ملك العلماء وفارس الفقهاء الإمام المبدع صاحب البدائع الكاساني الحنفي الحلبي

إنه الإمام علاء الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني ، أو القاشاني نسبة إلى كاسان أو قاشان ، بلدة تقع في بلاد ماوراء النهر وتسمى الآن بقازان في جنوب شرق أوزبكستان ، وقد وُلد بها الكاساني لأُسرةٍ تنتمي لدار الإمارة بها ، 

اجتهد في طلب العلم من صغره ، فحفظ القرآن والمتون وارتحل بعدها إلى بخارى ، وقصد شيخها وعالمها الكبير في ذلك الوقت وهو الإمام "علاء الدين السمرقندي" ، فتتلمذ على يديه وقرأ عليه معظم تصانيفه كالتحفة في فقه الأحناف ، وشرح التأويلات في تفسير القرآن وغيرها من كتب الفقه والأصول والحديث والتفسير ، لكنه برع وتعمق في علمي الأصول والفروع وزوَّجه أستاذه "السمرقندي" ابنته فاطمة ، وكانت من حِسان النساء عالمة فقيهة ، أخذت العلوم والفقه عن أبيها ، وحفظت بعض كتبه كالتحفة وغيرها ، وكان قد تقدم للزواج منها جماعةٌ من ملوك وأمراء الروم ، فامتنع والدها عن تزويجها بواحد منهم ، ولما جاء الكاساني ولزم والدها ، وتعلم على يديه وبرع في الفقه أصولا وفروعا ، وصنف كتابه الذي تألق فيه وأبدع وسماه "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع "وهو شرح لكتاب شيخه التحفة ، والذي هو شرح لكتاب لمختصر القدوري ، وعرض الكاساني كتابه على شيخه فسُر به كثيرا وأُعجب به فكافأه بتزويجه من ابنته فاطمة ، وجعل مهرها ذلك الكتاب فقال فقهاء عصره وقتها : (شرح كتابه وتزوج ابنته). وكان الكاساني يُقَدر زوجه ويجلها ويكرمها ويأخذ برأيها في المسائل والفُتيا ، وإذا عرض شئ من الوهم كانت ترده إلى الصواب وتخبره بوجه الخطأ فيرجع إلى قولها، ولذلك كانت تخرج الفتوى وعليها توقيعها وتوقيع والدها وزوجها ،

أما عن شيخه وصهره السمرقندي ، فقد كان علاء الدين الكاساني يحترمه ويجله ويقول فيه : أستاذي الشيخ الأجل الزاهد الورع علاء الدين السمرقندي إمام أهل السنة -- رضي الله عنه -- وظل هكذا حتى لقي شيخه ربه عام 450 للهجرة .

أما عن تلاميذ الكاساني فهم كُثر من أشهرهم القاضي جمال الدين الغزنوي ،

وجمع الإمام الكاساني بين الفقه والأصول والحديث والتفسير ، وكان ينشد الشعر كذلك فمن أشعاره التي وجدت على ظهر نسخة من كتابه البدائع 

سبقنا العالمين إلى المعالي بصائب فكرة وعلو همة 

ولاح بحكمتي نور الهدى 

في ليال بالضلالة مدلهمة 

يريد الحاسدون ليطفئوه 

ويأبى الله إلا أن يتمه. 

كان الكاساني فقيها حنفيا متضلعا في مذهبه ، وعلى دراية عميقة بمنهج الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان والأئمة الآخرين كذلك .

وبعدما ذاع صيته وقويت شهرته وعُرفت مكانته في بخارى وغيرها من المدن المجاورة ، غادر بخارى مع زوجته إلى بلاد الروم -- وهي التي كان يطلق عليها في ذلك الحين دولة السلاجقة والتي بسطت نفوذها على جزء كبير مما نعرفه اليوم بتركيا --

وكان سلطانها وقتها هو السلطان مسعود بن قلج أرسلان السلجوقي الذي كانت بينه و بين نور الدين محمود زنكي في حلب علاقة محبة ومودة وتعاونا سويا لطرد الصليبين من بيت المقدس ، وعندما قَدم الكاساني على السلطان السلجوقي وجد لديه القبول والإحترام والتقدير ، خاصة وأن الكاساني سليل إمارة ولديه كما وصفه ابن العُديم : نخوة الإمارة وعزة النفس ، فكان فارسا يركب حصانه إلى أن مات وله رمح يصحبه في حله وترحاله .

كان الكاساني صاحب علم غزير ، متمكنًا من علمه، معتزًا بنفسه، وذات يوم جرت مناظرة بينه وبين الفقيه الشعراني — وهو من كبار فقهاء الدولة السلجوقية — " في "مسألة المجتهدَين"، هل هما مصيبان أم أن أحدهما مخطئ؟ فقال الشعراني: "المنقول عن أبي حنيفة أن كل مجتهد مصيب". فرد الكاساني قائلاً : "لا بل الصحيح عن أبي حنيفة -- وكان الكاساني خبيرا بمذهب إمامه -- أن المجتهدَين مصيب ومخطئ ، والحق في جهة واحدة ، وإن ما تقوله هو مذهب المعتزلة". وكان الكاساني صاحب غيرة على الدين ، فلما اشتد الكلام بينه وبين الشعراني رفع عصاه ، وأشار بها إلى الشعراني زاجرًا إياه على موقفه، ومصرًا على إثبات الحق الوارد عن أبي حنيفة. ولما علم السلطان السلجوقي الخبر انزعج لذلك ؛ لأن في هذا زعزعة لسلطة الدولة ، لاسيما أن الشعراني هو فقيه الدولة ، ورمز احترامها ؛ لكن الكاساني لم يخش في الحق أحدًا ، ولم يرهب قوةً، واعترافًا من السلطان السلجوقي بمكانة الكاساني لم يقل له شيئًا، واحتار في الأمر، فاحتال وزيره في إخراج الكاساني، وقال للسلطان : أرسله إلى نور الدين محمود ، وبذلك تتخلص منه، فأرسله السلطان رسولاً إلى نور الدين محمود في حلب ،

ولما وصل الكاساني لحلب التقاه الملك نور الدين محمود زنكي ببشر وترحاب وأكرم وفادته وقدره وأعجب به وبعلمه ، وكذلك فقهاء حلب الذين اجتمعوا عليه وطلبوا من نور الدين أن يوليه مهمة الإشراف والتدريس في المدرسة الحلاوية ، فعرض عليه وقبل العرض ، لكنه طلب رسولا يذهب إلى السلطان السلجوقي يستأذنه ثم يعود بعد ذلك إلى حلب كي يتولى مهمة المدرسة والتدريس بها ،

ولما دخلها وصدر القرار بتعينه بسطت له سجادة التدريس التي يجتمع حولها الفقهاء وطلاب العلم للأخذ عنه وزاد نور الدين محمود في إكرامه فولاه رئاسة زاوية الحديث والتدريس بها بالمسجد الجامع ، تقديرا له وعرفانا بفضله وعلمه ، وعندما مرض الإمام الكاساني بالتهاب المفاصل أو مايسمى بالنقرس كان نور الدين محمود زنكي يعوده في منزله ؛ حيث كان في كثير من الأحيان لايقوى على الحركة ،

شهد له علماء عصره بالفضل والعلم حتى قال عنه الإمام البصراوي : كان الكاساني لايركب إلا الحصان فلا يعتلي الفرس إلا فارس .

وكان الأمر مستغربا من الشيخ الكاساني لأن المعروف وقتها أن الفقهاء يركبون البغال والحمير تواضعا ، أما الخيول فكانت مركب الأمراء والجنود لكن الكاساني كانت له وجاهة وخدمة وشجاعة مع علمه وفقهه ، وكان رمحه لايفارقه ،

وكان حريصا على العلم والتعلم لايمنعه عنه مانع ودليل ذلك أنه لما اشتد به المرض كان يطلب ممن حوله من تلاميذه ومحبيه أن يحملوه في محفة -- وهي الهودج -- ويخرج لإلقاء دروسه فلا يمنعه المرض من أداء واجبه التعليمي ، ويقال : إنه ماتخلف عن دروسه حتى مات ،

ويعد كتابه بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع : أحد أهم الكتب التي تهتم بفروع الفقه الحنفي مع اشتماله لأراء المذاهب الأربعة وذكر الخلاف بين الفقهاء الأحناف وغيرهم من فقهاء المذاهب الأخرى ، ويستدل لكلٍ بإيجاز ، ثم يرجح مذهب الأحناف مع التدليل عليه بشئ من التفصيل ويعبر عن رأي مذهبه بلفظ : ( لنا )

ويمتاز كتابه البدائع بلغته السهلة ، والاستشهاد بالأحاديث لما يورده من أحكام ،

وقد أثنى على كتابه أهل العلم قديما وحديثا حتى قال عنه الشيخ الفقيه مصطفى الزرقا -- رحمه الله-- : إن البدائع أعظم ماكتب في فقه الأحناف .

توفي الإمام الكاساني رحمه الله في يوم الأحد العاشر من رجب عام 587 للهجرة ، ودفن بمقبرة خصصت للأحناف بظاهر حلب إلى جانب زوجته فاطمة بنت شيخه السمرقندي ، والتي توفيت قبله بست سنوات ، ومما يروى عنه حال وفاته أنه شرع في قراءة سورة إبراهيم حتى وصل إلى قول الله -- عزوجل -- : (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة )ففاضت روحه إلى بارئها 

رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته ، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا ،

وجزاه الله وسائر العلماء العاملين خير الجزاء على ماقدموه للإسلام والمسلمين وخدمة العلم والدين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين