعالى "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع بين المرأة وخالتها، وبين المرأة وعمتها"؟ مع قوله تعالى "وأن تجمعوا بين الأختين"، والأمثال كثيرة.

قلت: لا تعارض، ولم ينشأ التعارض إلا من أجل قلة النظر، والتسرع في الحكم، وعدم وضع القرين مع القرين، والنظير مع النظير، وعدم الفصل بين المتخالفين وبين المتفرقين.

قالوا: فما رأيك في هذه الأمثلة التي سردناها وما شابهها من القضايا والمسائل

 قلت: سأفرد بيانها في مقال، والزموا الصبر والتأني في اكتساب العلم إن كنتم إلى مقام التحقيق ساعين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين