الطِّــــــبُّ والطِّـــــباخة (1) الطّباخة والطبّاخ في كتب اللغة والتاريخ

في هذا المقال سأحاول تسليط الضوء على العلاقة بين الصّحة ونوع الغذاء الذي يتناوله الإنسان، وذلك من خلال التعريف ببعض كتب الطِّـــــباخة في التراث العربي.

تمهيد:

لأهمية الغذاء في حياتنا، ودوره في الحفاظ على الصحة العامة، اهتم الأطباء والحكماء بالحديث عنه، ولأهمية الغذاء أيضاً كان الخلفاء والأمراء والسلاطين يقيمون في قصورهم من يشرف على إعداد الطعام، وكان يطلق عليه في العصر المملوكي (الأستادار) وهو الأمير المسؤول عن رعاية بيوت السلطان وشؤونه الخاصة والإشراف على مطبخه والعاملين فيه(1).

الطَّبخ: 

هو إنضاج اللحم وغيره اشتواء واقتداراً، والمَطبخ: هو الموضع الذي يُطبخ فيه، وقيل: بيت الطَّباخ، والمِطبخ بالكسر الميم: آلة الطّبخ. والطَّبَّاخ: مُعالج الطّبخ، وحرفته الطِّباخة. والطَّاهي: الطَّبَّاخ، وقيل: الشَّوَّاء، وقيل: الخَبَّاز، والجمع طُهاة وطُهِيّ؛ قال امرؤُ القيس: فظَلَّ طُهاةُ اللَّحم مِن بَين مُنْضِج ... صفِيفَ شِواء، أو قَدِيرٍ مُعَجَّل، وفي حديث أمِّ زَرع: وَمَا طُهاة أبي زَرْع. والاقتدار: الطَّبخ في القِدْر، والقَدير: ما يُطبخ فيها، وقيل: القدير: ما طُبخ من اللَّحم بتوابل، فإن لم يكن ذا توابل فهو طبيخ، والقُدار: الطَّبَّاخ، وقيل: الجزَّار(2). والطِّباخة: هي حرفة الطبّاخ (لسان العرب).

علم الأطعمة والمزوَّرات: 

هو من فروع علم الطبّ، وهو «علم باحث عن كيفية تركيب الأطعمة اللذيذة والنّافعة بحسب الأمزجة، ولا يخفى أنه صناعة الطّبخ»(3). 

من خزائن الخلفاء «خزانة الطُّــعْم وخزانة الشّراب»: 

ذكر القلقشندي أن للخليفة ثماني خزائن، الأولى خزانة الكتب، الثانية خزانة الكسوة، الثالثة خزانة الشراب، الرابعة خزانة الطُّعم، الخامسة خزانة السروج، السادسة خزانة الفرش، السابعة خزانة السلاح، الثامنة خزانة التجمّل.

أما خزانة للشّراب: فكان فيها من أنواع الأشربة والمعاجين النّفيسة، والمربّيات الفاخرة، وأصناف الأدوية والعطريات الفائقة، وفيها من الآلات النفيسة والآنية الصّيني من الزبادي والصحون والبراني والأزيار ما لا يقدر عليه غير الملوك.

وأما خزانة الطّعام: فكانت تحتوي على عدة أصناف من جميع أصناف القلويات، من الفستق وغيره، والسُّكر والأعسال على أصنافها، والزّيت والشمع، وغير ذلك(4).

صاحب الطَّعَام والشراب: 

ذكر العلماء - فيما يخصّ الملك من الأتباع والأنواع ولا يستغني عنهم- اثنا عشر أمراً، هي: وزير عالم، وكاتب عارف، وحاجب عاقل، وقاض ورع، وحاكم عادل، وعامل جلد، ومال ومتوفر، وربّ شرطة، وجند أقوياء، وحكيم مجرّب، وجليس صالح، وصاحب الطّعام والشراب، ثم قال عن صاحبِ الطَّعَام والشراب: 

ينبغي أن يكون ثِقةً، مُؤتَمنًا، عاقلاً، حرًّا، مُجِلاً للمَلِك، مُجتهدًا في رضاه.

وأن يتلطَّف في مَنع المَلِك عن بعض المطاعم التي لا تُوافقه، ويعرّفه وجه المصلحة في تركها.

وأن لا يعرضَ عليه طعامًا عرضه مرَّةً قبلها، بل يصرفه في الوجوه الجميلة.

ولا يكون بخيلاً، ولا مُضيِّعًا وينبغي أن يتصفَّح المطبخ أول الأوقات وآخرها لأجل الغداء والعشاء.

وليَتَفقَّد الطَّعام والشَّراب في كلِّ ساعة، حتَّى الملح والخلَّ وأشباههما.

وليكثر مُراعاة الآلات، فإنَّ رائحة الطَّعام وجودة عَرْفِه، وحُسن تنضيجِهِ يَفـتُق الشَّهوة "العَرْف: الرّيح، طيّبة كانت أو خبيثة".

ويجب أن يكون خبيرًا بتنصيص الألوان وترتيبِها وأوقاتها، ليختار لكُلِّ فصل ما يليق به.

وأن يكون عارفًا بما يُجلَب من البلاد من المطاعم والمشارب والجيِّد مـنها والمغشوش.

وأن يكون عالماً بأدب المجلس، بصيراً بتعبيته، وبحسن أوانيه.

ويجب أن يكون عالماً بما يهوى الملك من الأطعمة والأشربة، فيبالغ في تحسينه وتجويده (5).

ينبغي للأمير أن يكون له طبّاخ حاذق:

عن الأصمعي قال: قال ملك طخارستان لنصر بن سيّار: «ينبغي للأمير أن يكون له ستة أشياء، وزير يثق به ويفضي إليه بسرّه، وحصان يلجأ إليه إذا فزع أنجاه، يعني فرساً وسيفاً إذا نازل به الأقران لم يخف أن يخونه، وذخيرة خفيفة المحمل، إذا نابته نائبة أخذها، وامرأة إذا دخل إليها أذهبت همّه وطبّاخ إذا لم يشته الطعام صنع له شيئا يشتهيه» (6)، إلا أنّ ثابت بن قُرةّ يرى أنّه (7): «ليس شيء أضرّ بالشيخ من أن تكونَ له جارية حسناء، وطبّاخ حاذق؛ لأنه يُكثر من الطعام فيَسقَم، ومن الجماع فيَهْرَم».

كشاجم يصف طبّــاخاً:

كتب كشاجم (8) إلى بعض إخوانه يصف طباخاً، فقال: «كان عنوانَ النّعمة، وترجمان المروءة، وواسطة القلادة، فلَهفي عليه، فلقد كان قوام جسمي، وزيادة شهوتي، وممتع زوّاري وأضيافي، أحذق أهل صناعته، وأبينهم فضلاً، وأرهفهم سكيناً، وأعدلهم تقطيعاً، وأذكاهم ناراً، وأطيبهم يداً، ما أكاد أقترح عليه شيئاً إلا وجدته قد سبقني إليه، معبّ للموائد، ملبك للثرائد، مع كل حار وبارد، كأن مائدته رياض مزخرفة، أو برود مفوّفة، مرتّب للألوان، منظف للخوان، لا يجمع بين شكلين، ولا يوالي بين طعامين، ولا يغرف اللون إلا وضدّه، ينضج الشواء، ويحكم الحلواء، ويخالف بين طعام الغداء والعشاء، يكتفي باللحظة ويفهم بالإشارة، ويسبق إلى الإرادة، كأنه مطّلع على الضمير من الزائر والمزور (9).

وصف مطبخ الوزير أبي الحسن ابن الفرات:

رفع صاحب خبر ابن الفرات إليه أن رجلاً من أرباب الحوائج اشترى خبزاً وجبناً فأكله في الدهليز، فأقلقه هذا، وأمر بنصب مطبخ لمن يحضر من أرباب الحوائج، فلم يزل ذلك طول أيامه، وقد وصف الصّابي مطبخ الوزير أبي الحسن ابن الفرات، فقال: «وكان لأبي الحسن بن الفرات مطبخان في داره ، فأما مطبخ الخاصّة الذي يطبخ فيه فلا أحصى ما كان يدخله من الغنم والحيوان لكثرته، وأما مطبخ العامّة المرسوم بما يقدم إلى خلفاء الحجاب المقيمين في الدار ويغرف منه للرجالة والبوابين وأصاغر الكتّاب وغلمان أصحاب الدواوين، فكان يستعمل فيه في كل يوم تسعون رأساً من الغنم، وثلاثون جدياً، ومائتا قطعة دجاجاً سماناً، وفراريج مصدرة، ومائتا قطعة دُرّاجاً، ومائتا قطعة فراخاً، وهناك خبازون يخبزون الخبز السّميذ - أي الدّقيق الأبيض- ليلاً ونهاراً، وقوم يعملون الحلواء عملاً متصلاً، ودار كبيرة للشراب، وفيها ماذيان يجعل فيه الماء المبرد، ويطرح في الثلج كدراً، ويسقى منه جميع من يريد الشرب، الرجّالة والفرسان والأعوان والخُزّان، ومن يجري مجري هذه الطبقة من الأتباع والغلمان، ومزمّلات فيها الماء الشديد البرد، وبرسم خزانة الشراب خدم نظاف، عليهم الثياب الدّبيقية السرية، وفي يد كل واحد منهم قدح فيه سكنجبين أو جلاب ومخوض، وكوز ماء ومنديل من مناديل الشراب نظيف، فلا يتركون أحداً ممن يحضر الدار من القواد والخدم السلطانيين والكتّاب والعمال إلا عرضوا ذلك عليه» (10). يتبع...

====-

1- أبجد العلوم: القنّوجي (2/78)، المزوّرات: حساء من الخضر، دون الحم أو دسم أو البهريز، يعالجون فيها المرضى، مجلة الرسالة، العدد (782).

2- صبح الأعشى: القلقشندي، ط. دار الفكر بدمشق، 1987، بتحقيق د. يوسف علي طويل (3/ 546).

3- سلوك المالك في تدبير الممالك: لابن أبي الربيع، ط. دار الشئون الثقافية، ببغداد، (ص: 205) بتحقيق د. ناجي التكريتي.

4- روضة العقلاء ونزهة الفضلاء: أبو حاتم البستي، دار الكتب العلمية، بيروت، بتحقيق: محمد محي الدين عبدالحميد (ص: 269).

5- ثابت بن قرة الصابئ، أبو الحسن (ت: 365 ه) طبيب مؤرّخ، خدم الخليفة الراضي والمتقي والمستكفي والمطيع. الأعلام (2/98).

6- كشاجم: محمود بن الحسين، أبو الفتح الرملي (ت: 350 هـ) شاعر، من كتاب الإنشاء، فارسي الأصل، قيل: كان - في أوليته- طباخاً لسيف الدولة. الأعلام: للزركلي (7/ 167).

7- البصائر والذخائر: التوحيدي (1/ 86).

8- تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء: أبو الحسن، الهلال بن المحسن الصّابي، بتحقيق: عبدالستار فراج، ط. مكتبة الأعيان (ص: 215). الماذيانات: قال ابن الأثير: جمع ماذيان، وهو النهر الكبير، وليست بعربية. وفي القاموس: الماذيانات، وتفتح ذالها: مسايل الماء، أو ما ينبت حول حافتي مسيل الماء، أو ما ينبت حول السواقي، والمراد هنا: إناء للماء. والسِّكَنْجَبِين: كلمة فارسية معرّبة، وهي مركبة من (سِك) و(نكَبين) أي خلّ وعسل، ويراد بها كل حامض وحلو. ينظر (الألفاظ الفارسية المعربة) لأدَّشير الكلداني (ص: 92). 

9- الفهرست: لابن النديم (ص: 440) ط. دار المعرفة، بيروت، ثم ذكر غيرهم في مواطن متفرقة، مثل: نطاحة، أحمد بن إسماعيل بن الخصيب الأنباري، كاتب عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وابن خرداذبه، عبيد الله بن أحمد، ويحيى بن أبي منصور الموصلي.

10- جوارشن: نوع من الأدوية المركبّة، يقوّي المعدة ويهضم الطعام، قال في النهاية: وضبط (جوارشن) بفتح أوله غير منوّن، وليست اللفظة عربية، وقال شارح القاموس: بضم الجيم. تصحيح لسان العرب: محمد نعمان خان (ص: 35).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين